ادب وفن

تقاسم الهموم في "تغريدات نخلة" / محمد جودة العميدي

بين خبايا الحدث الشعري المتواصل في بلاد الرافدين يصقل الشاعر الدكتور وليد جاسم الزبيدي بلور قصائده ويصدر منجزه الثامن: ديوان "تغريدات نخلة".. كلمات وتغريدات وشهقات ونار تتأجج بين الحنايا ووطنا جميلا في عيون الجميع.. والشاعر الدكتور وليد الزبيدي هو أحد الشهود على لحظة قصيدة الشعر العمودي وقصيدة النثر معا.
و"التغريدات" باقة ورود لما تجمعه من قصائد عمودية وقصائد نثر وبثيمات مختلفة ووقع موسيقي harmony هادئ. وكيف لا وألفاظ القصائد وموسيقاها تذكرني بالأديب الراحل جورج جرداق وهو يقول:" ومن اللفظ ماله وميض البرق".. في "التغريدات" رأيت البرق في الصحو.. حيث الفضاء الشعري الفسيح الذي جعلني مطمئنا لمستقبل قصيدة الشعر العمودي و قصيدة النثر.
في قصائد الديوان نزعة الانتقال من "الأنا" إلى الانتماء وهو انتصار على الذات، حيث يتقاسم الشاعر الهموم والعذابات مع الآخرين. ان ما شدني لقراءة قصائد الديوان هو اختلاف ثيماتها واختلاف أزمانها وأماكنها.. فتارة تأخذني إلى ما قبل التاريخ فتجوب بي كل جهات الأرض تسمعني أنغاما حزينة من أوتار "شاباد" وتارة ترجع بي من جديد إلى عراق يتشبث بالحياة.. انها حقا رحلة سندباد في فضاءات شعرية واسعة.
قصائد الديوان قوية الوقع فيها من الكثافة اللغوية ما يختزل فكرتها ومغزاها وهي مشدودة شدا محكما لا ترهل فيها حتى نهاية الديوان.. ومعظم قصائد الديوان سريعة الوصول إلى المتلقي لما فيها من وضوح الفكرة و جزالة اللفظ وقوة التعبير وبعضها يحتاج إلى أكثر من قراءة لما فيها من الرمزية والكثير من التأويل كما في قصيدة "الكائن: جلجارا".. والقصائد بعد تمتلك كل خاصيات الذوق الفني والحس الجمالي حيث يشعر القارئ انه أمام لوحات فنية وتحف أثرية رائعة.. أن ائتلاف الألفاظ والمعاني جعل القصائد ثرية بالتكثيف الدلالي أو ما يسمى بالانكليزية semantics هذا التكثيف الدلالي متصاعد إلى أقصى مديات الصوغ الشعري.
بحثت في "تغريدات نخلة" عن قصيدة سكرى كحال الشاعر الفرنسي "بول فرلين" القائل:" أحب القصيدة السكرى، حيث يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللا محدود" فوجدتها في "الكائن: جلجارا".. قصيدة رائعة تجمع بين الرمز والملحمة.. انها ملحمة يتعانق فيها "كلكامش" و"جيفارا" لتكون الملحمة للاثنين.. والقصيدة، كما قرأتها إن كنت مصيبا هي صدى لدعوة "حوار الحضارات" الإنسانية وليست إلى صراعها وفيها دعوة لرفض منطق القوة و إدانة الحروب التي تدمر كل جميل.
في "مملكة أبو شعير" نظرة عصرية للديمقراطية في بلادنا برؤيا شعرية. وهي رسالة الشاعر لرفض وإدانة مظاهر التهميش والقتل والتهجير والطائفية المقيتة في بلادنا.. وكأنني بالشاعر يقول:"كفى نتلذذ بتآكل الذات".
و حين قرأت قصيدة ( التمر أقراط النخيل .. إلى الشاعر بدر شاكر السياب ) رحلت بي ذاكرتي إلى جيكور و بويب و تذكرت : غيلان 00 و شناشيل ابنة الجلبي و منزل الأقنان . و حين سمعتها من الشاعر في قاعة الحفل تذكرت ( أنشودة المطر : عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ) لما في الإلقاء من تأثير .. كانت القصيدة ظلا
( لأنشودة المطر ) تجاريها في الصوغ الشعري ( و الأهمية للظل و ليس للون ، كما تتراءى العيون الساحرة
من خلف النقاب ) ، كما يقول فرلين ..
