ادب وفن

لوحة الخلود شيوعية بريشة الشاعر الشعبي لفتة عبدالنبي الخزرجي / عيسى مسلم جاسم

عملاً بسنة الأب الروحي للشعب الصيني "كونفوشيوس" - البحار الهادئة لا تخرج ملاحاً ماهراً فانا "كاتب السطور المتواضعة" آليت على نفسي أن اركب الامواج العاتية، واصارع الـ"سونامي" العنيف، ليس عشقاً بالتحدي، ولا رغبة بالمتاعب، لكن اصول اللعبة الفنية تحتم عليّ ذلك، يقول "افلاطون" عن الشعراء العرب: إنهم "الشعراء" يرجعون الابداع الشعري الى قوة خفية تقع خارج الذات المدركة، اما الرومانسيون يقولون: "هي خاصية كائنة في الذات المبدعة، أطلقوا عليها الملكة او الموهبة".
وما زال وحسب الاقدمين: "الشعراء لا ينظمون أشعارهم وهم منتبهون، إذ حينما يبدأون اللحن والتوقيع ياخذهم هيام عنيف، وينزل عليهم الوحي الإلهي، ولابد من الاشارة الى اعتقادهم ان اكاديمية الابداع هو وادي "عبقر" حيث ينزل على كل شاعر شيطانه الخاص.
عصارة ما سطرناه في هذه التوطئة البسيطة هو أن الفنان والاديب هما من هذا الجمهور الواسع، لكنهم تميزوا بالابداع، وعجز الآخرون عن الأتيان بما يناظر من نتاجات النخبة، فهم يقولون ويكتبون حسب اديبنا الواسطي حميد حسن جعفر من خلف زجاج مضبب، لذا ودائماً أتجنب المباشرة، وأضع السطحية وراء ظهري، ومع كل الاعتزاز لاصحاب هذا الضرب المألوف من الكتابة، بل لأنهم سمّوا الاشياء باسمائها، وهم بذلك أغنوني عن تسليط الاضواء فكل شيء واضح وبان.
"بيت القصيد" قصيدة للشاعر لفتة عبدالنبي الخزرجي والموسومة مرئية متقاعد شيوعي، وقد ابتدأت القصيدة بتمهيد واهداء:
"الى صديقي العزيز كاظم القريشي، الذي اختطفته يد المنون وهو في عزّ عطائه ونضاله" والمنشورة على الصفحة السابعة أدب شعبي ليوم الخميس المصادف 20 تشرين الثاني 2014، في صحيفتنا المفضلة/ طريق الشعب، بعددها 73، لسنتها 80 والشاعر أراد من قصيدته أن تكون معرض رسم مورق على جدران الحياة اليباب كي يسعى بجهده الابداعي أن يلقي عليها قطرات ندى ماسية من سماء ليلة صافية نيسانية، لذا قسمّ قصيدته الى لوحتين، يقول الجاحظ في كتابه المعروف "الحيوان" ج 3، ص 132: "ان الشعب صياغة، وضرب من النسيج، وجنس من التصوير"، أما "هوراس" في كتابه فن الشعر-: "الشعر مثل التصوير، حيث مهد السبيل الى عد الرسم شعراً صامتاً، والشعر صورة ناطقة" وللامانة لقد أحسن صنيعاً شاعرنا الخزرجي، وقد ذاب وسط لوحاته الرومانسية الناطقة، وهو يرسم لنا "بونوروما"، كما رسم "لوركا" لوحته "الجوكيندا" عن الحرب الاسبانية.
شاعرنا لا يصور بآلة التصوير الصناعية مع كونها فناً له استقلاليته وزواياه ولغته الا ان الخزرجي لا يصور، بل يرسم بريشته الذهبية مترجماً انفاسه موثقاً افكاره موضحاً نظراته مجسداً افكاره، لوحاته كائنات حية تنبض، تتحرك تتكلم تحاكي الأنسنة.
لذا تراني عزيزي المتلقي قد جذبتني بكل الأقطاب "الفيزيائية" نعم هو كذلك على الرغم من وشاحها المباشر الا انها تميزت، انها تحكي مسيرة رجال وتروي تاريخا عريقا يمتد الى عشرات العقود من السنين بزمهريرها القاسي وسمومها القاتل، هي "ميثولوجيا" اجتماعية/ اقتصادية سياسية.
