ادب وفن

رواية "كاباريهت" لحازم كمال الدين في إحتفائيةٍ متميِّزة.. / ضياء الجنابي

في وهدة مساءٍ خريفيٍ جميلٍ متوشحٍ بالسكون، كانت القاعةُ المتواضعةُ التابعةُ لبلديةِ (دُرنة) في مدينةِ أنتويربن البلجيكيةِ، على موعدٍ مع رياحٍ تحمل على جنحيها عبق الإبداع، وفي فضاءٍ ثقافيٍّ يطفحُ بالحميميةِ، تمَّ الاحتفاءُ والاحتفالُ في اليومِ الخامسِ من شهرِ أكتوبر 2014 م بصدورِ روايةِ "كاباريهت" للروائيِّ والمخرجِ والمؤلفِ المسرحيِّ د. حازم كمال الدين، التي تتناول الواقع العراقي برؤية سردية حداثوية وباسلوب فنطازي ساخر وتسعى إلى توثيق ذاكرة لبغداد تتمازج فيها حدَّ التداخل والذوبان صورٌ مختلفة للحروب والدمار والدم من جهة، وفي الجهة أخرى صورٌ تتعنقد المعاناة فيها عبر منتج الفنانين والمثقفين العراقيين وتصطدم بكتل الكونكريت الصماء التي تشتت مدينة بغداد وتشرذمها إلى كانتونات متنافرة تحكمها الممارسات الطائفية والجهوية المتخلفة التي فرضت عليها منذ عام 2003 م.
رواية "كاباريهت" تقذفنا في جوٍ مشحونٍ بالوجع وتجعلنا في مواجهة أسئلة مريرة وصعبة لواقع مؤلم تسوده الفوضى والتصرفات الغير شرعية يعاني من نكوص القانون واضمحلال الانتماء للوطن بعد أن تسيدت الموقف انتماءاتٌ بديلةٌ هشّةٌ وسقيمةٌ وغريبةٌ في ذات الوقت على الجسد العراقي المثخن بالجراح، إنتماءاتٌ من شأنها إشاعة الرعب والجريمة والمخاوف المتبرعمة في النفوس لتأسيس حالة الضياع الذي يحاولون تأويله بأجنداتهم المتهرئة المرتبطة بدوائر وجهات مشبوهة.
كان الحضورُ في هذه الامسية متميزاً واستثنائياً كتميّز الرواية واستثنائيتها حيث حضرت كوكبةٌ من المثقفين العراقيين والعرب والبلجيكيين من داخل بلجيكا وخارجها، وتم فيها عرض تقديمين مهمين عن الرواية، التقديم الأول كان للشاعر مهند يعقوب والثاني للشاعر ماجد مطرود، كما استفاض مدير الاحتفالية ضياء الجنابي في تقديم المؤلف على الصعيدين الروائي والمسرحي، وخلال الأمسية تم عرض فلمين، الأول من إخراج حازم كمال الدين موسوماً بعنوان "الجدار" والثاني عبارة عن ريبوتاج عن أحد أعمال حازم كمال الدين المسرحية وهو من إخراج السينمائية العراقية بافي ياسين.
ومما جاء في تقديم ضياء الجنابي للمؤلف: (اجتمعنا من أجل نسف السياقات الطبيعية والتقليدية للفعل الابداعي كما عودنا حازم كمال الدين في كل منجزه الذي رفض جميع الأنماط التقليدية المطروقة والمتبعة حتى وإن كانت حداثوية، لأنه يعتقد أن الحداثة عندما تنجز فإن بعدها حداثة أخرى يشرأب عنقها للتحقق، وهو بذلك باحث عن الحداثة وما بعد الحداثة وباحث عن الطرق غير المطروقة وغير المستهلكة في كل انجازاته الابداعية، ليس على صعيد فعل ابداعي محدد فحسب، لأنه شاعر وقد لا يعرف البعض منكم أنَّ حازم كمال الدين شاعر ونال جوائز في هذا المضمار منذ نعومة أظفاره، وهو مسرحي وأنا لا أعطيه صفة معينة في هذا المضمار، لأنه علمٌ في رأسهِ نارُ وعمدٌ من أعمدة المسرح البلجيكي حيث يعتبره البلجيكيون عماد في فنهم وفي وسطهم الفني ومشهدهم الثقافي، ولكنَّ جذوره في الوقت نفسه موغلةُ في تراب ورمال النهرين يتقصى كل ذرة وكلَّ حبة من هذه الرمال الموغلة في التاريخ وفي البناء الحضاري لكي يفجرها ابداعا ويوصلها إلى المتلقي على الساحتين المحلية والعالمية.)
