ادب وفن

الصورة الإبداعية في ملحمة جلجامش / عدي العبادي

من سطور المقدمة لملحمة كلكامش تتضح لنا أروع صور الإبداع ولا أقصد هنا الصور الفنية فقط بل حتى التربوية والأخلاقية، فالملحمة عبارة عن نص أدبي اجتماعي فكري جمع في طياته كل المعاني الجميلة للحب و الصداقة وفعل الخير وانتصار الإنسان للروح الإنسانية مع المحافظة على وحدة النص الإبداعية، وقد أعطى النص أبعاد فكرية ناضجة، فبعد ان يشرح المؤلف بطش كلكامش الملك وظلمه وكيف انه كان يغتصب أي عروس قبل دخول زوجها عليها، وبظلمه لرعيته نجد ان خيال المؤلف الخصب قد ابتكر طريقة جميلة وهي عقد اجتماع للآلهة وتباحثهم في سبيل تخليص الناس من الظلم وكيف ان الإله هو الذي يفكر في عباده ولا يقبل بظلمهم حتى من كلكامش الذي كان ثلثيه إله والباقي بشر أي تجري فيه دماء الإلهة المقدسة.
أما الصورة الأخلاقية الثانية التي تجسدت بحب كلكامش بطل الملحمة لصديقه انكيدو فقد رفض دفنه وحين تعفنت جثته قال لهم ادفنوه انتم أنا لا أقوى على دفنه. أي حب هذا الذي ترسخ في داخل ملك طاغية كان لا يعرف أي لغة غير القتل وانتهاك الأعراض وكيف أصبح هذا الوحش الكاسر عاشقاً يحمل كل هذه الشفافية؟، وتطل علينا الصورة التربوية الثالثة وهي الأهم من كل الصور والمحور الاساسي للعمل حين شاهد كلكامش السور الذي بناه حول المدينة وعرف ان فعل الاشياء العظيمة والمنجزات التي تخدم الناس تخلد اسمه وتبقيه محفوراً في الذاكرة، وكانت ضربة إبداعية بمثابة رسالة لكل إنسان بصورة عامة وكل ملك أو حاكم بصورة خاصة فحين عاد كلكامش من رحلته الطويلة الشاقة وهو محبط يائس بعد ان فقد عشبة الحياة التي غامر من أجلها وترك المملكة وقد حصل على مراده ولكن الحية سرقت منه عشبه الخلود ولهذا كان البابليون يقولون إن الحية لا تموت فهي أكلت عشبة الحياة وسقوط جلدها كل سنة يعني مولداً جديداً لها.
كان الملك اليائس قد فقد آخر أمل له في الخلود وعرف ان نهايته ستكون كمصير صديقه انكيدو لكنه حين وصل إلى أورك ورأى السور العظيم الذي بناه كي يحمي المدينة والناس من الغزو انعكست صورة فكرية في داخله فقال مع نفسه ان هذه المنجزات العظيمة هي التي تخلدني بدل الظلم والطغيان ومن هنا يطلق مشروعاً إصلاحياً واسعاً ويقوم بالتغير ويصبح جلجامش انساناً آخر بكل المقاييس يفعل الخير ويتعامل بطيبة ويتوجه لبناء مشاريع كثيرة.
ان الكثير من الحكام والملوك كانوا السبب في جلب الويلات والمصائب الى شعوبهم و الدمار والموت بحروب رعناء لا لشيء الا من اجل بناء مجد وتاريخ لهم، ولو نظرنا الى الكثير من الحروب التي تسببت بمجازر وهلاك امم نجد انها وقعت لا سباب واهية وكان وراء استمرارها عناد وكبرياء بعض الحاكمين ويبقى الشعب المغلوب على امره هو الذي يدفع الثمن. خلاصة العمل تنهيه الملحمة بموت كلكامش وحزن مدينة أورك كلها على الملك العادل بعد ما كان الكل يكرهه ويتمنى الخلاص منه لكن بعد التغير أصبح محبوباً وهنا تظهر لنا صورة ثانية وهي حزن شعب بابل.
ان أي شعب من الممكن ان ينسى أفعال الحاكم اذا ما غير من سياسته وأصلح ويمكنه فتح صفحة جديدة وكل هذه القيم الرائعة التي جسدتها القصة نجد فيها روعة التعبير وبلاغة الحبكة الأديبة ودقة الوصف عند إنسان الرافدين منذ عصر ما قبل التاريخ فحين يصف الكاتب جمال وهيبة وقوة كلكامش يقول في النص الطيني الأول عن الملك: هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا، هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء معاً سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق. رأى أسراراً خافية، وكشف أموراً خبيثة، وجاءنا بأخبار عن زمان ما قبل الطوفان. مضى في سفر طويل، وحل به الضنى والعياء، ونقش في لوح من الحجر كل أسفاره. رفع الأسوار لأوروك المنيعة، ومعبد إيانا المقدس، العنبر المبارك. فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس. وانظر، فجداره الداخلي ماله من شبيه. تلمس، فعتباته "قد أرسيت" منذ القدم. تقرب، فإيانا لعشتار، لا يأتي بمثله ملك، من بعد، ولا إنسان.
