ادب وفن

الفضاء الروائي في «مملكة البيت السعيد» / رنا صباح خليل

منذ البدء كان من السهولة بمكان تصور الخطوط العريضة لعنوان الرواية "مملكة البيت السعيد" للروائي حنون مجيد كي يحيلنا هذا التصور إلى أن في ثنايا الرواية أسرة تنعم ببيت دافئ تحت سقف من الألفة والمحبة إلا أن المخادعة في العنوان هي من أسس لمثل هذا التصور في ذهن القارئ إذ لا وجود للأسرة أو البيت الدافئ أو السقف الحنون في مجمل أحداث الرواية وهذه مفارقة مقصودة من لدن الروائي لتكريس ثيمة الفقد الأبوي واضمحلال الجو الأسري للشخصيات على مدار الروي فضلا عن الفجوات والنتوءات التي هي بمثابة عوائق وتابوات للنفس البشرية.
تبدأ الرواية عتبتها الأولى التي تتخطى بها عالم الحكاية بسقوط الطفلة "سالي" من الشرفة المقابلة لشقة الملكة وموتها مسببة الحزن الشديد للملكة والشارع، الذي سيكون محور أحداث الرواية والشاهد الأمثل على الفضاء التكويني للشخوص في عالم روائي ضيق محصور ما بين شقة الملكة ومحل أبي ليث بائع المواد الغذائية، وبذلك يتحدد الإطار المكاني الذي يعبر عن بنية الوجود الإنساني وإدراك العلاقات الحيوية في تلك البيئة المتمثلة بطقوس الملكة واستقبالها لزبائنها في ثلاث غرف احتوتها شقتها وما تقاسيه ابنتها "مريم" إزاء ذلك الاحتلال لمكان نومها وأداء دروسها وقد تمكن الراوي من تكثيف الأجواء ورسمها بدقة ليوضح صراعا ألمَّ بتلك الفتاة التي تعاني النقص وخلو الإحساس بالأمومة من قبل أم تنتهك حرمة بيتها بمهنة تبيح الزنى وشرب الخمر بل وإعداد الطعام لزبائنها بعد انقضاء متعتهم لتبدأ لذة جديدة تتمثل بالعشاء والرقص، ونجح في النهاية من تكوين سايكولوجية الأحداث التي تؤدي بمريم في النهاية إلى الهرب من بيت أمها ضمن المساحة الورقية التي يتحقق عبر بياضها جسد الكتابة، وهو هنا، أي الراوي يحاول الكشف عن خبايا النص ومكونات الشخوص من خلال الوقائع والأحداث ومن خلال الأشياء ومكوناتها والأشخاص وطباعها الخلقية مجسما ذلك العالم -عالم الملكة- عبر الجزئيات والتفاصيل واتخذ لتحقيق ذلك أكثر من محور وهذه المحاور تتوزع حسب أهميتها وفعاليتها في النص الروائي لدى الراوي وهي كالأتي :-
المحور الأول: وصف الأمكنة
فقد وصف الراوي الأمكنة الآتية: الشارع، الشقة بما فيها الشرفة التي تتدلى منها سلة الطلبات التي تدليها مريم لأبى ليث كي يلبي مشتريات أمها، والغرف الثلاث التي ينام فيها زبائنها ومن ثم الصالة التي تعد لهم العشاء فيها ويتم الرقص وشرب الخمر في مدارها.
المحور الثاني: وصف الأشياء
جاء وصفه للأشياء عبارة عن وصف لوحات يومية يجد فيها القارئ صور المتعة وجمال التناول للأسلوب الشيق المرن بما يحبب استمرارية القراءة ويشد على اليد لاستكمالها إلى النهاية.
المحور الثالث: وصف الحالة النفسية والفكرية للشخوص
بالرغم مما يحيلنا الفهم عادة على مستوى التفكير لدى شخصية مثل "الملكة" على أنها إنسانة نفعية تستغل شهوات الناس ولا همً لديها سوى المال، إلا أن الحال لدينا يختلف مع هذه الشخصية فهي تمتلك مشاعر صميمية في وجدانها ورغبة عارمة بأن يمتلكها شخص ما تحت أي مسمى؛ العشيق أو الزوج، فالمهم أن تكون بينهما مشاعر صادقة فضلا عن استعدادها للافتتان بالعالم المحيط بها ما أهلها لان تقع في حب صالح، وهي هنا ذلك الإنسان بمحاولاته الأزلية الأبدية بين الروح والجسد وتأرجحه الدائم بينهما، وهذا كي يصل الى القارئ بطريقة تنم عن إمكانية "حنون مجيد" الفنية التي لم تكن مبنية أساسا على رؤية العالم الخارجي، بل على قدرته الخيالية القادرة على جمع هذه التفاصيل والجزئيات ووضعها في إطار صورة متكاملة.
