ادب وفن

ترميز المرأة في رواية «الجسور الزجاجية» / صالح الرزوق*

تتألف رواية "الجسور الزجاجية" لبرهان الخطيب من أربعة فصول أو بوابات، ولكن هذا لا يجعل من بنيتها مربعا له أضلاع.. بالعكس إنها رواية مستديرة، فهي تبدأ على مستوى الأحداث من انقلاب على الملك وتنتهي بانقلاب على الرئيس، ولكن على مستوى الحكاية تبدأ بخروج مزعل من المعتقل وتنتهي بعودته له.
والسبب هو امرأة، زوجته شمسة، أو شمس كما يدعوها أحيانا، فقد تزوجها بلا موافقة الأهل، المؤسسة الراعية للتقاليد والحاضنة لمفهوم الأب أو إله الجميع، ليستولي عليها لاحقا صديقه صلاح. لقد كانت كل الأحداث تدور حول هذا المحور. لمن ستكون شمس؟ ومن هو زوجها وراعيها الحقيقي. من هو ضمير شعورها؟ لقد تحولت هذه المرأة التي رسمت لها الرواية صورة حسية وسلوكية وكأنها امرأة نموذج، أنثى مخصصة للإغواء، وإثارة الفتن وتحريك وإنضاج الحبكة، بعبارة أخرى: هي سبب وليست شخصية. فكرة وليست صورة، لذلك كانت تفتقد صورة المرأة التي عهدناها في أدب العشرينات أو حتى في المخيال الشعبي «السير والحكايات» بمعنى أنها كانت من غير قلب المرأة المعروف وهو دموع مآقيها، وأصبحت عبارة عن رمز تجريدي. ولا شك أن النزاع على شمسة في الرواية يشبه النزاع على السلطة، حتى أن ممثل النظام السابق ساوم عليها مقابل أرض. و»الجسور الزجاجية» أصلا هي حكاية اضطرابات عام 1958 «كما ورد في رسالة شخصية من الكاتب بتاريخ 27-11-2014».
وكما أرى إن سر الرواية كله في هذا النزاع، وهو خلاف دموي بين الأخوة الأعداء وله حبكة وشكل عقدة أوديب. ففي الرواية مثلث يتألف من أب/ إله يطالب بالطاعة، ومن أم «هي البلد نفسه ورمزه أحضان وفراش شمسة. فهي كما يقول الراوي واحة.. خميلة في أرض تحترق بالشمس. وهي أيضا: مجرد أرض يتنازعون عليها» ثم ابن «جماعي.. هو كتلة من الأفكار التي تبحث لنفسها عن صورة». وهناك مثلث آخر لا يقل عنفية عن سابقه. ويتحقق من خلال الإبدال «الإزاحة بلغة دريدا ولكنه تعبير يشوبه الغموض، ولا سيما أننا حيال جدل بخصوص شرعية الامتلاك وليس طريقته أو أداته ولا حتى موضعه». وهذا المثلث يتكون من أب بديل يغتصب السلطة من سلفه، ومن أم هي نقطة التمفصل مثلما هي نقطة الخلاف، ثم أخيرا من ابن، لكنه صورة عن والده.. وهنا المشكلة أن يكون الابن إلها، بمعنى أن يبدأ من مشروع والده، وأن يصعد من منطقة الوعي وليس من اللاشعور المجهول. فالمعتقل ليس ظلاما دامسا، بل هو إضاءة لما يدور في هذا الظلام، وهو مخاض للقانون وليس مجرد فوضى وزلات لسان وعثرات أو أخطاء. وربما وجدت الرواية طريقة للتعبير عن مخاضها القانوني، باعتماد أكثر من أسلوب واحد للحوار.. أحدها صامت ينقل لنا ما يدور في ذهن الشخصيات، بمعنى مونولوج ذهني. والآخر كلام ينقل الفكرة المعدلة. وهنا أجد نفسي أمام السؤال التالي: إذا كان الخلاف على شمسة هو بين زوج سابق وزوج حالي ألا ينقل هذا الأحداث من مستوى الحكاية إلى الترميز، بحيث نقرأ الحبكة وكأنها صراع على مصير البلاد، وليس مجرد خلاف شخصي حول امرأة عادية.. إن كلا المثلثين يدعمان هذا الافتراض.. باستثناء أن صلاح ومزعل «الغريمين» هما في الوضع الدرامي نفسه، وكلاهما معارض للملكية وكلاهما ممثل لسلطة الانقلابيين.. وربما هذا كفيل بإلغاء الفرق بين الأب وابنه.
