ادب وفن

النسج الفني في أرجوحة محمد خضير / علوان السلمان

القصة القصيرة فن حكائي يعني بمظاهر الخطاب السردي أسلوبا وبناء ودلالة.. ويسعى إلى إعادة إنتاج الواقع عبر التخييل اللغوي.. فضلا عن الاستعانة بتقنيات تعبيرية موحية.. كونها نتاجا منفتحا على آفاق الإبداع.. باستجابتها للمشهدية السيمية والتشكيلية والتأثير والتأثر بمعطياتها الجمالية والدلالية التي تساعد على تعميق الخطاب وخلق الصور المتميزة بحركتها الدينامية وصورتها الستاتيكية..
والتي تحضر على المستوى الدلالي الذي يشكل منطلق صناعة الاثر الجمالي.. بوصفها دلالة تتمركز حولها الرؤية السردية متمثلة بالمفردة التي تسهم في تحطيم طوق الرتابة وإضاءة أبعاد السرد الاجتماعية والنفسية من خلال وصف الشخوص والأمكنة.. باعتماد أسلوب بنائي يعتمد "حبكة قائمة على صراع يؤدي الى فعل يتنامى ويتكثف شيئا فشيئا.." على حد تعبير أي. ال . بادر في كتابه "بناء القصة القصيرة الحديثة"..
والقاص محمد خضير الذي كان حضوره في خضم الانكسارات والحروب استطاع ان يقدم نصا سرديا متجاوزا بحداثوية سردية معاصرة مقترنة بابجدية المكان الطافح بالرمز والمجاز والصانع للدلالات والمعاني.. ابتداء من مملكته السوداء /1972وفي درجة 45 مئوي وبصرياثا/ 1993 وانتهاء برؤيا خريف/1995.. كونه سارد رؤيوي يمنح مخيلته التحليق في عوالم الواقع المرصود بقواه الوجدانية.. الذاتية والموضوعية ومكتسباته المعرفية ورؤاه عبر الذات المنتجة والآخر الجمعي..
"اسند الدراجة الى جذع نخلة ثم عبر قنطرة انصاف جذوع النخيل المغطاة بالتراب المتماسك.. واثناء عبوره الحذر شاهد طيور الحمام تخرج من صفائح التنك المثبتة مع ضلعي الغرفتين وفي زاوية التقائهما كان الماء يجري تحت القنطرة في سورات لامعة.. وغير التنور كانت شجرة عالية عند الضفة وثلاث نخلات طويلات ربطت بين اثنين منها ارجوحة تحاول الطفلة التي خرجت من الغرفة الصعود الى حمالتها..
ـ استرح هنا يا بني.. أين انتم الآن؟
ساعد زائر الطفلة على الاستقرار في حمالة الأرجوحة المقتطعة من كيس خيش ثم جلس على الحصير الذي فرشته العجوز تحت الشجرة واسعة الظل..
ـ نحن الآن على الحدود..ثم استبدلنا أخيرا من الجبهة..
ـ ومتى سيحصل ابني على إجازة؟
ـ إجازة؟ قريبا ربما الشهر الذي يأتي.. ألم تسمعوه في الإذاعة؟
ـ لا .. ترك راديوه الصغير هنا ولكن لا احد يفتحه..دعني أقدم لك شيئا..
قطعت ساحة البيت نحو السقيفة ينسحب ذيل ثوبها الأسود على التراب وتبعتها دجاجة راكضة من وراء السقيفة.. وكان الحمام يحلق في سماء البيت او يلتقط ما يجده في ساحته..
ـ ما اسمك يا بنية؟
ـ حليمة
ـ حليمة بابا يريدني أن أقبلك.
فالنص يعانق المكان بكل موجوداته.. باعتماد بنية الرؤية لخوض غماره.. من خلال الجمع بين واقعية الصورة وغرائبية الحدث بحكم تشبع الواقع بما هو غريب وعجائبي..