أما صالح الذي يدخل عالمها بعد أن تستأجره إلى السوق، فيجيد التوقع بحكم خبرته الحياتية التي ليست قليلة، أنها سهلة المنال، فهو مدرس عاش سنيّ الحرب في العراق إبان الحرب العراقية الإيرانية، وكان ذا بصيرة عالية بمكنون الحروب ومكنون الحرية لدى الإنسان الأمر الذي جعله يهرب من الجيش اثر سؤال يطرحه عليه صديقه أبو ليث، ذلك المهندس الذي نالت الحرب منه أيضا فيسأله في إحدى المعارك لماذا نحن هنا وكأنه قد حرك الدافع الداخلي لديه كي يقرر إما الحياة أو الموت، وقد اختار الهرب ليس من الحرب فقط وإنما من العراق بأكمله وبذهابه الى لبنان، وتتعدد المسميات لديه، ثم استقر على أسم صالح بعدما كان اسمه شاكر، ويعد ذلك أحد ألغاز الرواية التي حاولت الايهام على شاكر الهارب من الخدمة العسكرية باسم آخر هو صالح الذي يغتال من بعد عودته إلى العراق خالي الوفاض، لا يملك سوى سيارة تكسي يعمل وينام بها، ومن ثم يلتقي بالملكة عن طريقها، وتبدأ حياة جديدة لديه اذ يجد في الملكة ما أوقف زحفه نحو المجهول ويجدها تلك المرأة التي تمنى لو التقاها في شبابه في ظروف مختلفة، قبل أن تضيع الهوية لديه ويضيع معنى الحياة ومعنى الانتماء في عالمه . هذا الضياع نجده الصبغة التي اصطبغت بها مجمل الشخوص ولا يخفى كون وجودها من تأثيرات الحروب على المجتمعات لا غير فأبو ليث لا يشعر بدفء بيته بل يجده مكانا للفوضى والضجيج ولا متنفس له فيه فضلا من وجود الحارس المراقب الذي يحصي عليه أنفاسه ولا يجد بديلا عنه سوى دكانه وربما إحساسه هذا في الأعم والأشمل يقصد به وطنا وبلدا لا يجد لنفسه مكانا فيه، فهو المهندس الكهربائي والخادم في الجيش عدة سنين الذي يجد نفسه بائعا للمواد الغذائية وربما خادما مطيعا لنزوات الملكة وكثير من الناس الذين يتكالبون عليه لسد رمقهم من دكانه، أما صديقه المحامي الذي بترت ساقه في الحرب فهو الأخر ليس لديه سوى الرواح والمجيء ما بين ذلك الشارع ودكان ابو ليث وذلك اللقاء الذي يبدأ من الثامنة مساء وحتى العاشرة بالتقاء ثلاثة أصدقاء هم ابو ليث وصالح والمحامي ومائدة عامرة بالمشروب يتسامرون الحديث حولها. ثلاث شخصيات نوعية دفعة واحدة في تعاقبية سردية يدخل من خلالها الراوي إلى حوار أو عدة حوارات تتحدد من خلالها الأفكار والرؤى وكأن الراوي فيها يوزع نفسه على ابطاله وينطقها بما سكتت عنه طيلة السنين التي مرت وما خاضوه فيها من حروب لا ذنب لهم فيها أخذت من تاريخ العراق المحتدم بالخسائر وبالنكسات، فالرواية تتحدث عن فترة من تأريخ الصراع ما بين انقضاء الحرب العراقية الإيرانية إلى بداية الاحتلال الأمريكي للعراق ولكنها لا تتعكز على التاريخ ولا تستمد مادتها من أحداثه إلا بالقدر الذي يتماس فيه مجرى حياة الأبطال معها، والرواية لا تعتمد على السياسة بالرغم من نقاش أبطالها على الدوام في أمورها، فالرواية لا تطمح باختراق محرماتها أو تحطيم حواجزها إلا بالقدر الذي يميط اللثام عن علاقات أبطالها ومصائرهم، وفي نهاية النقاشات تلك نجد الراوي دائم الطرح لثيمتين واضحتين داخل الرواية متلازمتين لدى حديثه عن الوطن وهما الاغتراب وفقدان الهوية وهما قضيتان لا يمكن لأي قارئ أن لا يراهما واضحتين في فصول الرواية البالغة أربعة وعشرين فصلا رغم أن الرواية لا تتعدى المائتين واثنين وأربعين صفحة.
