ادب وفن

«كلمات تعنيك».. واقع الذات، واقع الآخر / عبد الله عبد الكريم

لا تخلو النتاجات الجمالية، أدبا كانت أم فنونا من صور شتى للذات المنتجة، قد تكون رئيسة تجذب إليها موضوعات الواقع، «مؤنسنة أو غير مؤنسنة»، في عملية إضافة وحذف، من أجل خلق نوع جديد، تفرضه هي. أو قد تكون الذات المنتجة ثانوية، تتفرغ من محتواها لتذيب نفسها في موضوعات الواقع، وتصبح ضمن نوع مفروض عليها. ربما نلمس هذا في المجموعة الشعرية «كلمات تعنيك»، للشاعرة فراقد ياسين، التي اشتغلت، في العديد من نصوصها، على لعبة الذات الرئيسة مرة، والثانوية في أخرى، لتجد نفسها مع الآخر مضمونا واحدا، وفق عملية تحكم عن بعد:
«انك روح لجسد أنا أملكه/ كنت الحلم البعيد/ وكانت مهمتي الانتظار.. الولوج إلى ذاتك عبر محطة التمني..».
إنها تعرّف موضوعها «الآخر»، وتصرح بإمتلاكه روحا وحسب، مجردا من الجسد وبلا صيغ انفعال، لتمثله في جسدها كروح مملوك، ثم تبرر سبب الامتلاك هذا باعتباره مهمة سابقة «كانت» أطلقتها من ناصية التمني في «الولوج إلى ذاتك».
إن اللغة حينما يسخّرها الشاعر لرصف تعبيرات خياله، لا يمكن أن تجري بصورة ممتدة وغير مقطعة زمنيا. ففي كل جزء من المصفوفة الشعرية يمكننا أن نجد موضوعا مغايرا عن آخر ضمنها، وهذا ما يدعو إلى انتزاع النص عن سياقه، والاشتغال عليه على حدة. إذ مهما كان بناء النص الشعري متماسكا، لا بد وأن يحتوي على معانٍ مختلفة تسمح بتفكيكه إلى موضوعات عدة. ولكن، ما الذي يدعو الشاعر إلى اختيار مفردة تعبيرية دون أخرى؟ لا سيما أن القصيدة النثرية تمنح شاعرها حرية كبيرة في اختيار المفردة وما الذي تعنيه هذه المفردة لدى الشاعر؟ إنها في كل الأحوال تشكل انطباعا سيكولوجيا معينا مختلفا عن انطباع الآخر، وهذا الانطباع مرتبط بموضوع معين يتعلق بالذوق الخاص، وبمنظومة الشعور والأحاسيس الخاصة بإنسان دون غيره، وبزمن الكتابة أيضا. وهذا ما أبرر به اشتغالي على جزء منتزع عن النص الشعري.
«أنت هناك/ لك عالمك/ وأنا هنا/ على الجانب الآخر/ أبحث في السماء/ عن أجنحة تلبسني/ لأحلق حول فردوسك..».
تمتاز السطور السابقة بتقطيعاتها القصيرة، وبمسحتها الإيقاعية المعنوية، وبتجذرها في المكان وخلوها من الزمان، وبقدرتها على الفصل بين موقعين مختلفين، وبسِير المسافة في ما بينهما، «أنت هناك وأنا هنا». القراءة الأولى ربما تحجب المسافة الحقيقية التي تقصدها الشاعرة، قد تكون «هناك» على بعد أمتار، أو على بعد أميال، أو غير ذلك. لكن ما يقدر المسافة هو الحاجة إلى الأجنحة للتحليق حول الفردوس العائد إلى من هو «هناك»، فضلا عن ذلك أن الأجنحة كما تعتقد الشاعرة ليست على الأرض، بل هي مدشنة في السماء، مهيئة لها لكي ترتديها وتحلق نحو فردوس الذات الأخرى وعالمها الآخر.
«إنسَل بهدوء داخل وجعي/ تفتح لك ابتسامتي الأفق/ لا تشعرك أبدا بامتداد الوجع/ داخل أروقة اللحظات».