ان روعة هذا الوصف يدل على مفهوم الجمال والإحساس العالي عند مبدع الرافدين فهذه الكلمات كتبت قبل خمسة ألآلاف سنة وهي أقدم نص أدبي وجد لحد الان ولقد وصف الكاتب بطل قصته بشتى الأوصاف معبرا عن سعة خياله في ابتكار الجمال لكن هذا البطل يظهر في الوهلة الأولى شخصاً مدمراً لا يرحم احد فيقول الكاتب في مقطع ثان عن جلجامش: وعلى صوت الطبل يوقظ رعيته - ثار أهل أوروك في بيوتهم:"لا يترك جلجامش ابناً لأبيه، ماض في مظالمه ليل نهار. وهو الراعي
من هذه السطور تكون لدينا صورة ان جلجامش البطل كان جميلاً وذو حكمة لكنه ظالم للرعية وقد اجتمعت الإلهة وقررت معاقبته كما في الأسطورة وقررت خلق قوة بحجم قوته كي تأدبه فقررت خلق انكيدو الهمام.
ان خلق شخصية انكيدو كان توظيفاً موفقاً نجح الكاتب في زجه وقد ادخله بحبكة أدبية وقد عرفنا انه شبه متوحش فهو يعيش في الغابة ويأكل العشب ويشرب الماء مثل الحيوانات وشعر رأسه كشعر المرأة، وقد قال عنه الكاتب ان الظبية أرضعته وانه لا يفهم أي شيء غير حياة البراري وكل أصدقائه من الحيوانات وهذا ما جعله يفسد على الصيادين صيدهم ويقطع شباكهم وكي يقنع الكاتب المتلقي فقد جعل لقاء البطلين من خلال رؤية أدبية بعيدة عن الضربات الخيالية أو ما يسمى اليوم بأدب الواقعية السحرية التي نجدها في أغلب الروايات فقد كان أحد الصيادين يحاول الصيد لكن انكيدو خرج عليه وأفسد فخاخه ومزق الشباك وقد هرب الصياد حين شاهده وأخبر أباه ولم يحاول الصياد مواجهته أو الاعتراض على تصرفه غير المبرر فقد خاف منه بشدة حين شاهده فهو يشبه الوحوش بقوته وضخامته.
ان هرب الصياد يعطي لنا فكرة عن القوة والهيبة التي خلق بها انكيدو، كما جاء في وصف انكيدو من الهيبة والقوة فهو الذي خلقته الإلهة يقول الكاتب: غسلت يديها، وجمعت قبضة من طين رمتها في الفلاة. في البراري خلقت إنكيدو العظيم، نسل... نورنا يكسو الشعر جسده، وشعر رأسه كشعر امرأة وخصلات شعره تندفع سنابل قمح - لا يعرف الناس ولا البلدان، عليه ثياب كسوموقان. يرعى الكلأ مع الغزلان، يرد الماء مع الحيوان، ومع البهيمة يفرح قلبه عند الماء.
لم يقتصر وصفه بكل هذه الأشياء بل قال في لوح ثان ان همته مثل همة الإله انو، وانو كبير الإلهة وسيدها فأعطى بطله الثاني أهمية كبيرة وقد استطاع الكاتب ببراعته ان يخلق هذه الشخصية التي كانت محور الصراع وجعله يمثل جانب الخير والبراءة فهو يتعايش مع الحيوانات ويأكل ويشرب مثلها ويهاجم الصيادين لا من اجل شيء ولكن كي يخلصها من الفخاخ وقد شكا الصيادون لكلكامش ولكن لم يأمر الملك بإرسال قوة او شخص قوي لقتال انكيدو بل نجد ان الخصب الفكري الرائع عند الكاتب جعله يفكر في طريقة جديدة يمتع بها المتلقي ويعطي نكهة لروايته فقد قرر الملك إرسال احدى أجمل جواريه وطلب منها التعرف عليه وتعليمه الحضارة والتمدن كي يخسر ثقة الحيوانات ويصبح من البشر ويترك طباعه وكانت هذه الفكرة ضربة إبداعية مميزة أعطت مدلولاً على أهمية المرأة عند الرجل وعرفت مكانة المرأة في الحضارات التي مضت وكيف كان لها تمييزاً، ونجد ان كلكامش لم يختر رجلاً يعرض عليه صداقته ويعلمه طرق التعامل في سبيل كسبه بل اختار جارية كي يقول لنا عن مدى جاذبية المرأة وسحرها على الرجل.
