ادب وفن

سؤال الوجود وصراع الأزمنة / جاسم عاصي

تتوائم كيفيات القص مع تحوّلات الأزمنة، باعتبارها الوعاء الذي يستوعب الظواهر وحيثيات ونتائج الصراع الاجتماعي. كما وأن لا صراع اجتماعياً دون مؤثر سياسي. هذه البديهية تقود السرد إلى الانغمار في عمق الظواهر تلك، متسيّدة بقوة البحث والكشف عن العلة والمعلول من خلال عكس بنيتها غير الظاهرة للعيّان من أجل فرز ما هو ايجابي وما هو سلبي. وهنا تحدث المفارقة في مثل هذا الفرز. غير أن الحكم إلى حقيقة كوّن وجهة النظر ما يحسم الموقف لصالح كلا الطرفين. وهنا نجد القاص لا يألو جهداً، ولا يدّخر طاقاته، بقدر ما يفتح أكثر من عين كاشفة ومشخصة. إنه بطبيعة الحال خاضع للعلة والمعلول، مستلهماً من كل ما يعالجه الدرس الاجتماعي والوجودي.
هذا ما نجده شاخصاً في قصص القاص "ريسان جاسم عبد الكريم" الذي ابتدأ مشواره القصصي منذ السبعينيات وما زال مستمراً في بحثه عن الأسلوب الذي يميّزه من بين الجميع. لذا نجده محافظاً على نمطه في الكتابة، مستدرجاً موهبته في استحداث ما يُعين النص على استكمال دورته. فهو يمنحنا درساً في القص من خلال قدرته على المحافظة على أسس توجهه في السرد، ململماً نصه وفق أسلوب اجترحه لنفسه. وربما واجه من خلاله الاعتراض. وهذا ما ذكره القاص مجيد "جاسم العلي" وهو يقدم لإحدى مجاميعه القصصية؛ في كونه اصطدم وهو يقرأ القصص، واشتبك لديه الفضاء. وهذا ما حدث لي مثلاً. لكن من يريد أن يعرف عليه أن يُجدد رؤيته ونظرته لما هو ماثل بين يديه. وحسبي أن "العلي" كان أكثر حكمة وصبراً مني حين فعل ذلك. كما وذهبت بي القصص إلى البحث عن تخريجات تستنطق قوامها النصوص، بالرغم من أن لي مأخذ على أسلوب القص بشكله العام، في كونه يُحدث لبساً يقود إلى غموض لا يستوجب في علاقة الشخصية بالحدث، وعلاقة الحدث بالزمان، ثم علاقة الزمان بالمكان، والعودة إلى علاقة الشخصية بالمكان. إن مثل هذه الرؤية قد جسّدها القاص، لكن بكيفية مغايرة. ونجد كما سنتطرق إلى كون اللغة القصصية لعبت دوراً في خلق مثل هذا الاشتباك بين كل هذه الأطراف، بحيث كانت اللغة بمثابة الفم الذي يزدرد كل ذلك ضمن غموض خلقته توترات الجملة القصصية وهي تتساوق مع مفردات صلدة، وذوبان سلوكيات الشخصية ضمن توصيفات اللغة، وليس تجسيد الفعل ضمن لغة بسيطة، ذات معمار "السهل الممتنع".
مجرى الأزمنة وتصعيد التوتر

