ادب وفن

عن دور المثقف في مواجهة تحديات المرحلة الراهنة *

لا شكَّ ان قضية دور المثقف فى هذه المرحلة الخطيرة والمفتوحة التي تمر بها بلادنا بعدما اجتاحت الدولة الإسلامية "داعش" مناطق واسعة من البلاد واحتلالها مدنا عدة، طرحت وتطرح جملة من التحديات والاسئلة وعلامات الاستفهام على الواقع والفكر معا.
ورغم خطورة ما حصل فان ما يمكن تسجيله هنا، هو ضعف مواجهة المشروع التكفيري الداعشي ومشتقاته على صُعد مختلفة، ومن بينها الصعيد الثقافي، حيث ما زال حراك النخب الثقافية ضعيفا ولم ينجح، حتى اللحظة، في بلورة مشروع قادر على التعبئة المجتمعية، يعري المسكوت عنه والمكشوف منه في خطاب وممارسة ما يطرحه منظرو التكفير وإقصاء الآخر أو اسكاته الى الابد.
وطبيعي ان إشكالية المثقف والثقافة عموماً تثير، في الواقع العملي وليس الافتراضي، العديد من الإشكاليات التي تستحث حوارا خصبا لا يتوقف عند حدود المسلمات الجاهزة والعموميات بشأن دور المثقف في هذه المرحلة العاصفة التي تواجهها بلادنا اليوم.
خلال حقب عديدة سعت السُلطات المتعاقبة وبشكل محموم لتهميش دور المثقف التقدمي والديمقراطي وإقصائه عن المشهد الثقافي، ومقابل ذلك تم "خلق" جيل من "مثقفي السلطة" لم تكن وظيفتهم إنتاج ثقافة تنويرية، بل انحصر دورهم في أن يكونوا مصدرا للمعلومات وكتابة التقارير، والترويج لسياسات النظم الحاكمة، والدفاع عنها ونقد المعارضين لها.
وبالمقابل، سعت السُلطات الدكتاتورية والقمعية والاستبدادية لتشويه وظيفة الإبداع وسمتها الاجتماعية، وحولتها إلى وظيفة لإنتاج وإعادة إنتاج الاستبداد، وجعل المعرفة أداة لتبرير أيديولوجيا الاستبداد القائمة على وحدانية المرجعية. هكذا تحولت الثقافة "ومنتجوها" إلى البرهنة، في كل لحظة، على أن شرعيتها الوحيدة هي الدفاع عن "شرعية" الاستبداد، الذي لم يعد مجرد ممارسات على المستوى السياسي، بل وكذلك ايديولوجيا عبر حبس عملية المعرفة التي يحتاجها المجتمع في أقمطة لا يجوز التمدد خارجها!. وكان الهدف من تلك الممارسات تحويل المثقف الى داعية وشارح لـ "معرفة" السلطة القمعية التي كانت تفرض علاقات الامتثال وتأدية فروض الطاعة، وتحارب النقد والحوار مع الآخر، وتعاقب المعارضين بأشد العقوبات.
واليوم وفي هذه اللحظات المتوترة ثمة إشكاليات أساسية تحدد وتلقي بثقلها حول وظيفة المثقف كمنتج للمعرفة وكمساهم في بلورة مشروع لمواجهة قوى التكفير والظلام وبما يمكن من الحفاظ على ذاكرة جمعية متقدة في مواجهة إشكاليات الواقع المعقد والمتوتر والمفتوح على احتمالات عدة.
هكذا تغدو الثقافة، ممارسة سياسية أو جزءا من الممارسة السياسية الشاملة التي لا يمكن أن تستغني عنها عملية النهوض بالمجتمع من أزمته البنيوية المتعددة الصُعد، وتطوير سبل مواجهته لمشاريع ديكتاتورية وتكفيرية في آن. ولعلنا اليوم في هذه الحقبة المتلاطمة، حيث قطاعات عديدة من المجتمع وحتى بعض الشرائح الثقافية في حيرة وتشتت، في أشدّ الحاجة إلى بلورة مقاربات فكرية من شأنها أن تدرك أبعاد الأزمة العميقة التي يعيشها مجتمعنا وبلادنا وما يحيق بهما من مخاطر حقيقية، وتساعد في بلورة البرامج والسياسات الكفيلة بتجاوزها.