ان توظيف المرأة في الأسطورة لعب دوراً مهماً وهي طريقة إقناع للمتلقي للخطاب الأدبي واستطاعت "شمخة" الجارية قلب كيان المعادلة، فحين رآها انكيدو أعجب بها وأصبحا أصدقاء وقد عملته التحضر وطريقة التعامل مع الآخرين وبالفعل حين شاهدت الحيوانات انكيدو فرت منه فقد صار إنساناً مغايراً ونجحت الخطة لكن شمخة حكت له عن جلجامش وظلمه للرعية فقرر انكيدو الهمام مواجهته ومنازلته من اجل تخليص الناس من شره وهذه الصورة الإبداعية التي توضح لنا كيف انه بعد هذه الرحلة الأدبية استطاع المؤلف ربط الإحداث وتم الغرض الذي خلقت الالهة من اجله انكيدو وهو منازلة الملك الظالم وبالفعل كان نزال بين الاثنين انتهى بانتصار جلجامش ثم أصبحا صديقين حميمين، ولم تقف مخيلة المبدع للنص عند هذا الحد بل رسم لنا صورة إبداعية جديدة كي يدخل بنصه التشويق ويشعل روح المغامرة فجلجامش بعد هذا الانتصار وقد زهت بعينه قوته ولم يعد أي شيء يقف في وجهه قرر ان يخوض تجربة أشبه بالانتحار حين أراد قطع أشجار الأرز وقتل العفريت المخيف خمبابا حارس الغابة الاوز وهو وحش ينفخ النار من فمه ويصفه لنا الكاتب بطريقة فنية جميلة فقد قال شيوخ اوراك لملكهم عن خمبابا: قد سمعنا عن شكل حواوا المخيف، فمن يستطيع الصمود أمام أسلحته؟، تتسع الغابة لعشرة آلاف ساعة مضاعفة، فمن يستطيع المضي في أعماقها، وفيها حواوا يزأر كعاصفة الطوفان؟ في فمه نار وفي أنفاسه العطب. لماذا أنت راغب في القيام بذلك؟ انقضاض لا دافع له.
نشاهد دقة الوصف وروعة التعبير حين يتحدث شيوخ المدينة عن العفريت وغابته الكبيرة وان أي شخص لا يصمد امام سلاحه ولم يعتمد الكاتب في نصه على السرد الممل الذي يجعل القارئ يشعر بالضجر بل سلك طرق الاختصار وحصر أكثر الصور الإبداعية في أقل عدد من السطور، كما قال الاستاذ طه باقر ان الملحمة سليمة الأوزان والقوافي الشعرية وهي نص شعري متكامل من كل جوانبه وقد جعل الكاتب مقاطعه الشعرية لا تخلو من بعض ضربات الحداثة حين صور ان أي سلاح لا يصمد أمام أسلحة العفريت وهذا الترميز يضاف لخصب وخيال المؤلف الذي وضع كل امكاناته الإبداعية في سبيل رسم صور ابداعية متمكنة تصور لنا المنازلة التي انتهت بمصرع العفريت وانتصار الصديقين.
بعد هذه المعركة والانتصار الساحق الذي حققه الملك فاقت شهرته العالم كله ونجد ان المؤلف يتنقل للعالم العلوي حيث الالهة فقد اصبح جلجامش محط اهتمام عشتار الإلهة الحب والجمال وأبنة الاله انو سيد الآلهة فتعرض عليه الزواج وتضع أمامه كل المغريات لكنه يرفض فتطعن كبريائها وقد تكلم الكاتب عن عشتار بصورة ابداعية راقية، كما وصف جمال عربة العرس التي وعدت بها عشتار ملكها في حال قبوله لكن رفض جلجامش خلق صدمة لعشتار، يقول الكاتب: صرخت عشتار كالمرأة في الولادة انتحبت سيدة الالهة.
ولكي يعطي المؤلف نصه صورة ابداعية جديدة جعل عشتار تطلب من ابيها الاله انو ان يخلق لها ثوراً سماوياً كبيراً كي ينتقم من جلجامش ووصف الكاتب هذا الثور بالقوة المفرطة وقد حدثت معركة عنيفة بين البطلين والثور وقتل جلجامش الثور المقدس واشتد غضب الالهة عليه فقررت الانتقام منه وعمدت الى موت صديقه انكيدو وقد حزن الملك بشدة وقرر البحث عن عشبة الخلود وجاب الارض كي يجد شخصاً يقال انه الوحيد الذي عاش بعد الطوفان وربما كان هذا الترميز يقصد به نبي الله نوح "ع"، وبعد رحلة طويلة حصل عليها ولكن العشبة سرقت منه في طريق العودة فعاد حزيناً وعرف ان مصيره الموت لكنه حين وصل اور مدينته وشاهد السور العظيم الذي بني حول المدينة عرف ان المنجزات التي تخدم الناس هي التي تخلده وهذه الصورة الإبداعية الكبيرة التي ختم بها المؤلف نصه كانت اجمل نهاية.