ادب وفن

عن رواية «الصيحة» / سعاد العنزي*

"الصيحة" هي رواية لكاتبة عمانية شابة وأكاديمية لها عدد من المقالات الرصينة والمتمكنة من مفاهيم الأدب وجمالياته، حاولت أن توظفها في عملها الإبداعي هذا المنبثق من مرجعية دينية إسلامية عامة وشيعية خاصة.
العنوان نفسه ينطلق من مرجعية دينية تنبؤية مستقبلية حول نهاية الكون من وجهة نظر دينية، وفق إشارات معطاة مسبقة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسيرات لاحقة له. فالعنوان مكون وذو دلالة مباشرة، صيحة يسمعها جميع من في العالم في وقت واحد يثير الشك والريبة والحيرة إزاءه، فما هو مصدر هذه الصيحة، وما الهدف منها، وخطورتها؟ كلها أسئلة كانت تدور حولها رواية الصيحة بـ 228 صفحة من القطع المتوسط، بساردها الخارجي كلي المعرفة ذي الرؤية الخارجية، ولغة سردية بسيطة ومباشرة تميل للتقريرية المباشرة، رغم تقليدية التقنيات ?لسردية المستخدمة، احتفظت بجمالية التشويق السردي وتتابع السرد بكثرة الأحداث وتعاقبها بطابع السرد التحقيقي والاكتشاف حتى الثلث الأخير في الرواية حيث بدأ استخدام الفلاش باك والاستباقات التنبؤية تظهر بشكل جلي في العلاقات الزمنية في السرد. فمن الاسترجاع عودتها للزمن الماضي عندما كان زوجها أحمد المحتجز عند الشرطة الأمريكية في مدينة جولان وتنعم برفقته والأمان بصحبته في الحي الهادي، لترصد المفارقة الزمنية بين زمنين إنسانيين الراصدة لزمنين نفسين، أتت عليها الصيحة وباعدت بينها وبين كثير من المحيطين لها في المركز الس?ني المأهول بالناس، وبذات الوقت كشف الاسترجاع تحول وتبدل أخلاقيات بعض الأمريكيين في التعامل معها على اعتبار انها مسلمة إرهابية وفق "البروباقندا" الغربية التي تصم كل مسلم. ومن الاستباق تكرار ابنها يوسف بان أباه نجح في الاختبار، وسيعود، وهو ما تحقق في نهاية الرواية كما سنرى بعد قليل.
الصيحة انطلقت من مدينة لوجان الأمريكية بالليلة الثالثة والعشرين من رمضان، حيث أثارت الريبة وبدأت كثير من التحقيقات الاستكشافية لكنه هذه الصيحة، مما جعل الكثير من أهل القرية بمرجعياتهم الدينية المتعددة يحاولون اكتشافها والبحث عن أصلها في خلفياتهم الدينية. فمن وجهة نظر إسلامية سنية تقول ان المهدي المنتظر هو محمد بن الحسن بن فاطمة بنت النبي، أو ابن الحسين وفق المرجعية الشيعية، إلى وجهة نظر مسيحية تقول بأن هذه الصيحة هي صيحة المخلص النبي عيسى عليه السلام، تأتي وجهة النظر اليهودية التي تسميه نفس المخلص المسيا أ? الماشيح. هنا في هذه الرواية كشفت الكاتبة بحيادية خالصة عالمية التصورات الدينية المتقاربة عند الديانات المختلفة، واستطاعت ان تجسر الفروقات البسيطة وتقرب بين ما تعتقده الشعوب بانه تباعد، ففي كل دين هناك أساسيات وأصول مشتركة، وطابع وحدة وتجانس مع اختلاف بعض الطقوس والتفاصيل الهامشية. لذا أراها وفقت في هذا الأمر، ولكن هذا لا يلغي أبدا انها في نهاية العمل انتصرت لرؤيتها المرجعية الإسلامية الخاصة، التي قد تثير القارئ المغاير لها في المرجعية كونها احتكرت الحق لدين واحد، تنطلق منه الديانة الإسلامية، ولا أعتقد لو ?ان هناك كاتب يهودي أو مسيحي سيجعل الصيحة علامة إسلامية بل سيحولها إلى دينيه إنْ كان مؤمنا، أو لينقلب عليها بتهكم شديد إنْ كان ملحدا.