وجاء في تقديم الشاعر مهند يعقوب للرواية مانصه: (لا تدعي هذه الورقة البسيطة الاحاطة بكل ما جاء في عمل الصديق المبدع حازم كمال الدين "كاباريهت" بل هي اشارة متواضعة للسطح..
الذي يقرأ هذه الرواية باهتمام سيجد أنها عملا لا يقوم به إلا كاتب حاذق يملك عين فنان لا تخطئ في رصد الواقع العراقي في كل مراحله خاصة بعد عام 2003 وما تلته من تفاصيل موجعة لروح الانسان العراقي ولبلده كانقسامات وموت..
فهذا النص السردي يمثل ذاكرة مضاعفة لبغداد تتداخل فيها صور الخراب باشكال متعددة وليس من المبالغة في شيء اذا افترضنا ان ما يحدث وحدث فعلا في بلد كالعراق يصعب ما تطمح لكشفه وعرضه اية مخيلة رغم سعي جملة من المبدعين العراقيين لتوثيق هذه الذاكره ولكشف ملابستها المعقدة والمرعبة ونجاحهم في ذلك.. تبقى رواية كاباريهت واحدة من الاعمال الروائية التي بلغت باسلوبها الساخر والفانتازي مديات للكشف عن صورتين لبغداد واحدة كذاكرة للمبدع الغائب قبل الحرب الاخيرة واخرى تنتمي لها بكل الروح العراقية والبغدادية المفتتة الى صور وحوادث وانقسامات تبدأ من قسوة الكونكريت الذي يوحي كما جاء في الرواية الى تقسيم كل شارع وحي ومدينة الى جمهوريات متفاوتة ومختلفة داخل العاصمة والبلد الواحد حيث يصير الحي هو المتن والمدينة هي الهامش كما جاء في الاصل وهذه الفكرة هي تعبير عن حجم الانقسام الطائفي ورعب اللحظة اليومية التي يقرها الواقع الجديد للعراق بكل محمولاته المدمرة وعمق القسوة التي فيه.. حيث يتقاسم هذه الادوار المفجعة شريحة السياسيين والعسكر ورجال الدين والطبقة المثقفة ذات الروح الطائفية العالية والمختبئة.
ان رواية كاباريهت ليست رواية توثيق فحسب بل هي عمل سردي متقن بلغة مسرحي وكاتب يعرف الى اين يريد ان يصل.. يغلب على هذا العمل الاسلوب الكاريكاتيري الساخر والمتداخل فنيا بين الواقعي واللاواقعي تتشارك في نقله شخصيات متنوعة داخل المجتمع العراقي ابرزها شخصية داليا رشدي خريجة كلية الفنون الجميلة قسم المسرح وهذه الشخصية المحورية في العمل تمثل تضمينا نوعيا يكاد ان يغيب عن مجمل الاعمال الروائية العراقية الاخرى الا ما ندر رغم ان تضمينات نوعية كهذه وفرقها عن شخصيات هامشية في اعمال اخرى هو فارق في الطريقة التي يقول فيها صاحب العمل عمله لا في ديكور الشخصية او تمثيلها الاجتماعي والثقافي بل في صناعتها ونحتها لتصلح ان تكون عملا مفكرا فيه بشكل جيد يخدم تطلعات الكاتب وغاياته الابداعية.
فرواية كهذه يحتل فيها تولستوي والسندباد والف ليلة وليلة اضافة الى تضمينات اخرى نوعية كمدخل لفضاء الرواية والاحداث هي عمل يستحق القراءة والاهتمام.)