السطور السابقة تفتتح بأمر موجه للذات الأخرى «المُخاطبَة» لأن تنسل داخل وجع الذات الآمرة، ولكن بهدوء، لتتلقى ابتسامة تفتح أمامها الأفق، تعبيرا عن السرور، وتصطنع القدرة على حجب الوجع رغم مدى شدة «الانسلال الهادئ». فلو كانت الشاعرة قد أمرت الذات الأخرى بأن تنسل داخل أوجاعها من دون الإشارة إلى الحال أو الهيئة «بهدوء»، لمنحت النص أبعادا أكثر:»إنه ينسل داخل الأوجاع ويتلقى ابتسامة تفتح له الأفق، ولا يتلقى شكوى من قوة الوجع وشدته».
تؤنسن الشاعرة فراقد ياسين في بعض نصوصها، أقانيم الطبيعة، وتضفي عليها شيئا من أناها لتشاركها الإحساس بالمحيط. إذ انها «الشاعرة» تذيب ذاتها مع موضوعات منتقاة من الطبيعة، في محتوى واحد، كما في السطور أدناه:
«ما دامت عيناك في الضفة الأخرى/ بعيدا عن ضفافي/ لا تنتمي إلى عالمي/ هل تعلم بأن الطريق موحشة؟/ والليل أبكم؟/ والنهار أصم؟».
إن أنسنة الكائنات غير العاقلة عبر الأدب، تؤكد حاجة المُعبِّر إلى ما يدعم أحاسيسه ويشاركها الألم ويمتص بعضا من أوجاعها، وهذا لا يصنف ضعفا في الذات المعبرة، بقدر ما يصنف كعملية خلق أقانيم داعمة للمعنى المعَبّر عنه. إذ إن إمعان النظر في ما يطال الكائنات غير العاقلة «التي تشارك الذات المعبرة بوحشة غياب الحبيب البعيد»، يدل على قوة الشعور وتفاقم الوجع وبلوغه ما بعد حدود التحمل. «الطريق موحشة» ترمز إلى معنى العالم الخارجي لدى الذات المعبرة، الذي سيبدو بعد غياب الحبيب موحشا، «الليل أبكم/ النهار أصم»، كلها تصورات عن حياة في أشياء لا حياة فيها يؤسس إليها الخيال عمدا.
إن الشاعرة هنا تبث الحياة في الكائنات غير الحية، وتتعدى ذلك حينما تجعل من الزمان «الليل/ النهار» كائنا مكانيا حيا متأثرا بغياب موضوعها «الذات المعَبّر عنها»، وهذه محاولة في خلق مشهد تراجيدي يشمل تأثيره العالم المحيط.
«حدودي أنت/ تاريخي أنت/ عمقي أنت/ صدقي أنت/ حتى شوارع بغداد/ تملؤها آفاقك أنت..».
السطور السابقة مدعمة بتوكيدات حرفية متكررة ومبالغ فيها «أنت»، ربما أرادت الشاعرة منها تقفّية أبياتها، كخرق لتقليدية النثر غير المقفى. وهي في الوقت ذاته شطّرت تعبيراتها جملا قصيرة لمراعاة الإيقاع المعنوي، بيد أن التوكيدات الحرفية احتلت أنصاف الشطور، ما أبرزت شيئا من المبالغة الأسلوبية المترتبة على جيشان العاطفة.
كما ان تفريغ محتوى الواقع نوعا وكما، وتحويله إلى أداة طيعة تتسيدها عاطفة الذات، صورة من صور المبالغة في التعبير. فالشاعرة بعد أن أفرغت ذاتها بصورة تامة من «الحدود/ التاريخ/ العمق/ الصدق»، وزجتها في الآخر فناء وامتزاجا، بادرت إلى تفريغ الواقع أيضا، لكي تجعل الكل خاضعا للجزء «الآخر/ أنت»، ومن ثم غطت فراغات الكل بهذا الجزء «شوارع بغداد تملؤها آفاقك أنت».
تتكرر صور إذابة الذات في الآخر في العديد من نصوص الشاعرة فراقد ياسين، كوصف لهول استلاب الذات، ومن ثم اختزالها في الآخر:
«إني امرأة/ لا انتمي إلا لذاتي/ والحقيقة/ انني/ لا أنتمي/ إلا إليك..».