لا شك أن محتوى القصص "أشخاص، أحداث، أزمنة أمكنة" خضعت لمكوّن خارج إرادتها. لذا كانت المعالجات في معظمها تخص الكيفية التي واجهت تلك المفردات وطبيعة الصراع الذي احتوته النصوص كناتج له، وتفوقت فيه ضمن استنطاق الذات. وهو مبرر واضح للقاص، في كوّنه يعكس تأثيرات المؤثر على الذات الإنسانية التي خضعت للـ "التعسف، المصادرة، السجن، التحقيق والاستجواب، القتل، التهديد، صوّر الموت، الحرب" وغير ذلك من المفردات التي يتبعها المتسلط بكل صوّره وأشكاله في الوجود، من أجل قهر الإنسان ووضعه ضمن حيّز ضيّق، يُبعد عن السلطة شبح مصادرة الوجود "التحكم" في مصائر الآخرين. إن القصص وفق هذا العنوان دأبت على أن تخلق لوجودها الداخلي مناخاً متوتراً، استجابة لتوتر الواقع، وسيادة القمع السياسي والاجتماعي. لذا ووفق هذا المنحى في الوجود، استجابت السردية إلى جوّانية الشخصية في خلق لغة خاصة، نقول عنها في هذا المجال مقتربة من الشعر وفضائه في التركيب والانعكاس. فالشخصية إزاء ما ترى وتواجه، تختار ملاذ اللغة الشعرية كأسلوب يبعد عنها أو يخفف التوتر. بل هي الجرعة التي تمكّن النموذج من أن يأخذ له نفساً يستطيع من خلاله المقاومة. إن الفعل ورد الفعل يتحكم فيه الزمن الذي يستغرقه النموذج وهو ضمن حالة معينة، والسارد يحاول جاهداً كي يضعنا ضمن الدائرة الضيّقة هذه. من هذا كان توتر اللغة من توتر الزمن، وتوتر الزمن من توتر الشخصية. وكلاهما خاضع لمهيمنة عليا من الصعب التحكم فيها وإداراتها في النص إلا من خلال نمط التوتر بصياغات لغوية خالصة الشعرية. وهو نوع من هذيان الذات "المنولوج" الذي يدفع الشخصية إلى الخضوع إلى النداء الداخلي ــ الاستطراد الذهني ــ في يقظة متوترة وعصيبة. من هذا نستطيع القول إن الاستجابات لمثل هذه المؤثرات قد أعطى نتائج مجسّدة في نصوص استجابة للألم الصامت، والوجع المستتر وراء ظاهرة الحفاظ على نظافة النموذج وهو بإزاء وحشية مختلفة الأذرع.

المكان والزمان

الاثنان متلازمان، ومشتبكة عراهما، فهما سبب ونتيجة في علاقتهما. وفي قصص "ريسان" نجدهما متماهيان حد الغياب الواضح، أو لنقل التداخل حد الذوبان. وهو ما تطلبته طبيعة الفضاء "الزمكاني" في النصوص. فهي أمكنة واضحة في معالجتها وطبيعة انتمائها الاجتماعي والطبقي، لكنها متماهية مضببة، بسبب ثقل الزمن الاستثنائي الذي تمر فيه الشخصية. من هذا نجد التعامل مع المكان تعاملاً حذراً. وهذا انعكس من خلال التقليل من توصيفه وتجسيده. لكنه ظهر على شكل آخر من خلال العلاقات التي تؤسس لوجود النموذج عبر أفعاله وانعكاسات ردود الأفعال، وهي بمواجهة الظواهر أو المصدّات المختلفة. ما نلاحظه على مجرى النص بهذا الصدد، إن السارد يدمج ما بين رؤيته للزمن ونظرته للمكان. وهذا يتوفر على رؤية الشخصية وطبيعتها النفسية. فلما كانت على حال من التوتر الذي أحدثته اللغة القصصية، فأنه خضع لمؤثر، مجسّداً في تلك العلاقة مع الزمان والمكان من خلال الانطباع الذاتي الذي نجده محفوفاً بالتوتر جرّاء التعسف والمصادرة. وهنا لا نعني به الجانب السياسي والاجتماعي، وإنما نعني كل ما هو يشكل سبباً في تحرك الذات باتجاه سلبي. فحساسية الشخصية من حساسية الواقع. وهذا ما خلق نوعاً من التوتر كما ذكرنا. إن ضيق المكان بسبب انغلاق الزمان على الشخصية، لا تُحدده سعة الحيّز، بقدر ما يتحكم فيه التصوّر والرؤى المتأتية من الإحساس النفسي بهذا الحيّز الذي غدا معادياً بطبيعة الحال، وبرؤية النموذج نفسه. إذاً لا مقاييس واضحة للمكان، ولا تأثيرات متسلطة أسلوبياً للزمان، وإنما هو نوع من كثافة الأحاسيس والرؤى، التي أنتجت توافقاً في رؤية الزمان والمكان.