ولمّا جاء دور الشاعر ماجد مطرود في تقديمه للرواية أكد أنَّ: (ما يُثيرني في رواية كاباريهت لحازم كمال الدين هما محوران رئيسيان ، المحور الأول هو:
الشخصيات التي رُسِمتْ بدقةٍ متناهيةٍ تماهتْ تماماً مع شخصياتٍ واقعيةٍ ربّما عرفناها سابقاً أو لمسناها جيداً وأدركنا أنشطاراتها وقدرتها على التحّول والتبّدلِ حسب ما يرتضيهِ الموقف أو الهدف بغضّ النظر عن الوسيلة.. شخصياتٌ تتراوحُ ما بين أبٍ مثقفٍ أو كاتبٍ صامت يرفضُ النشرَ ولا يهوى الظّهور يكتفي فقط ليكونَ شاهداً على عصره بعد موته
والأبنةُ داليا رشدي خريجة كلية الفنون الجميلة قسم المسرح وكاتبة القصة وصاحبة المشروع السردي الطويل وحيرتها ما بين زوج مخطوف وزوج خاطف وتماثلها المتداخل مع شهرزاد الراوية وأستحضارها الدائم لشخصياتٍ دخلتْ حياتنا وربّما حُفرتْ بطريقةٍ أو باخرى في ذاكرتِنا الجّمعية
ثمَّ زوجها الأول السندباد المخطوف الذي هجر الكتابة بسبب منعه من النشر واضطراره للعمل كسائق تاكسي ومن خلال مهنته هذه وطد علاقاته بالعصابات او المليشيات التي ادت في النهاية الى خطفه وزوجها الثاني علاء الدين العلاس الذي علس صديق السندباد الاعز وعبدالله الطنطل وغيرهم هكذا هي الشخصيات خطّاف ومخطوف علاّس ومعلوس ذبّاح ومذبوح أنّها مرارة حقيقة حيث يتساوى فيها القاتل والمقتول؟
يضعُنا حازم كمال الدين في روايتهِ هذه في مواقفٍ عسيرة وأسئلةٍ صعبةٍ أمام شخصياتٍ انتهازية ، غريبة الأطوارِ وواسعة الخيال تتحرك على مساحة قابلة للتأويل.. من حيث أنتمائها الطّائفي وأعلامها التي ترفرفُ بالفوضى وغياب القانون والاحتيال وطرق العيش اللاشرعية على امكنة ضيقة وبائسة سمت نفسها جمهوريات مستقلة..
كأن بغدادَ المكان والتاريخ والمركز والقوة والنفوذ ، أنكمَشتْ على نفسها وأنشطرت ثمَّ تحولتْ الى أمكنة صغيرةٍ هشّة موزعة بشكل يدعو الى السخرية والاسى والخوف والرعب والضياع انّها رؤيا مخيفة ، موجعة بالرغم من أبعادها الساخرة التي ترسم لنا مستقبل مفتوح على أجيال ستكون الجريمة فيها مؤسسةً قائمةً بذاتِها تُحركُ الأجيالَ وترسم المستقبل
أمّا المحور الثاني هو: الأستراحات تلك الوقفات الهادئة ما بين فصلٍ وأخر.. الجميل ان كلَّ فصلٍ من الروايةِ يحققُ بدايتهُ ونهايتهُ كأنَّ الفصلَ هو عملٌ سرديٌ مستقل بذاتهِ ومستوفي كلِّ الشروط كما أنّ قدرةَ المبدعِ حازم كمال الدين على نسجِ خيطٍ دراماتيكيٍّ جَمعَ كلَّ هذه الفصول المستقلة بأحداثِها وشخصياتها المتحركة منحَ المتلقيَّ خياراً يجمعُ ما بين أثنين أما أن يُكملَ السّيرَ مع ذلك الخيط الدراماتيكي الى نهايته فيحقق المتعةَ الجماليةَ والمعرفة الكاملة أو أن يتوقف في أيّ فصلٍ يشاء حينها يكون قد حقق المتعة الجمالية أيضاً لكنّها ناقصة تاركة خلفها سؤالاً.. ماذا سوف يحدث؟ وهذا السؤال هو الذي يدفع للفضول لمعرفة المزيد وبهذا يكون قد تحقق عنصر الاغراء والتشويق.)
بعد ذلك قام المؤلف بتوقيع النسخ التي تم بيعها وإهدائها في أجواء من المحبة والابتهاج بهذا المنجز الإبداعي المهم.