ادب وفن

محنة الذات في مسرحية «سلم العلاء» / د. ماهر عبد الجبار الكتيباني


يحقق عرض مسرحية "سلم العلاء" تأليف وإخراج "ميثم فاضل"، آفاقا تنفتح على قيم فلسفية تلامس الوجدان وتسمو بالروح، بل وتسهم في تصديها بشكل واضح لكل ما يشكل سببا في دونيتها. عرضت المسرحية في مهرجان "ينابيع الشهادة"، المسرحي الوطني الرابع الذي أقامته نقابة الفنانين في بابل للمدة من 18-20/12/2014، تقديم المديرية العامة لتربية بابل، مديرية النشاط المدرسي.
يعالج الإرسال القيمي الذي يطلقه العرض، مسألة وجود الذات، وانغلاقها في سجنها، ما يطمس ويغيب الحقيقة الواضحة والمطلقة، لكن سطوة الضمير تظل حية، خاصة إذا ما امتزجت بمسببات النجاة بوصفها الثيمة الأكثر وضوحا، فإذا ما غابت الذات عن وجودها وأسبابه المنجية، أصيبت بعماء البصيرة، وغاب عنها دافع الالتقاء مع الذات المخلصة كونها أداة للنجاة والعُلي والتعالي عن الأدران التي تبهرجها المادة فهي الوسيلة الأكثر صرامة في تحييد الذات عن سراطها، وانحرافها عن النهج القويم.
عملت الرؤية الإخراجية في مسرحية "سلم العلاء" على مبثوثات شَيدتها مفردات "الموج، النجاة، الحلم، الزورق، السفينة، وغيرها"، وتلك توافرت على وفق خطة متعانقة مع الذوق والمزاج الغالب، ومستهدفة الذات الأخرى المختفية في ظلمة سجن التردد والانعزال، وتماديها يؤدي بها إلى بحر الظلمات، صَرحَ العرض عن مضمونه عبر هيمنة الخارطة الجسدية ومكامن جغرافيتها، التي دعمتها بنية المؤثرات الموسيقية التي تحكمت بإيقاع المشاهد بشكل دقيق، حيث تمكن عبرها المخرج ببراعة المبتكر أن يجمع بأناقة المحترف تلك المكونات، في ضوء وسائل الأداء والتعبير الحديثة التي تعمل عليها المنطلقات التجسيدية في طرح الأفكار، وآليات التفكير المقترحة في بنائها دراميا.
إن تحرير طاقة الجسد وانشطاراته، وتحولات الشخصية، فضلا عن بنية اللون التي تصدرت المشهد، منحت تعقيدا لخصوصية العرض ومرسلاته، عبر التنظيم المنضبط زمنيا للخطوط الحركية التي تخزن الدلالات ومتفاعلاتها الحاضرة، وهي تلتقي مع المؤطرات الأخرى ضمن انشائية المتصور الذهني للمخرج والمتلقي في آن واحد، وتَقبل فكَ القيد، وتحرير الطاقة الكامنة في الذات للتماهي مع حقيقة الوجود، التي تراوحت عليها الرؤية الإخراجية، ومعالجاتها، ولعل ما يمكن أن يلحظه المتلقي هو تجسيد فكرة الخلاص، والتجسيد هو التواصل الذي يتسم بالاتفاق مابين العرض كنص إبداعي، والمتلقي العارف، بمعنى تجسيد فكرة العلو، والتنزه عن الموبقات التي تجعل الذات معطلة عن التعرف على الحقيقة الماثلة التي لا لبس فيها، ويمكن ان نحقق مقاربة فلسفية مع "اوديب" بعمائه عن الحقيقة، وتصديه للسلطة القدرية يفقده بصيرته، والمستهدف هو المتلقي الذي يتطهر عن ادرانه حين يلحظ تلك الحادثة، والمحتوى لا يبتعد عن الفضاء الروحي، فمن يتجاهل الحقيقة ويظل مقيدا بسلاسله المكبلة لروحة لا يقدر على التجرد عن سجنه، والبصيرة تقوى مع الحقيقة.