مبدأ الصيانة والتدمير

إننا نعود إلى تخريجات الناقد "ياسين النصير" في مثل هذا العنوان، متخذين إياه وجهة العلاقة الجدلية بين أطراف كتابة النص القصصي، وحصراً نص القاص "ريسان جاسم" وهو تخريج ينطبق على معظم النصوص المنتَجة، إلا أنه في هذه المجاميع القصصية "صهيل امرأة شقراء، فزيولوجيا الانحراف، الهجوم الثاني لحصان طروادة" يتجسد أكثر، لأنه أساساً "النص" مرتبط باحتواء استثناءات في الوجود الإنساني. من هذا توجب أن تكون أسس التدمير لبنية الإنسان في النص، سائرة وفق قانون خاص بها. هذه الأسس اعتمدت طبيعة الحال إلى بنية إيديولوجية ذات بنية تدميرية، معتمدة على الانقضاض وليس الحوار والتجاوب مع مستحدثات العصر. إن خاصية التدمير للإنسان ومحو تاريخه هي السمة الغالبة والمسيطرة على النصوص، بالرغم من اختلاف طبيعتها ومصادرها، إلا أنها تصّب في ذات الهدف المتجسّد في الوقوف إزاء حراك الإنسان وهو يختار طريقه في الوجود. أما مبدأ الصيانة فقد تجسّد في موقف الإنسان من قوى التدمير هذه، من خلال الصمود والصبر والتصدي بالفعل الإيجابي. إنها مقاومة استثنائية لنماذج قصصه، ليس بالشعارات، بل بالمواقف والرؤى والصلابة والتحدي. فهي تصون الوجود من خلال صيانة الذات في عدم الوقوع في ما هو مُخطط لها،وإنما خلق نوع من التصدي الصامت إزاء الفعل الصارخ،مجسّداً في أفعال تؤدي إلى مصادرة حرية الوجود الإنساني. من هذا نجد أن مبدأ الصيانة مساير وبقوة مبدأ التدمير، سواء في الطبيعة، أو حقل الحياة، أو ضمن الأقبية السرية أو ساحات الحرب. إن المحق هو محق مهما تغيّرت أساليبه وأشكال تنفيذه. ولعل أشد ما يمكن نعته ؛ كوّنه خاصية العنف الذي يواجهه الإنسان بشتى صوّره وأساليبه. إن الذات الإنسانية تضمر نوعاً من استعلاء الذات على الآخر. ولا يتجسّد هذا إلا من خلال توفر الفرصة للذات كي تكون صاحبة القرار أو المنحى في الحياة. في ذاتنا منحى تدمير الآخر، غير أن الصيانة المعرفية هي خير الصيانات من الوقوع في الزلل. لذا نجد في القصص هذه نوعاً من الإعلان عن قدرة النموذج على صيانة ما يواجهه من تدمير، بالرغم من المواجهة غير المتكافئة التي يعيشها. إنه بإزاء حالات متغيرة من التدمير، وليس لديه سوى الصمود موقفاً للصيانة.

اللغة القصصية.. الفعل ورد الفعل

لعل شعرية اللغة ــ وكما ذكرنا ــ كانت المعيّار الذي تحكّم بالسرد والوصف، وبالتالي تحكّم بالفعل ورد الفعل الذي كان التوتر في الموقف والمشهد المبرر له. لكن اللغة في هذا لم تشتغل على الشخصية. وكما ذكرنا في مجال سابق من هذه المداخلة؛ إن القاص أراد من نصوصه محتوى وسياقاً؛ أن يُجسّد الأفعال وردودها. وهو يقابل بالفعل فكرة التدمير بالصيانة في الوجود. من هذا نجد أنه اعتمد مبرراً لمثل هذه الصياغات اللغوية التي وسمت كل نصوصه. وهي نوع من الفعل ورد الفعل أولاً، واستجابة لجوّانية الشخصية ثانياً. وهي صفة لغوية عامة. غير اننا نكتفي ببعض النماذج من أجل الاقتراب منها جميعاً:
ـــ " كيف امتد إخطبوط الغريّن إلى أن يسد قناة عانقت جدران عابرات المحيطات، مسهلة انسيابهن ليصافحن شواطئً تعمق شوقهن إلى أحضان رايات خفقت كأفئدة أيظن اقتراب أحبة طوفوا بالمرافئ ".. من قصة "تداعيات الرأس المثقل بالحزن".
ـــ " يدّبون.. أبصرهم بأول الحوّاس.. شريط نمل لا تدرك الأبصار انتهاءه.. ابتداؤه في تجاويف رؤوسهم المليئة بتصادم الألواح أوهام امتدت لها جذور في تلافيف أمخاخهم المنبعجة بالتطلع إلى حلم طوّحت به عواصف هوج ".. من قصة " سأنكأ جرحاً ".
نلاحظ في هذين النموذجين، ثمة تعقيد في التعبير، إذ يتوجب فك اشتباك الجمل من أجل التوصل إلى المعنى المراد التعبير عنه. فالذي توجب لنا أن نتواصل مع سياق السرد لا أن ننشغل بمداخلات الجملة. مثل هذا الكثير، لكن ما يُسهّل ويذب مثل هذه التعقيدات في تركيب الجمل، هو البساطة التي تخللت السرد والوصف في بقية القصص، بحيث احتوت العثرات هذه من خلال جمل بسيطة ذات توصيل عالي النبرة.