الأسلوب والصور التي تجمل النص:
لغة "حنون مجيد" لغة متينة، وسلسة في هذه الرواية كما انها محتشدة باللقطات الرائعة للمشاهد والشخصيات دون ندوب يمكنها ان تشوه لغويا وجه النص، إحدى تلك اللوحات قصة أبي ليث الذي أحب مريم التي تذكره بسوزان رفيقة الطفولة التي خسر صداقتها عندما لامس بإصبعه ثديها حين أحس بروزه بفطرة الذكورة لديه وهي ابنة الثانية عشرة، كانت مريم تلك الطفلة على مشارف المراهقة تذيبه عشقا يصفه الراوي بأنه عشق غريب بسبب فارق السن بين الاثنين وأنا كقارئة أجده طبيعيا لا شائبة فيه، بل رسم لوحة جميلة في الرواية وهذا ما نراه في النص التالي:"عندما بلغت العاشرة ولم يغلق الدكان، ولم تسمع مريم صرير الباب، قطعت خلوتها مع دروسها وأطلت من الشرفة في لمحة خاطفة، حسبها ابو ليث اشراقة نور نفذت من خلف غيمة دهماء. وان غابت الصورة بسرعة فأن شبحها ظل ماثلا قاطعا عليه الامتثال لرغبة صاحبه في كأس أخرى".
كما لا يخفى ذلك التناغم والاتساق الملحوظ الذي اخذ مساحات ألبست النص الروح الإبداعية والفنية التي تدل على فرادة في الانسجام بين ملكة الكتابة والالتزام المشهود بالإتقان، برصد تسجيلي وبحكم ان الرواية تعبر عن احد هموم المرأة وهو فقدانها للرجل فان ما يتعلق بالبيئة النسائية من فساتين وعطور استطاع الراوي باقتدار شاعري انيق ان يدون لكل شاردة وواردة تخص الميل الفطري الأنثوي إلى الجمال الخارجي وفي رصد صالح لجسد الملكة ورصدها هي لمقتنياتها يعكس جانبا تعامل مع روحها الانثوية رغم انها لا تتمتع بجمال أخاذ ولا هي بعمر الزهور فهي في خريف عمرها لكن الروائي استطاع ان يكشف لقارئه عمقها الانثوي المخبوء ويجسده في انفعالاتها الحارة على سرير نومهما المشترك وهذا يتجسد في:" تعرف الملكة أن صالحا قد يعود اليها قبل العاشرة موعد اغلاق ابي ليث دكانه. كانت ترى رغبته العاتية في عينيه، ولم يكن جبروته في صمته وصدوده الا اضرام حاجة كان يكابدها ويكابحها بعناد شديد وكانت هي خلال تلك الأيام، تضرم النار في فؤاده كلما رشت جسدها بعطر جديد ......".
أشارات تحيلنا إلى النهاية:
ثمة تداعيات تبثها الملكة في منولوج يتسم بجلد الذات تواجه فيه الملكة اخطائها مع صالح وذلك في النص الاتي:"كان أعظم همها ان يغفر صالح لها ما انطوى صدره عليه وأغلق فمه عنه، ويعود إلى سيرته الأولى معها، كانت تدرك انها حطمت في نفسه شيئا ثمينا...".
وفي هذا إشارة مبدئية لاختلاف العلاقة بين الملكة وصالح وما ستؤول اليه من فتور رغم انهما الى نهاية الرواية ظلا متحابين على درجة من التفاوت ربما كان في مكانه الصحيح مع علاقة من هذا النوع بين رجل وامراة.
الا ان هذا التفاوت لم يأت من فراغ بل أتى اثر صدمة قاستها الملكة وقاساها صالح المفتون بالغريزة الجامحة اتجاه الانثى، ذلك الافتتان الذي جعله يقبل "مريم" على رابية خدها قبلة تحرك انوثتها وتدلها على المبهم الذي لم تشعر به سابقا ازاء لمسة رجل ما ، ولولا تلك العبارة التي نطقت بها الملكة والتي انزلتها كالصاعقة على مسامعه / ابنتك يا صالح/ لتسنى له ان يخوض حلما ويتنفس تجربة جديدة مع مريم؛ التي احبته وهامت به ولم تتحمل قصة موته بل انها اختفت من ذلك العالم الذي لا يحوي صالحاً، وربما ذلك اعطى صفة الغرائبية للنص او اسطرته، فاختفاء "مريم" كان شيئا مفاجئا وكان بطريقة مبهمة وكأنها طارت من تلك الاجواء المنبوذة لتظل هي البذرة النقية التي لم تتلوث فضلا عن شخصيتها الاستشرافية حين تنبأت بالخوف القادم المروع عندما رأت بوادر تقدم الاليات الحربية الامريكية نحو العراق.
ومن الاشارات أيضا ظهور شخصٍ ما غريب يباغت الجلسات في دكان ابي ليث، التي كانت تعقد بينه وبين صالح وصديقه المحامي وفي ذلك إشارة الى المراقبة السرية التي تبث الخوف في نفوس الناس في ذلك الوقت المشحون بالمراقبة وحبس الأنفاس.