فالقاص يتجاوز المألوف بتأهيل الشكل في الاتجاه الفني والفكري الحداثوي.. بانفتاح النص على الأشكال التعبيرية والتقانات الفنية كالاسترجاع والتذكر والمشهدية السيمية والتشكيلية.. باعتماد رؤية بصرية في صناعة اثره الجمالي.. فكان اسهامة فاعلة في بلورة خطاب سردي متكامل ابتداء من "البطات البحرية" التي شهدت له بفوز إبداعي اعترافي في الداخل فكانت جواز سفره لاختراق الآفاق وعبور الحدود اذ النشر في مجلة الاداب البيروتية وتألق قصته "الارجوحة" التي يفرد لها الدكتور سهيل ادريس تنويها اشاريا خاصا بابداع مبدع.. والتي تميزت عن غيرها من قصص الحرب المكتوبة بعد نكسة حزيران 1967.. والتي يقول عنها القاص "عندما كتبت هذه القصة كنت في سن الخامسة والعشرين ووجدت صعوبة في السيطرة على المشاعر الذاتية التي كانت تختمر في نفس شاب قليل الخبرة في السياسة والحرب لكني كنت على وعي كاف بظروف كتابة القصة ومع ذلك كانت الموازنة صعبة بين الحدث الكبير وفن التعبير عن سخونته وأثره وصدمتنه.."..
فهو فيها يسجل الأحداث بطاقة تعبيرية اسلوبية تعتمد الرؤية التي لا تغادر معطيات عالمها الواقعي.. ابتداء من النص الموازي العنوان الذي يشير الى مكون مكاني رامز يشكل وسيلة فنية لتحقيق غايات موضوعية وجمالية ونفسية تشغله "الارجوحة" رمز الحياة وحركتها التي لا تعرف السكون وهناك النهر رمز الوجود للحياة.. اما السواد فهو الواقع المأزوم الذي تشغله المرأة العضو الفاعل عند القاص والمحرك لجسد المكان..
"وظهرت امرأة ملفوفة بالسواد من خلف التنور الملتهب وصاح الفتى الحليق عبر النهر..
ـ يا امي ألديك ولد في الجيش؟
ـ نعم ابني علي
ـ علي قاسم
ـ نعم هو.. أتعرفه؟
مسح الفتى رأسه ونظر إلى الحقيبة المعلقة بمقود الدراجة..
ـ أنا قادم من هناك.. انه صديقي.. أنا وهو في نفس الوحدة..
ـ كيف حاله؟ مرت مدة طويلة من دون ان يكتب لنا رسالة.. كيف هو؟
ـ يا أمي ولدك قد...
التفت إلى الحقيبة المعلقة في المقود.. وتطلع إلى البيت والى السطح والى مجرى النهر والى وجه المرأة الملوح باللهب.. وقالت المرأة الملفوفة بالسواد:ـ أهذه حقيبته؟
ـ هذه.. لا.. حقيبتي
ـ لديه حقيبة مثلها.. كيف هو؟
ـ بخير يبعث بسلامه اليكم ولطفلته حليمة..
فالنص يصف البيئة والشخصية وتصويرها واقعيا وغرائبيا.. فضلا عن اعتماده منهجا فكريا وفنيا سحريا ماثلا في اللغة السيمية ومحاولة الإمساك بمؤثرها.. فقدم نتاجا ادبيا ينطلق من إحساس انساني بالواقع..فضلا عن اعتماده بنية رؤيوية تعتمد حرية التنقل في المكان وتداخل الأزمان.. وتستدعي قارئا واعيا يتفاعل معها من اجل امتلاك ناصية مستواها التعبيري الذي يتخذ من الشكل الفني رؤى تتداعى عبرها المفاهيم الزمكانية والحبكة والشخصية..
وبذلك كانت الأرجوحة نصا سرديا متميزا بحبكته الواعية وسرده الحكائي الذي لا يخلو من غرائبية تتماشى مع الحدث انسانيا وفنيا..