عمل المخرج بحرفة وتقانة عالية على تطويع جسد المجموعة، بوصفها ذوات منطلقة عن "سالم" الشخصية المركزية التي يتضح في دائرتها الفعل الجسدي للمجموعة التي تمثل النسيج المتداخل للأفكار المنطلقة عنها، والتي تعكس بأسلوب تعبيري الوجه الماثل للحقيقة المعبرة عن سطوة الضمير، أو الحس الجمعي للحقيقة المتمركز في اللاوعي، والذي تتمثله تلك المفردات الجسدية الأربع، بوصف الشخصية تمتلك في باطنها قيمتي الخير والشر، فإذا ما غابت الحقيقة عنها وقعت في فخ العماء الروحي ذلك يرسمه العرض عبر نثر العملات النقدية، التي تحبس الذات في سجنها ثم تطلقها بعد انسجامها مع الحقيقة، وتنزهها عن القيد المكبل لها، عندها يتحول السجن إلى سلم يدفع الإحساس بالذنب ليسمو ويرتقي العلاء. يطلق المخرج أفكاره بحركية جسدية يكشف من خلالها ما يريد إيصاله ودسه في محتوى الذاكرة، فالمساحات تضيق وتتسع، تضيق حين يكون "سالم" بعيدا عن كينونته، وتتسع كلما اقترب من الحقيقة، فضلا عن توظيف مفردة الكرات الكبيرة التي تشكل فاعليه دلالية تقترن بالعقل واستقرار الأفكار فيه، وتلاقفها بين شخصية وأخرى يجسد تحول الميول والأفكار وصولا إلى أن تكون قارة متماسكة، والاسم "سالم" يمتلك دلالة تعبيرية، تفصح عن إحساس العرض ومضمونه الفكري، المنطلق عنه، والثيمة المركزية تتمثل في أن الروح تَسلمُ مع الحق.
تمثل المجموعة صورة الذات، وهي السوط اللاسع الذي يجلد ذخيرتها الجامدة، ويحفزها نحو التخلي عن السلاسل الحديد المكبلة لحريتها، مع ما تفرزه من مكون صوتي، يتصل بالذاكرة ودلالات الصوت، وتحريرها من داخل سجنها الذي شكلته البنية الجسدية بزيها المتضاد مع القطعة البيضاء الكبيرة خلف المشهد حيث تسقط عليها الإضاءة الحمراء ذات الصلة بمأساة أصبحت منجية، فالأحمر الدال والمتفق مع الدم يتصل بالبياض الذي تمثله عذوبة وبراءة القيم الروحية وعدم تلوثها على المدى من هنا كان الاقتران الشرطي مابين الأسود بالدلالة الجمعية على الحزن، بالأبيض الذي يماثل الحرية والحقيقة، كما يمثله الضمير المنطلق عبر المتلقي إلى العرض بوصفه الضد النوعي، ثم توالي المنظومة المشهدية بإيقاعية منسجمة أنيقة، لتعلن عن زمان ومكان التحول في الذات، وصولا إلى أن يكون الانعتاق وتحقق الرؤية، والإجابة عن الأسئلة التي يطلقها الضمير وهي غير معقدة فسبيل الحق واضح لا تعقيد فيه، ترسل عبر استخدام تقانة خيال الظل، ليعمق المخرج فكرة توافر الخير كضد للشر الطارئ على الذات المتطلعة إلى النجاة.
ان الاشتغال على المساحة الافتراضية المقترحة في العرض وإنتاج زمانها ومكانها وتأثيراتها الفاعلة في المتلقي، يحسب للعرض بوصفه عرضا مسرحيا مقننا ومقتضبا، بطاقة أدائية متميزة ، في الوقت نفسه يتمدد على آفاق غير متناهية، للعمق والبناء المتحرك دلاليا الذي تميز به النص المقروء، فضلا عن تميز كفاءة الأداء وانسجامها في العطاء ما حققت عرضا متميزا منح المتلقي خشوعا، وأناقة التلاقي مع الوقع النفسي الذي يحدثه ذلك الموج الهائل الذي يصرخ انتماءً وهو يتلمس طريق الحق عبر بوابة الإمام الحسين عليه السلام حتى أن المتلقي الذي اتصل العرض معه عبر تسلمه راية تمجد فعل الحق في ذاكرة الأجيال، أضحى منصهرا ومتحاورا بشكل ايجابي مع كل المكونات التي نسجت بنية العرض في مدخلاتها ومخرجاتها.