ادب وفن

مساعٍ جادة لتجربة مسرحية جديدة / عامر الربيعي

سعى الدكتور ماهر الكتيباني إلى المخالفة الإيجابية في منجزه الأخير: مسرحيتي "هسهسات" و"هيت لك" ساعياً لنفسه بأقل تقدير لتأسيس منهجه التأليفي للنص والإخراج للنصوص التي يكتبها، التي قد تكون قريبة نوعاً ما من نصوص مسرح اللامعقول، لكنها تحيل القارئ أو المتلقي الى مناطق جديدة خاصة في الرؤية الإخراجية. فهي نصوص قابلة للتأويل المتعدد حسب الجانب المعرفي للمتلقي وهي قريبة جدا من نصوص "ما بعد الدراما" والتي لربما لم تظهر بعد في المسرح العراقي وفي البصرة خاصة. وأول دهشة للمتلقي هي في العنوان.
أما بخصوص الرؤية الإخراجية للدكتور ماهر , فهي تؤكد على الجانب الأكاديمي, خاصة لجسد الممثل مع الجانب الثاني والذي له الثقل في اخراج المسرحية, من جانب فضاء المسرحية والأزياء والإضاءة والمؤثرات الصوتية, ليدخلها ويجمعها بشكل يجعل لفعل الدهشة والإبهار الأثر الهام في العرض المسرحي لديه، واضعاً المشاهد المتلقي في وضع تساؤل ومتابعة للعرض المسرحي، ومركزاً على مبدأ اللعب في المسرح، حيث يعتبر اللعب مدخلاً جوهرياً لفهم المسرح وعوالمه، ذلك من خلال تفكيك العلاقة بينهما حيث يكشف، بوضوح، أن ثمة تقاطعات كبيرة بينهما، من حيث الجوهر والوظيفة وإن كان اللعب المسرحي يتميز عن اللعب الحقيقي بكونه يفرق بين اللاعبين والمتفرجين، ويحول المتعة باتجاه الآخر، ويصبح محاطاً بنوع من البراغماتية التي تجعله يتجاوز اللذة الخالصة. ولعل هذا ما جعل "باتريس بافيس" يؤكد أنّ "للمسرح علاقة وطيدة مع اللعب في مبادئه وقواعده، إن لم نقل في أشكاله أيضاً".
في مسرحية "هسهسات", أعتمد المخرج على الفضاء القليل التأثيث والذي أغنى وكان مفعماً بالممثلين وأدوات أللعب، فملابس المهسهسين غريبة من حيث الشكل وتم التغيير في شكلها، هي في الأساس ملابس قائد للأوركسترا لكنها لم تكن سوداء بل ملونة وكذلك قصيرة مع الجواريب الملونة, فهما قائدان ولكن كل واحد منهما على مساحة محددة لكن ليس هناك تناسب في مستوى الهيمنة. أنهما لاعبان غير متكافئين, كما أن المسرحية تبدأ باستخدام الكرة واللعب بها كعلامة على الكرة الأرضية، أما استخدام الكرات الصغيرة التي تصدر الضوء فهي دلالة على الحروب والصراعات المتوالية في العديد من دول العالم مع استخدام الدخان كنتيجة للتلوث ونار الصراعات, أنه أللعب مع المهيمن والخسارات المتكررة.
ونجح الدكتور ماهر بشكل متميز في توظيف أدوات العرض المسرحي، ومن أمثلة الاستخدام المتعدد لها العصا الملونة باللونين الأحمر والأبيض, هما لونا الحرب والسلم استخدمت للتنبيه والتلويح والتهديد وكعتلة وآخرها كمايكرفون غير صالح يرمى جانباً وكذلك المستويات الخشبة كانت على مستويات عدة للصراع بين المهسهسين كالشارع والرصيف والمناطق العليا، وكان لاستخدام تقطيع البصل فعل مهم للمتشدقين بكلمات لا يفهموها ولا يعملون بها، أما استخدام مضخات النفط اليدوية فلها الأثر الواضح في المسرحية وكانت الأهم الكبيرة والتي تلونت بلوني ?لعصا الأبيض والأحمر, للدلالة على أن النفط مصدر حرب وسلام كذلك.