وفي الواقع تبدو لي الرواية وكأنها تبشر بالعودة لسلوك العصر الأمومي. فشمسة هي المرأة/ الآلهة، ربة الخصب والينبوع، والراوي يرسم لها بورتريه لا يختلف عن التماثيل والأصنام بشيء.. إنها كما يقول لها حضور متسلط كأنها معلمة حازمة، وهي في النهاية مجرد روح، روح باقية ومميزة كنكهة أصيلة لأن الزمن يجلوها. وهي أيضا الأم/ الآلهة التي تقبل بتعدد الأزواج. النص يوضح ذلك بلا لبس، إنها متزوجة في وقت واحد من مزعل، الذي تعتقد أنه ميت، ومن صلاح الشخص البديل الذي حل محله، ليكون حارس الشرف وقيمته الانجراحية وخادم ربة الينبوع، التي للأسف لا نجد إشارة واحدة على تخصيبها.. كأنها عاقر.. كأنها أرض بور، مصدر للفتن ونشوب النزاعات فقط. كما هو حال الثورة العقيمة التي لم تنجب غير الدمار والفوضى، والفعل والفعل المضاد.
وأستطيع أن أفكر برواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ كنموذج مشابه،
فسعيد مهران يغادر السجن وفي نيته الانتقام من الوشاة وممن انتهز الفرصة وامتلك زوجته.. إنه أب معكوس يحرمه الأب البديل من مكانته.
والصراع في هذه الحالة سيكون بين أفراد من الجيل نفسه وليس بين أجيال.
وهو ما لا تفتقده «الجسور الزجاجية»، فهي ذات حبكة متشعبة نفسيا وبنيويا وترسم صورة للصراع بين الأجيال في المثلث الأول، وبين أفراد الجيل نفسه في المثلث الثاني، ولكنها ليست ميزة، إنما هي مجرد سمة، قلق فني تحمل همه رواية كلاسيكيات الواقعية كلما دخلت في مجال التحليل والنقد الاجتماعي على حساب التصوير والمحاكاة.
في كل الأحوال فكرة الانتقام كانت سادية عند نجيب محفوظ، لا يشوبها الشعور بالذنب وعنفية لا تهدأ ولا تخبو نارها إلا بعد تحقيق التوازن مع الشرط النفسي، فهي رواية ذات. إنها رواية أحداث تنضج في ذهن ونفس البطل السلبي الحاضن لكل شروط العدالة لأنه الذي يقرر من المذنب وما هي عقوبته، من دون أدنى شك بمعنى الجريمة وفحواها. وكأنه إله يريد محاسبة عباده المخطئين. لقد كان سعيد مهران طوال تلك الرواية الصغيرة والمشوقة يتصرف بطريقة إله كلي القدرة، إنه يتذكر بمونولوج صامت، لا يشاركه في الاستماع له أحد، كم أنعم على أصدقائه وكم فاض عليهم من خيراته ومننه، ثم يستطرد باتجاه تجريمهم «تكفيرهم بلغة تحليل الدلالات»، فقد أنكروا كل ذلك وسقطوا في الفجوة، وكانت الخاتمة قطاف التفاحة من شجرة الخطيئة والاستيلاء على زوجته. ألا يذكرنا هذا بنموذج مماثل هو رواية «الكونت دي مونت كريستو» لإسكندر دوما؟ كان النزاع حول الحق بالامتلاك وضمن أفراد الحلقة نفسها.. أصدقاء من الجيل نفسه. وكأننا أيضا أمام حالة من بقايا أحفورة العصر الأمومي، حين كان للأم عدة أزواج.
وبالفعل للأم في هذه الرواية «التي ننظر لها على أنها رومنس أدب مغامرات» أكثر من زوج واحد، ولكنهم بسبب تطوير الحضارة والمعرفة يدخلون في حالة تصفيات أو إزاحة، ويقتربون شيئا فشيئا من التركيب الحديث للمجتمع الذي تكون الغلبة فيه لواهب الخصوبة وليس حاضنها أو متلقيها، بعبارة أخرى يصبح مصدر السلطات وسن القوانين بيد الذكور.
لقد كانت الفكرة بسيطة في رواية «اللص والكلاب» ومن قبله عند دوما. وهي فكرة تعمل باتجاه واحد.. من ما قبل الوعي إلى الوعي. ولذلك كلا الروايتين تدخلان في نطاق إنتاج العائلة وتخصيص معنى وعلاقة الذات بذاتها. لا يوجد في الحالتين نقاش أو جدال قانوني، إن القاضي هنا يمتلك سلطة مطلقة ولا يشاركه فيها أحد. بينما رواية برهان الخطيب تعيد إنتاج الذات الفنية وتقشر منها طبقة رواية الأب المفقود «باعتبار أن المجتمع متحول»، وتكشف للعيان طبقة رواية الأب المهزوم الذي لا يريد التنازل عن عرشه.. وهذا يحول روايته إلى عمل من عدة مستويات..
