ادب وفن

إغتراب السياب بين الأم الغائبة والمرأة المستحيلة / نوال ناجي يوسف

سأحاول ألا أخلط بين السيرة الذاتية والتاريخ الشخصي للسياب وبين قامته الشعرية، التي ترسخت من خلال عبقريته الشعرية إذ أن شعره ترك بصمات واضحة في التجارب الشعرية الأخرى. وهنا نورد قول الناقد والأديب عبد الجبار البصري "ان جميع الشعراء الحداثيين خرجوا من معطف السياب".
ان المتن السيابي يمتلك أكثر من ميزة تؤهله للتأثير المباشر في متون لاحقة وفي عمل الشعرية العربية ذاتها..
- فهو رائد حداثة مبكرة واضحة المعالم..
- ومنجز نص حديث يتوفر على المخالفة والابتداع..
- وصاحب رؤى تجسدت بنائياً في تقنيات قصيدته..
- ومثقف يصهر في نصّه قراءات لا يحدها اتجاه أو زمن أو جهة..
- ومتانة متنه الشعري ولغته وصوره وإيقاعاته ليست آخر المزايا التي جذبت الشعراء إلى عالمه فوقعوا في دائرة سحره على حسب الدكتور حاتم الصكر
فإذا ما تتبعنا المسار التطوري لتجربة بدر شاكر السياب الشعرية كما يصنفها الكاتب السوري عماد عبيد سنجدها تتشكل من اربع مراحل أساسية، سواء على مستوى الرؤية الشعرية أو البعد الفني الذي يجسد هذه الرؤية.
مرحلة البدايات الرومانسية
وبدا تأثره بجيل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية والتي تجلت في أشعار مغرقة في رومانسيتها وذاتيتها ومغلفة بضباب من الشجن العميق والتفجع.
مرحلة الانتقال إلى الواقعية
وهي المرحلة التي اتسم فيها شعره بتناول مواضيع تخص العام من القضايا وغلب عليها النفس الإنساني الشامل وتزحزح قليلا عن الذاتية المفرطة التي اتسمت بها أشعاره السابقة، مع تطور واضح في اللغة الشعرية والأسلوب خصوصا بعد التراكم الكمي لمعارفه في الأدب العالمي وخصوصا الأدب الإنكليزي متأثرا باليوت الى جانب الأدب العربي. وظهرت في هذه المرحلة البراعم الاولى لتجربة الشعر الحر، حيث يعتبر النقاد ان قصيدة "هل كان حبا" هي من أوائل هذا الشكل الجديد من الشعر. ولو ان هذه الأولوية في نظم الشعر الحر لطالما كانت موضع خلاف عند النقاد إلا أن السياب حسم الموقف بقوله:
"ومهما يكن فان كوني أنا أو نازك أو باكثير أول من كتب الشعر الحر أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم؛ وإنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيما كتبه، ولن يشفع له أنه كان أول من كتب على هذا الوزن أو تلك القافية؟. أن الشعر الحر أكثر من اختلاف عدد التفعيلات المتشابهة بين بيت وآخر، انه بناء فني جديد، واتجاه واقعي جديد، جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية وأدب الأبراج العاجية وجمود الكلاسيكية"
وقد ظهر أيضاً النفس الملحمي في بعض قصائد هذه المرحلة ، كما في قصائد "الأسلحة والأطفال، حفار القبور" وكانت قصيدتا أنشودة المطر وغريب على الخليج بمثابة فتح جديد في القصيد العربي.
المرحلة الرمزية أو الأسطورية
استخدام بدر للرموز الإيحائية والأساطير في شعره كان قفزة أخرى في لغة وتقنيات القصيدة وكانت أيضاً إيذاناً بالانتقال إلى مرحلة جديدة أطلق عليها النقاد مرحلة الواقعية الجديدة التي يحاول بدر فيها أن يوجد تكاملا وانسجاما بين الواقعية والذاتية ويسمو بشعره إلى آفاق جديدة غير مطروقة سابقة، وبذا اثبت ريادته لهذا الشكل الجديد للشعر العربي. ومن القصائد التي تمثل هذه المرحلة "مدينة بلا مطر - النهر والموت - في المبغى- المسيح بعد الصلب - ارم ذات العماد".
المرحلة الذاتية
عندما أعيا المرض السياب وكشر الموت له عن أنيابه انكفأ على ذاته ثانية وصار يستقي من الأساطير الدينية ما قد يحمل اليه العزاء. وقد سميت هذه المرحلة من شعره، عند بعض النقاد، بالمرحلة الأيوبية، باعتبار ان السياب حاول ان يجد العزاء في التماهي بأيوب .ومن أشهر قصائد تلك المرحلة "المعبد الغريق ـ منزل الأقنان ـ شناشيل ابنة الجلبي".