أما المؤثرات الصوتية فتحيل الى حركة للعديد من الوسائط أو لتحطيم الزجاج فكانت متوافقة مع أداء المهسهسين والذي أقترب من الأداء السيركي جاعلاً من المشاهد في متابعة مستمرة للحركة على خشبة المسرح أو مكان العرض.
في عرضه المسرحي الثاني استمر الدكتور ماهر على خطاه لتأكيد منهجه في عروض الميتا مسرح، حيث الشخصيتان وكذلك الملابس التي تحولت إلى ملابس مهرجي السيرك، مع استخدام لعبة المكعبات المتحركة والتي تختلف في الألوان وعلى اللاعب تحريكها والسعي لعودة ألوان المكعب وتناسقها، لكن دون جدوى ليأتي الممثل "الشخصية الثانية" إلى إشغال الأول بأوراق اللعب بين الممثلين، ليزداد التشتت في الانتباه للأول ولتبدأ اللعبة المسرحية على قطعة خشب طويلة وضيقة يسيران عليها بعدم اتزان ثم التقافز على جانبيها, وفق حركات متبادلة ومدروسة وقصدي? .
تشكل الإضاءة في عروض الدكتور ماهر مكوناً مهماً مع الاستغناء عن البقع الضوئية واللون الفيضي "الأبيض العام" بل هيمنت ألوان محددة "الأخضر والأزرق والأحمر والأصفر" لتتوافق منفردة أو مجتمعة وفق الحالة الخاصة للمشهد.
الحوار أو التحاور بين الشخصيات، أخذ جانب السرعة، بقصدية السؤال والإجابة غير المتوافقة ظاهرياً، الهدف منها المشاركة الفعلية للمتلقي في استلام تساؤلات وأنتظار الجواب، والمشاركة في الإجابة غير المتوقعة والمتوافقة مع الحدث، والتي تأخذ في طياتها السخرية أو الكوميديا السوداء أو من خلال التساؤل والإجابة في الأداء التمثيلي أو عبر استخدام الأدوات دلالياً وعلاماتياً.
تمثل الإستباقية في التمرين، أهم العوامل الرئيسية في عروضه، من خلال قراءة الطاولة ثم الانتقال بسرعة على خشبة التمرين، من خلال التأكيد على سرعة التلقي والبديهية لدى المجسد للدور، تفهماً لحالة الشخصية المتداخلة في صراع عنيف يتطلب الكثير من الجهد العقلي والجسدي، لتقديم شخوص واعية لدورها تمثيلاً ومتناسقاً مع الثيمة واللون والسينوغرافيا والإضاءة، متداخلةً جميعها لتقديم أفضل ما يمكن في عرض مسرحي في دقائق معدودة، لكنها تضع المتلقي في حيرة التلقي للجديد والتساؤل عن الآتي المجهول، في عالم متسارع في المتغيرات الجارفة، معتمداً الإيقاع السريع، ومتأثراً بإيقاع الحياة اليومية للعراق بعد 2003، وهو تأسيس "حسب ما أعتقد" لمسرح ما بعد التغيير في العراق.
لا بد من الإشارة الى أن هذه التجربة التي يؤسس لها الدكتور ماهر الكتيباني لم تأت من نقل أو مثاقفة, بل هي نتيجة متراكمة لمراحل دراسية متعددة، والمشاركة في العديد من الأعمال المسرحية مع العديد من أساتذة المسرح في البصرة، وكذلك المتابعة للعديد من الأعمال والتجارب المسرحية والفنية مع القراءة المستمرة للتجارب العربية والعالمية. وهو يسعى بشكل جدي للتأسيس إلى تجربة جديدة أتمنى المواصلة عليها ودعمها من الأساتذة والمهتمين بالمسرح. لإنجاح هذه التجربة والتأسيس لبيان جديد في المسرح العراقي يحمل بصمة بصرية.