فهي تجمع ما بين ضمير الغائب وضمير المتكلم فتصور العلاقة الايجابية القائمة على التواصل بين الأنا والآخر بلغة بيانية تمتاز بدقة التعابير الموحية والصور الشاعرة والتراكيب الدلالية فضلا عن الحوار بأنواعه الذاتي والموضوعي للتعبير عن مواقف الشخصيات واستنطاق وجهات نظرهم ومنظوراتهم.. إذ تماشي السرد مع الحدث إنسانيا.. بحكم التقاط القاص اللحظات المنحصرة في عودة جندي من الجبهة متلبس شخصية صديقه الذي استشهد هناك..وها هو يحمل حقيبته ونبأ وفاته الذي لم يصرح عنه مباشرة.. بل يستأنف حضوره وخروجه من الحقيبة بانسياب دخاني صامت فيغوص في النهر..
ـ هل نمت يا حليمة
ـ خرج من الحقيبة كالدخان ولم يتكلم
ـ وأين هو الآن
ـ لست ادري لقد ذهب.. غاص في النهر.
فالقاص يكيف تفاصيل النص على نحو يجعل منها دلالات ورموزاً مع اطلاق حس الذاكرة لاستعادة مشاهد عن الاغماض والانفتاح لعيني حليمة التي تشكل التحام الزمن بوحدة مكانية بصرية..
"وذابت ثانية في الشمس وعادت تضع راسها على عضد ذراعها الممدودة.. ساكنة الوجه وقد أغمضت عينيها:
ـ أرى أبي ها هو يؤرجحني في حضنه ولكنه لا يتكلم كالأخرس.. حلق شعر رأسه مثلك وكأني غريبة عنه فهو لا يعرفني ولا يتكلم معي أبدا..
ثم فتحت عينيها وقالت:
أين ذهب؟ كان معي يؤرجحني..
لقد اختفى الآن حين تفتحين عينك يختفي
ـ أين؟
ـ لنبحث يا حليمة أتسلق النخلة؟ كلا وإلا رايناه..هل غاص في الماء؟ لا والا اختنق إذا ما بقي طويلا تحت الماء .. آه أتعرفين أين؟ في تلك الحقيبة.. اترينها يا حليمة؟
ـ أية حقيبة..
ـ تلك في الضفة الأخرى الحقيبة المعلقة في الدراجة
ـ الحقيبة الصغيرة؟ كيف تسع جسده؟
ـ ولكنه كالدخان تذكري يا حليمة انه كالدخان
ـ لم أره جيدا كنت في حضنه
ـ أأجلس معك في الأرجوحة؟
فالنص يعالج شكلا من أشكال الإسقاط النفسي وهو يصور الصراع ما بين الذات والموضوع بلغة المجاز المركزة مما منح النص عمق الدلالة وغاية القصد التي انصبت في بعدها الإنساني وواقعها بما هو كائن بثقله.. انه يكشف عن تعدد حقول الدلالة المتسعة مع امتداد السرد فضلا عن تعتد مادة الحدث الذي يشير ولا يصرح كونه يعتمد اللحظة المتسارعة المشحونة بهمها الاشاري المتجاوز بحدود الزمكانية باعتماد التكثيف الذي اضفى على النص شعرية مجنحة بصورها التي تحمل رؤى تشتبك مع متلقيها ذهنيا ووجدانيا..كونها تعتمد الإحالة والتأويل بلغة تلمح ولا تصرح بجملها المكثفة الموسومة بالحركة والتوتر والمتكئة على معيارية تتشكل من مقومات السرد ـ الحدث ـ الشخصية ـ البنية الزمكانية.
فالقاص يحاول أن يجعل من عناصر المشهد السردي معادلا رمزيا للحدث وهو يلتقط اللحظات العيانية بوعي شفيف متأمل لكي يضفي شيئا من خلال مواصلة كشوفاته ومحاولة التخطي للمناهج التقليدية فخط لنفسه اقانيم تميزه عن سواه..