على الرغم من تأكيدها في بداية السطور السابقة أنها «امرأة لا تنتمي إلا لذاتها»، إلا أنها تتراجع بعد ذلك، وبتوكيد اعتقادي «حقيقة»، متنازلة عن كونها منتمية لذاتها وحسب «إلا إليك»، ومعلنة انتماءها للآخر. إن هذه محاولة لوصف شدة تأثير الآخر الذي استلبها وجعلها تختار أن تصبح جزءا منه. فهي «الشاعرة» بعد أن أعلنت تنازلها عن ذاتها، لم تتركها في حال سبيلها كما يقال، بل جزّأتها واختزلتها عدما وأذابتها في الآخر، لتثبت شدة عاطفتها التي أرغمتها على أن تكون هي والآخر شيئا واحدا، كإشارة إلى تصوف مبالغ فيه نوعا ما.
«فتشت عنك أياما طوالا/ بكيتك كثيرا/ وانتظرتك طويلا/ تركتني ورحلت/ تركتني امرأة/ على طرقات الماضي/ تتكسر/ امرأة/ على أبواب الذكرى/ تتوزع/ تتجمع/ تتبعثر..».
بأسلوب خالٍ من التعقيد، ومتسم بالمباشرة الصريحة، تطل الشاعرة فراقد ياسين على القارئ من نافذة الوجع، لتعرض عليه مشهدا تراجيديا يصف انصهار العاطفة والجسد معا، وما يجتاحهما بفعل غياب «الآخر»، الذي هو، وبحسب ما طرقته في نصوصها المذكورة، وعاء تذيب فيه ذاتها المستلبة.
إن هول تأثير المشهد السابق، يتحدد بالنتائج التي تبعت «التفتيش» ولا جدواه، وما أعقبه من بكاء وانتظار. فالشاعرة تبرر سلوكها في بداية المشهد عبر فلاش باك «تركتني ورحلت/ تركتني امرأة»، ثم تسرد على القارئ ما خلفه هذا الترك من وجع، وما تبعه من نزوح نحو ماض لم يكن «الآخر الهاجر» أحد موضوعاته. انها «نوستالجيا» تجلت بعد اصطدام بواقع مرير، وظلت مخفية في ما وراء النص الشعري. لذا ما معنى «تركتني امرأة على طرقات الماضي تتكسر»، «على أبواب الذكرى تتوزع»؟
ان هذا التصريح يدل على وجود معنى آخر مختفٍ خلف النص وخارج الذات الحاضرة. لعله حنين إلى زمان بلا أوجاع، يمنح «التكسر/ التوزع/ التبعثر/ التجمع» الذي يطال الذات على «طرقات الماضي والذكريات بعد الهجر»، شرعية أكبر.
«ما قيمة ألوان الورد/ بلا عطر؟/ ما معنى الليل بلا نجم؟/ أو النهر بلا ماء يجري؟/ ما جدوى الحب بلا قرب؟».
تضع الشاعرة فراقد ياسين قائمة من الأسئلة، دون أن تعززها بإجابات حرفية ترضي الفضول. غير إنها في الوقت نفسه، تخفي إجابات ذاتية اعتقادية تحت حجب الأسئلة.. إجابات تظنها لا تثير الجدل.
إن الشاعرة صاغت أسئلتها من خلال انتزاع معنى تقوِّم به الإجابة، وإن بصورة غير اعتمادية. فهي تجرد الورد من عطره دون لونه، لتسأل عن العطر، وتجرد الليل من قمره، لتسأل عن النجم، وتجرد النهر من عمقه وانفراجاته لتسأل عن الماء، ثم تجرد الحب من جميع انفعالاته وتبعاتها، لتسأل عن القرب. وفي الوقت نفسه تسبغ على الموضوعات المجردة صبغة الأهمية، وتشعر القارئ إن المجردات هي من تعطي قيمة للمعنى المُتساءل عنه، ومن ثم تكون الإجابات تأييدا بالنفي دون تبرير. مثلا: «ما معنى الليل بلا نجم؟»، تريد الشاعرة من القارئ أن يوافقها الرأي بأن الليل بلا نجم ليس ليلا، أي ينفي أي قيمة لليل دون النجم. وهذا الأمر يسد المجال أمام احتمالات كثيرة بإمكان خيال القارئ تغطيتها.
ولعل الشاعرة أرادت من تساؤلاتها السابقة أن تضفي شرعية على القرب كضرورة في الحب، مستشهدة بصور مجردة من بعض موضوعاتها، اعتقادا منها ان هذا التجريد يقتل «القيمة/ المعنى» اللذين لا يتمان إلا بعد استرجاع المحمول المجرد.