يكتب الشاعر الدكتور وليد الزبيدي قصائد ويرسم لوحات تجمع بين ( زليخا ) و ( زهى حديد )و (ليلى العطار) و (ناهده الرماح ) و ( سجاح ) و ( تاتشر ) ، و (كلكامش ) و (جيفارا ) و ( همنغواي) و (موزارت) و (هتلر )
( يوسف العاني ) و ( بوشكين ) ( ووديع الصافي ) و (نصير شمه ) و ( بتهوفن )و( صدام) و( موسوليني ) و (محمد غني حكمت ) و ( شيخ النضال ) و آخرين غير مبال بالزمن ، لأن لكل منهم حديث ...
في قصائد ( صبرا عراق ) و ( جيش العراق ) و ( وفود الشعب ) مشاعر وطنية صادقة و فيض من عشق لهذه الأرض المعطاء وصدق انتماء لهذا الوطن .. و في قصيدة : ( لست .. ولكني ) بوح إيديولوجي لعقيدة يؤمن بها بشيء من الإصرار.. وللشاعر الدكتور وليد الزبيدي أدواته الكتابية الشعرية و له أسلوبه و بصمته الخاصة 0 و لإكمال إيحاءه الشعري لجأ الشاعر إلى تقنيات حديثة في بناء ( قصيدة النثر) ، لجأ أولا إلى تقنية (تراسل الحواس) التي يوضحها الدكتور محمد مندور في كتابه ( الادب و مذاهبه ) بقوله : ( ان تستعير حاسة ما وظيفة حاسة أخرى ) ، كما أستغل الشاعر قدرته في استعمال الألفاظ فأستعمل تقنية ( الصورة البديلة ) و التي تعني وضع الكلمات في غير ما هو مألوف واستعان الشاعربتقنية (التداعي) الشعرية وفيها تتلاشى الدلالات غير المقصودة كما تتلاشى التخيلات في أحلام اليقظة و التنويم المغناطيسي .
و للموروث الشعبي traditions نصيب في قصائد ( تغريدات نخلة ) فالقارئ الحصيف يرى عبارات شعبية تثير الشجون تذكر بالزمن الجميل ، ففي قصيدة (رسالة عشق ) نقرأ/ (يامسية العافية عليكم ياأهلنه ) و في قصيدة
( زهى حديد) نقرأ (ربيتك زغيرون) ..
لم يتجاهل الشاعر الدكتور وليد الزبيدي العلاقات الاجتماعية في مدينته وقد أخذت الصداقة عنده مكانا مرموقا ، فكتب في التهاني و الأفراح و المسرات و كتب في الرثاء لمعلميه و أقاربه وأصدقائه من المثقفين .. كما ان الشاعر لا ينكر التأريخ فكتب في رثاء أهل البيت (ع) فكانت قصائد : (كربلاء ) و (كتيبة المجد) و (وا حسن ) قصائد رائعة ..
وبعد كل هذا قرأت بين دفتي الديوان نقدا أدبيا رائعا للناقدة ( فاطمة سعد الله ) من تونس تشير فيه الى غنى القصائد و ثرائها وتعتذر لعدم المامها لما يحمله الديوان في طياته .. كما قرأت نماذج من النقد للأستاذ باقر جاسم و الشاعر علي الاسكندري والروائية وفاء عبد الرزاق و الشاعر علي خصباك وقصيدة
(الرقم 597184 ) قصيدة قصصية لما تمتلكه من خصائص السرد تناولها بالنقد الرائع الدكتور هاشم المياحي0
وممن أنبهر بقوة النصوص وأثنى عليها جل الثناء الناقد المغربي عبد الله بن بريك .. فما عساي ان أقول ؟؟؟
لا أدري .. أنها مجرد قراءة ..وأخيرا يستفيد الشاعر من خلفيته الثقافية في إنماء إبداعه الشعري مستثمرا انتماءه الوطني في خلق خطاب شعري متميز ..