اغتراب السياب الأبدي
ظلت المرأة هاجسا موحياً ومؤلماً في حياة السياب الشقية، فمنذ طفولته المبكرة عانى الحرمان من الحنان بفقدانه أول وأهم الروافد العاطفية في حياة الصبي، إذ توفيت والدته وهو في السادسة، وكان شديد التعلق بها، وانطبع. إحساس الحاجة الى الحنان في أغوار ذاته، وهي نفس شاعر بالفطرة، بالغة الحساسية. ومما زاد الطين بلة ان أناخ الفقر بكل عسفه على عائلته وعليه، والفقر شكل مع افتقاده لأي ملمح من ملامح الوسامة، شعور عميق بالتغرب عن عالم المرأة والحب.
يقول السياب:
" لقد تحدرت من عائلة تملك بستانين للنخيل يشتغل فيها فلاحون يتقاضون الثمن من الناتج."
وفي قول آخر يتذكر بدر منزل الاقنان الذي كتب عنه الكثير من الشعر وأصدر قبيل وفاته ديوانا باسمه، ومنزل الاقنان هو دار عبيد العائلة في زمان غابر، وذلك يشير الى عز قديم ذهب أدراج الرياح، حيث بيعت أملاك العائلة تدريجياً نتيجة التمركز الإقطاعي في المنطقة. وآذ تتحالف كل الظروف على تحطيم ثقة السياب بنفسه... لم يبق لديه سلاحاً يشهره ضد إحساسه بالقهر سوى الشعر. أما الملجأ الذي كان يفر إليه اثر اخفاقاته المتتالية في الحب والحياة فهو قبر أمه والنخلة الفرعاء التي تظلله.
وفي تحليل نفسي للباحث احسان عباس يقول:" وهذه صورة تجمع بين الحلم والحقيقة فتجمع بين طرفي العمر، النشأة والموت. ذلك لأنها ليست محض مجاز شعري، يستخدمه الشاعر كما تستخدم الصور في التوضيح والتبيان على نحو تمثيلي، وحسبنا دليلا على ما نزعمه أن نقرنها بفقرة من رسالة كتبها الشاعر إلى صديقه خالد الشواف وهو يقضي الإجازة الصيفية في البصرة عام 1944- يقول فيها: اكتب إليك رسالتي هذه بعد عودتي من سفرة - مضنية ولكنها جميلة - إلى الجانب الآخر من شط العرب؛ لو تراني وقد القاني الزورق على ارض رسوبية نبت عليها القصب والعشب المائي إذ أن ماء الجزر لا يوصل الزورق إلى الشاطئ - لقد خلعت نعلي وسرت في الطين، وانا اشق طريقي بين القصب، ثم وصولي إلى الشاطئ؟ إلى ارض لا اعرف منها غير أسماء بعض ساكنيها. وقفت وقدماي داميتان، ويداي مزينتان بالجراح على الشاطئ المقفر، أتلفت فلا أرى صدى، وأنصت فلا اسمع غير انين الريح، لقد نسج الخيال رواية عنوانها " موت الشاعر " ؟. ولو تحدثت لطال الحديث".
هذه التجربة الصغيرة التي خرج منها الشاعر "دامي القدمين مزين اليدين بالجراح " ، على مسافة غير بعيدة عن النخلة الفرعاء والقبر الذي يقع على الجهة الأخرى من النهر لم توح له إلا بفكرة " الموت " ؛ وهي نفس الصورة التي استوحاها من قصص الهوى المخفق، كلاهما ؟اعني الحب وهذه الرحلة - سفرة قصيرة المدى، لكنها متشابهتان في نوع الألم والجراح، وما تنزه الأصابع عند تشبث الشوك والحصى بها، لأنهما متشابهتان في البعد عن النخلة الفرعاء والقبر الذي يقع على مقربة منها "قبر أمه" وحين تحيا هذه الصورة نفسها في نفس الشاعر رغم السنوات الطويلة وعوامل النسيان الكثيرة، فمعنى ذلك أن - رحلة الحب ورحلة العمر - كانتا تنكمشان دائما إلى نقطة البداية، فإذا هما دائما عودة إلى الطفولة، إلى تلك النخلة الفرعاء نفسها التي ظلت تؤويه إليها وهو يبحث عن درة بين المحار فلا يجدها، وكل ما تجاوز هذه النخلة وظلها الوارف فهو ليس حبا، إنما هو إخفاق، أو موت على نحو ما؛ ولهذا كان كل حب مخفقا منذ البداية لأنه يمثل تجربة نمو، وكان الشاعر يقاوم هذا النمو دائما، لأنه يعني الانفصام عن جذع النخلة، وحسبنا ان نورد قوله في قصيدة السوق القديم التي كتبها أواسط الخمسينيات من القرن الماضي يضمنها ما يشبه الفلتات النفسية ذات الدلالة العميقة - دون ان يهمنا كثيرا أية حبيبة يعني:
أنا أيها النائي القريب
لك أنت وحدك
غير أنى لن أكون لك أنت
أسمعها وأسمعهم ورائي يلعنون هذا الغرام
أكاد أسمع أيها الحلم الحبيب
لعنات أمي وهي تبكي أيها الرجل الغريب
في طريق عودة السياب من لندن الى العراق عام ١٩٦٣، مر بباريس وقضى فيها أياما بصحبة بعض الأصدقاء ومنهم سيمون جارحي والصحفية البلجيكية الأصل لوك نوران، التي كان قد التقى بها في بيروت من قبل، وكانت مهتمة بترجمة بعض شعره الى الفرنسية. وقد ساعده سيمون جارحي في استشارة طبيب فرنسي مختص بالأعصاب، ولم يختلف تشخيص الطبيب الفرنسي عن تشخيص الأطباء الإنكليز في ندرة مرض بدر وعدم توصل العلم آنذاك لعلاج له. كان السياب يقضي كل وقته في الفندق لتدهور صحته، وكان محاطا على الدوام بزهور القرنفل ولما اكتشف ان لوك نوران من تترك الزهور له كل صباح، اهتز بعمق، واكبر موقفها هذا، وكتب قصيدة " ليلة في باريس " يصف شعوره اتجاه هذا العطف ويؤكد على وعدها بزيارة البصرة :
عانقت كفك باليدين إلى اللقاء
الى اللقاء
وذهبت فانسحب الضياء
لو صح وعدك يا صديقه
لو صح وعدك
آه لانبعثت وفيقه
من قبرها
لعاد عمري في السنين إلى الوراء
يقول الناقد جبرا إبراهيم جبرا
"كانت السنوات الثلاث الأخيرة من حياته فترة رهيبة عرف فيها صراع الحياة مع الموت. لقد زجّ بجسمه النحيل وعظامه الرقاق إلى حلبة هذا الصراع الذي جمع معاني الدنيا في سرير ضيق حيث راح الوهن وهو يتفجرعزيمة ورؤى وحبا، يقارع الجسم المتهافت المتداعي، وجه الموت يحملق به كل يوم فيصدّه الشاعر عنه بسيف من الكلمة... بالكلمة عاش بدر صراعه، كما يجب ان يعيش الشاعر، ولعل ذلك لبدر، كان الرمز الأخير والأمضّ، للصراع بين الحياة والموت الذي عاشه طوال عمره القصير على مستوى شخصه ومستوى دنياه معا".
يقول عبد اللطيف أطيمش :
"سألت بدرا كيف تستطيع ان تكتب كل هذا الشعر وسط ضوضاء المستشفى وكثرة الزائرين، فبادرني بقوله:" أني انتهز دائماً بعض سویعات الفجر، فأنا لا أنام جیداً بسبب أوجاع جسدي. انا اكتب عند الفجر، حین یكون السكون شاملاً مخیماً فوق ردهات المستشفى، في تلك اللحظات احاول إدخال كیاني وأحاسیسي في عالم آخر، فأحس بنفسي شفافاً، وان اوجاعي هدأت قلیلاً وابتعدت عن مسارب جسدي، تلك اللحظات هي لحظات أحساسي بالشعر، هي لحظات نسیاني لواقعي وآلامي والكتابة عن أحلامي".
بدا تعلیل السیاب هذا وكأنه رد على تساؤلاتنا المحیرة حول قدرته على كتابة الشعر وهو في حالته البائسة هذه، مریضاً مشلول الحركة. فقد كنا نندهش أنا وعلي السبتي وأصدقاؤنا الآخرون، من روعة تلك القصائد التي یكتبها شاعر مشرف على الموت، كیف استطاع أن یسیطر على لغته وأفكاره وهو یكتب بید مرتعشة لا تقوى على الإمساك بالقلم، وعیناه متعبتان لا تدركان مواضع الأسطر على الورق.
فارق بدر الحياة في المستشفى الأميري بالكويت يوم الخميس 24 كانون الأول 1964.
في يوم استمر هطول المطر فيه بدون توقف كأني به يودع إنسانا تغنى به طويلا وأنشد أجمل وأروع قصائده فيه، نقل جثمان بدر الى البصرة بصحبة صديقه الوفي علي السبتي، ووصلت الجنازة العراق في اليوم الذي يحتفل العالم كله بميلاد السيد المسيح، الذي طالما تماهى بدر بسيرته. ووري الثرى في مقبرة الحسن البصري ولم يمش في جنازته الا نفر قليل، إلا أن المطر ظل ينهمر.