تحتاج النخب الثقافية اليوم، إذن، إلى صياغة مقاربات فكرية/ ثقافية تمكّن المواطنين والمواطنات من فهم الواقع المعقد، والعمل على تفكيكه، والتحديد الدقيق لتناقضاته وترتيبها ترتيبا صحيحا بإبراز التناقض الرئيسي الناظم للمرحلة الراهنة، إضافة الى تناقضاتها الثانوية، والترويج لمفاهيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وغيرها، اضافة الى المساهمة النشيطة في بلورة الرؤى حول كبريات القضايا التي تواجه بلادنا الان وفي استشراف المستقبل.
في مثل هذه الاجواء المدلهمة والرايات السوداء تبرز الحاجة ملحة الى مثقف عضوي، وليس الى مثقف تقليدي، وهو في مثالنا العراقي مثقف طائفيبأجلى صورة، حيث يرهن الأخير آليات تفكيره ويوظفها في كيفية إعادة هيمنة القوى المهيمنة والمتحاصصة والمتصارعة في ما بينها حول السلطة والثروة والنفوذ. فالطائفية لا تتوالد ولا يعاد انتاجها بحد ذاتها، بل تحتاج الى استراتيجية يقوم بتنفيذها افراد ونخب ومنتجو "افكار"، يقسمون المجتمع الى طوائف متجانسة كأنها بنيان مرصوص! وتكون احدى الطوائف الخير كله وما عداها الشر كله، أي يكون التناقض الشامل هو شكل العلاقة الوحيد بين الطوائف فلا يعترف ببعضها إلا متقاتلة، لان التقاتل هو شرط وجودها.
في حقل "الوعي الطائفي"، والذي يمثل تحطيم العقل شرطا لوجوده، تصبح الطائفة النقيض صورة للسلب المطلق ونظيرا للشر، ويكون تحطيم الطائفة الأخرى شرطا لتحرر الانسان الطائفي من الازمة! وهكذا يبدأ الوعي الطائفي بمثالية مطلقة على صعيد الفكر، ليصل، وبسبب منطقه الداخلي، الى ممارسة عدوانية وإرهابية على صعيد الواقع.
ولمواجهة "الإيغال في التقدم نحو الكارثة" فان المواقف من الصراع الدائر مهما كانت واضحة إلا أنها لن تكون كافية إذا لم يجر ربطها بالسعي لتطوير حركة جماهيرية واسعة. وهنا تبرز الأهمية المحورية للعمل الجماهيري وضرورات المشاركة الواسعة للنخب الثقافية في إطاره والتأثير على اتجاهاته الرئيسية، باعتباره أحد روافع الكفاح الأساسية لمواجهة المشاريع التكفيرية والخيارات اللاديمقراطية والعسف من أي لون كانت، في خضم الصراع من اجل بناء عراق ديمقراطي حر ومستقل وسيّد نفسه.
لقد بينت التجربة أن دور الجماهير يشكل عاملا اساسيا في حسم هذا الصراع الشامل المحتدم، وأنه وبدون العمل الجماهيري لن تحل الازمة البنيوية المتفاقمة التي سببها نظام المحاصصات الطائفية - الاثنية، فهو ـ اي العمل الجماهيري ـ الوسيلة لتغيير الواقع. والرهان على خيارات أخرى لا يعني سوى إعادة انتاج الواقع الراهن، بل وربما تأبيده وهذا ما لا يرتضيه المثقف الذي يراهن على التغيير والتنوير والحداثة والمستقبل، عكس المثقف التقليدي/ الطائفي الذي ينظّر لتأبيد الراهن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*افتتاحية مجلة الثقافة الجديدة- العدد 370 تشرين الثاني 2014