ادب وفن

جماليات المسرح الحركي التركيبي "هيت لك أنموذجا" / حيدر الاسدي

يؤسس مؤلف ومخرج العرض المسرحي "هيت لك" الدكتور ماهر الكتيباني إلى ما يسمى "المسرح الحركي التركيبي القصير" فالعرض المسرحي هيت لك كان قصيرا جدا يعتمد على تكثيف زمن العرض عبر الحوارات الدالة وإطلاق التمعني الذي تشكل حاكمية اشارية على ذاكرة المتلقي المنتج للمعنى.يقوم العرض "هيت لك" على فكرة إنسانية تنطلق لبث رسالتها بملفوظات حوارية يتضح ان المخرج لا يريد للمتلقي ان يعتمد على ملفوظيتها فحسب حيث تطرح افكار ورؤى ودوال حول الحضور والغياب والانتظار لذلك نرى المخرج دائما ما يجعل ممثلين اثنين في عروضه أي دلالة على تلاقي الذات مع الآخر "الممثل الثاني" هذا التلاقي يبرز عبر الحوارات الدلالية على امتداد العرض المسرحي وتوزع الألوان على ملابس الممثلين تدل على ان الحياة بكافة ألوانها وتصادماتها وتقاطعاتها وهذه مهيمنة لدى المخرج الكتيباني ففي العرض السابق استخدم كرات صغيرة ملونة يلعب بها الممثلون "في عرض هسهسات" كما أن الكتيباني يختار أزياء متشابهة لممثليه وهو ما يعمق مقصدية الشخصيات كما ذهبنا إليها في صراع وتلاق بين "ذات/ مرسلة" وآخر يتلاقى مع هذه الذات وفق عامل "الإنسانية" والجوهر البشري الداخلي وهو ما يسعى الكتيباني لترسيخه في تجربته الفنية.والعرض اتسم بالحركية وسطوة البصري واللوني على مشاهد العرض إذ وظف اللون والإضاءة مع تعبيرات وجوه الممثلين لتعبر عن حوارات دالة عن مرسلات خطاب الذات ومنغصاتها الداخلية وعن تلون طرق الرؤية من الذات إلى الاخر.وفكرة مسرحية هيت لك لا تقوم على فكرة بنائية واحدة حيث تهيمن ثنائية الهدم والبناء. وتعتمد المسرحية على الشخصيات وتكنيكها وقوتها الحركية فهي اعتمدت على تكنيك الممثلين "همام/ نور" وطرحت فكرة مهمة ولكن ليست مهيمنة واقصد هنا قضية الانتظار والتي هي محور مسرح اللا معقول وهو سعي حثيث لأحداث الديالكتيك، المتضح من منطوقات الممثلين وحركيتهم داخل العرض، فالعرض أعتمد على حركية الممثلين وقدرتهم على إيصال الأفكار من خلال تعابير الوجه والحركة المقننة على جغرافيا المسرح.ولم يهتم الكتيباني بالشخوص كما اهتم بطرح الفكرة فهو يسعى لخلق ديناميه فكرية متسارعة "ما يسميها القصير" عبر كشف حالات التناقض وطرح موضوعات الانتظار والغياب فالشخصيات هي معبرة عن "الأفكار فقط" لذلك كتب في بداية مسرحيته "يتحدد افتراض المكان، والزمان، فضلا عن التأثيث البصري للفضاء، على وفق قراءة المخرج، ورؤيته الإخراجية، كما وبالإمكان أن تكون الشخصيات، امرأة ورجلاً، أو امرأتين، أو رجلين، أو رجلاً واحداً، أو امرأة، ذلك يخضع إلى إرادة المخرج في تفسير الخامة النصية". وتعتمد شخوصه على التحولات السريعة في الانفعال والشعور كما يقول في نص "هيت لك":"بملل" لقد هرسته دواليب السنين القاسية، "بفرح". والنهايات تذهب إلى ما تسمى "النهايات المفتوحة" القائمة على قراءة المتلقي لأفق دلالي معين يفهمه من طبيعة العرض المسرحي.وهنا تكمن أهمية استفزاز المتلقي فيما يقدمه الكتيباني. والفكر الفلسفي واضح في صياغة الأنساق المضمرة في عرض هيت لك.. أين هي "صوت تغريد بلابل"، س: من ؟.. ج: الفكرة.. س: ستعود قريبا، ستعود قريبا، جدا قريب.. ج: "بتوتر" لا، مازلت في مقتبل الخرف"، ولا بد التركيز على ان مسرح الكتيباني قائم على نسق مهيمن وهو التعبير الحركي عن "مضمون الفكرة"، وفق نسق بنائي يتجاوز ما هو لفظي ليكون نسقاً تكوينياً تركيبياً متلاحما مع انساق الضوء والأزياء كل هذه الأنساق تعبر بمجملها عن ثيمة العرض إذ ما تواصل ايجابيا معها المتلقي المنتج للمعني.والحركات التي أداها همام ونور تذهب إلى النوع الثالث من تقسيم باربا للأفعال الحركية "التكنيك الزائد عن الحاجة اليومية التي تجعل الجسد يؤدي دورا ثقافيا واسلوبيا" ويشير الكتيباني الى مهمته في المسرح التركيبي عبر حوار مهم من نص هيت لك "ج: الأفكار التي تجتث وحدتي، وتلقيها في دوامة من التيه.س: أشك في ذلك التيه. ج: أين هي "صوت تغريد بلابل"، س: من ؟.. ج: الفكرة"، وهنا يتضح ان لهذا المسرح موضوعا وفكرة تتوزع في حوارات دالة وليس كما ذهب البعض إلى طغيان الغموض الفلسفي فيقول أيضا في هيت لك "س: كم صعبٌ أن يرتابَ الإنسانُ أخيه الإنسان.ج: الموتُ أهونُ". فتصوير الانتظار والغياب بهذا الشكل الحداثوي أضفى طابعا بنائيا يشبه حبكة اللا معقول،مع هذا فهذا النوع من المسرح يعتمد الى تكثيف دقيق في إرسال الإشارات الدلالية وعلى سيمائية العناصر المتحدة مع "فكرة" نص العرض فنحن عندما نذهب للمسرح، نريد أن نرى أكثر مما نسمع لان الكلمات التي نسمعها بالعرض بإمكاننا أن نقراها في النص المسرحي،لذلك ولحد الآن نجح الكتيباني بخلق تكوينات بصرية في عروضه المسرحية وان يؤسس لنفسه طابعاً ورؤية إخراجية ومسرحا حري بالمتابعين قراءته بدقة وتمعن. وفعلا هذا المسرح يصطلح عليها بالمسرح الحداثوي والذي يذهب البعض إلى تسمية كل العروض المسرحية الحداثوية من هذا النوع "بالميتا مسرح". لذا فان المسرح الحداثوي الذي شاهدناه يمكن أن نقول عنه انه فن يعمد إلى خلق "الدلالات" بمضمون وشكل بنائي لبعد جمالي وفكري ولخلق مساحات لا متناهية للأفكار والرؤى وتطبيقها على جغرافيا المسرح ببعد فلسفي يحاكي المتلقي دوماً.