الأول يتحرك من وراء طبقة شفافة ويتكلم عن صراع بين الأمثولات وهو رمز للصراع بين المجتمعات وأشكالها، أو بين أرستقراطية اجتماعية وأرستقراطية أفكار.. بين رأسمالية ثروات شخصية منقولة بالتوارث ورأسمالية ثروات عامة «رأس مال ثابت» منقول بالجهد العضلي والذهني. ولذلك كانت هذه الرواية عن نماذج وطبقات. وإذا كانت بذرة فكرتها تنسجم مع مبدأ العدالة البشرية التي تضع نفسها في موضع الإله، فلا أرى حكمة في إجراء مشابهات ومتوازيات خلف ذلك.
لا توجد أنماط في «اللص والكلاب» أو «الكونت دي مونت كريستو». بالعكس إنهما عن إقطاعي «كونت يمثل فكرة الوحدات المنغلقة على نفسها.. القلاع والقصور والجزر التي تسبح في وسط المحيط الهادر، بالإضافة للأسرار ورمزية المكان والكنوز» وعن بورجوازي صغير لا يعرف معنى الانتماء أو الهوية ويقرن كل شيء بإنتاج نفسه فقط «فهو لص ضمن عصابة تعيش تحت جنح الظلام وبمعزل عن دورة المجتمع، وحيث لا يتوفر اهتمام بتخطيط الشوارع والمتنزهات والبيوت». بينما رواية برهان الخطيب لا تخلو من تشابك الهويات والمعارف والأدوات.
وخلال أزمة شمسة نفتح عدة نوافذ على أزمة الزوجين وتشابك علاقات كل منهما، وهذا يساعد على رسم صورة يمكن أن نقول عنها موحية وتدور حول منعطف سياسي مهم «والتعبير لعبد الرحمن مجيد الربيعي في مقالة له عن الرواية». لقد اهتمت روايات مماثلة بالصراع بين الفاشية العسكرية في إسبانيا والجمهوريين، ورسمت صورة محزنة لما آلت إليه أحوال اليسار. ومنها رواية «هيجان» لخوسيه لويس دوفيلا لونغا التي تناولت آخر أيام لوركا، الشاعر القتيل الذي لا تقل أهمية مقتله عما حصل مع غيفارا، فكلاهما أيقونة للقضايا المغدور بها، التي وجدت أنها في حفرة الذنب، حينما تجد أن معنى الانتماء لا يتساوى مع فكرة العدالة للجميع.
ولكنها تبقى روايات أشخاص وحالات، وتضعنا بمنتهى القسوة والعنف مع إعادة إنتاج تراث الروكوكو بمنظور قوطي، كأننا نتكلم بمفردات ما بعد الحداثة عن التفكير الرومنسي المرتبط بالحزن والتفجع، وأحيانا باقتراف خطايا لا يطالها وعينا المريض والمأزوم. بينما رواية «الجسور الزجاجية» تحاول أن تعزل المشاكل وبالتالي أن تتورط بتعدد المحاور. إنها رواية مركبة مثلها مثل كل روايات النقد الاجتماعي على الطريقة السوفييتية وبعد اتخاذ إجراءات عميقة وجدية، فهي لا تتمسك بفكرة البطل الإيجابي ولا بوضوح الطرح. حتى أن مزعل يبدو مزعزعا في ولائه لنفسه ولغيره. ويقبل صفقة بعودة شمسة إليه وهو يعلم أنها باعت روحها للشيطان.. لبديله صلاح وللمنظومة التي تطورت ابتداء من هذا المتحول الاجتماعي والفكري.. وهذا يفسر لماذا كانت بداية الرواية أسطورية، كأن شخصياتها تنبثق من بين طيات الضباب، ولماذا كانت نهايتها انكفاء على الذات بمونولوج طويل يندب البطل فيه مصيره.
إن النهاية رثاء للنفس وفي الوقت نفسه رثاء للثورة التي سقطت بين أيدي الانقلابيين. وما بينهما «بداية خروج ونهاية عودة» نوع من الدوران في المكان، فالمناظر والمشاهد ثابتة كأننا أمام خشبة مسرح، والحوار الأفلاطوني هو سيد الموقف ويحاول أن ينقل الفكرة والحدث باللسان، وليس هذا هو الحال في «هيجان»، فالدراما تتطور مع تطوير معرفتنا بشخصية لوركا، ومن خلاله نلقي نظرة على مأساة الجمهورية التي سقطت تحت جزمات الفاشيين. لا شك أن لدى برهان الخطيب وجهة نظر عن معنى تحول الفن وتحويل المجتمع وروايته هذه تتابع مسار حياة بطلها الذي يولد في السجن ثم يدخل في معركة غير متكافئة مع الحياة الغادرة والمريضة والمشرفة على الأفول ليموت في السجن أيضا. وهو موت نفسي وفني، لأن شخصيته تتوقف عن النمو وتدخل في السبات، وعند هذه النقطة تقف الرواية.
ــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سوري