حقيقة، قبل الكتابة عن الرواية وبعد فراغي من قراءتها، تساءلت هل هناك ما يدفعني للكتابة عن العمل، لم أجد الدافع القوي للكتابة عنها، ولكنني حاولت تبني وجهة نظر الكاتبة، وحقها في التعبير عن توجهها الديني الذي نشترك كمسلمين فيه، ولكني لا أميل للحديث عن الجانب الديني بصورة دعوية بقدر ما هو مناقشة لتصوراتنا للدين ولأي حد تكون السلطة الدينية مغلوطة الفهم تشكل آلة قمع بواسطة الوسيط والمفسر للدين. للكاتبة حق التعبير عن توجهها، ولكن من سيقرأ هذا العمل هو من يشاركها بهذا التوجه الديني والإيمان ولمن لديه فضول لتتبع هذه?الموضوعات. وهي انطلاقة مشروعة وجيدة للتفكير بالتصورات الدينية الموجودة وتقديم رأينا بها إما داعمين لها أو معارضين أو مستوعبين على أقل تقدير شريطة ان نحسن الانتقال من أيديولوجيا الدين إلى أيديولوجيا العمل الأدبي نفسه.
فأنا كقارئة كنت أتمنى لو توغلت الكاتبة في كشف وجهة النظر الإسلامية في المشرق بدلا من الاكتفاء بالأوساط الثقافية الأمريكية، ولو توغلت بتفاصيل سردية أكثر عن ماضي الشخصيات وخلفياتها، وعن واقع العلاقات بين المسلمين أنفسهم كسنة وشيعة، أيضا لم نتعرف على طبيعة القلقلات التي ستحصل بخلاف تبدل التعايش الديني بين الشعوب المتعايشة إلى صراع ديني، وتحول الهويات من مسالمة إلى قاتلة، فأمسى من لا يصدق بالصيحة هو عدو من يؤمن بها. كذلك بدر سؤال آخر هو لم تم القبض على زوجها من دون الآخرين على الرغم من إيمانهم بالصيحة إلا إذا ?ان زوج لمياء هو المهدي المنظر؟ لأن الرواية تنتهي بقول يوسف:" ـ أماه انظري.. الحافلة الخضراء.. لقد نجح والدي في الامتحان.. هيا لاستقباله".
لذا كانت الصيحة رمز من خلاله كشفت الرواية تبدل العلاقات الإنسانية، وحاولت من خلاله التدليل على بعض التصرفات اللاإنسانية للغرب اتجاه الأسر المسلمة، وان الغرب ليس عالما متفوقا بإنسانيته بل هو عالم مشابه لنا فيهم الإنساني وفيهم العنصري المتطرف، وهذه واحدة من محاسن الرواية. والهدف العميق هو تبشير ديني بظهور المهدي ليصلح أحوال البشرية مع تأكيد جامع للرؤية الإسلامية للحدث وليس وفقا للانقسام بين المذهبين السني والشيعي، كما يتضح بلغة السرد المستبشرة:
"وقبل ان ترد لمياء عليه لاح لها في الأفق البعيد من جهة الشمال الشرقي نور ساطع بدأ يتسلل بالتدريج، وبموازاة النور الساطع كانت أصوات خارج البيت تنادي باسم محمد المهدي. أطلت لمياء ومن خلفها أولادها لترى جمعا من الجيران قد اجتمعوا من حول شقتها، وعلى أثر ذلك النور بدأت تلك الغيوم السوداء التي ظلت تحبس عنهم نسمات الأمل اللامتناهي تنتكس ليعلو صوت في السماء العالية:
ـ بشراكم فقد ظهر المهدي".
طرح الكاتبة للموضوع حق مشروع لها، ولكني لا زلت أتساءل ماهي القيمة التي ستعود لقارئ الرواية بخلاف إثارة مشاعر الخوف والرهبة لدى القارئ بالتزامن مع أحداث الرواية الحزينة، وفضح بنية التضاد المانوية في الخير والشر، الـ "مع" و الـ "ضد" بين الفرق المؤمنة والملحدة، والتأكيد على بعض القيم الإيمانية كالصبر والثبات وقوة الإرادة.
ــــــــــــــ
* أكاديمية وناقدة كويتية