كما أسلفنا القصيدة "المعرض التشكيلي" مؤلفة من لوحتين الاولى، تألفت من واحد وعشرين سطراً، اما الثانية تألفت هي الاخرى من سبعة عشر سطراً وهي أرقام جاءت من السبعة ومضاعفاتها، فالعرف الروحي يؤكد مباركة هذه الارقام، ولا ضرورة لذكر النصوص - الالهية والوضعية الاجتماعية للرقم 7 يقيناً هي قصيدة لا ريب مباركة، وأقرأ فيها عصارة فكر شاعر، وكأنما لم يكتبها، بل أمليت عليه، كقصيدة نهج البردة التي أمليت على الشاعر المخضرم كعب بن زهير.
عموماً سطور القصيدة قاربت الاربعين سطراً، بعد اضافة التمهيد لها، الذي سنفرد له حديثاً آخر، وبعد الدراسة المتأنية، وجدتها مرة؛ وكما عنوانها كُتبت اصلاً الى شخص مفرد من دم ولحم وأعصاب ككل الناس، ومرة نراه انساناً خارقاً "سوبرمان" يتجاوز حدود الآدمية، وثالثة نراه حالة شعب واسمى قضية. حيث كرر الشاعر مفردة "الشيوعي سبع مرات ليؤكد لنا من جديد قدسية هذا الرقم، لنرى مفهومي، السماوات السبع، والعجائب السبع، وبعد هذه اللغة المباشرة؛ أن صديق الشاعر كاظم القريشي والمهداة اليه القصيدة في السطور الاولى نراه عملاقاً جسورا كبيراً منوراً، على الرغم من كونه من "بني آدم"، لكنه انسان من طراز آخر جديد اصبح هكذا بفعل امتلاكه الروح الثورية، وحينما تدفقت في عروقه الدماء الشيوعية، وايضاً شذب ذوائبه مقص الفكر الثوري الوثاب، إجمالاً صار لزاماً أن نجد الشيوعي فكراً تتجسد في صديق الشاعر ونجد الصديق الفقيد مذاباً في بحر الحزب الشيوعي الهادر.
- جدم قطار البين... وتوسد الزين
تتراگص الدمعات... فوگ الوجنتين السطران الأولان من القصيدة وهما يطرزان مدخل معرض الفنان الشاعر الخزرجي، هنا الشاعر يجسد مفهوم المدرسة الرمزية "الفنتازيا" بصورة تتسم بالقوة والهيبة والقدسية، فقد استخدم مفردة "القطار" هي التي تحدد مسارات العمر، كذلك توحي المفردة بالعدد الكبير، والعدة الوافرة، فصديق الشاعر ليس ككل البشر، بل هو شعب عريض تجسد في انسان عملاق اسمه "كاظم القريشي الذي وسمه الخلق الشيوعي بوسام المجد والخصال الانسانية، ويمعن الشاعر بصوره الشعرية المولودة "تواً" إن "الدموع" على الفقيد هي الاخرى دموع شيوعية، من رفاقه ومحبيه، الدمعات هي الاخرى نسيت سنتها وبدل الحرقة والنوح والانين، بدأت ترقص على مسرح الوجنات، يقيناً إن الشهداء وممن فقدناهم حالهم الخلود.
وحين نلج معرض الفنان الرسام والشاعر الخزرجي تطالعنا، بل تكحل عيوننا اللوحة الاولى:
الشيوعي ما يمره الموت/ حيث الموت يخجل من يمر لينه
من أي معدن ثمين يا "شيوعيين" تعشقون الحياة، وتسعون لتشييد الوطن الحر والشعب السعيد، وترقصون على اكتاف الموت، الموت ذلك الشبح المرعب، وأمامكم يطأطئ رأسه، وبالبرهان القاطع جسد ذلك المفهوم ومن خلال "الشيوعية اقوى من الموت" فقط هم هكذا: الشيوعيون، والصديقون، لا يأبهون بالموت، لأن وحدهم حياتهم تتمدد تتواصل تتجدد، اضف لذلك فالموت يعرف الرجال يستثني الشيوعيين من سلطته لانهم اكسير الحياة وصناعها المهرة على امتداد الحقب الزمنية، فلم يدر بخلده ان يزورهم بل تتعطل عدته ويفقد عتاده عند "الشيوعي" مبارك للفقيد كاظم القريشي صديق الشاعر الخزرجي، ومبارك لكل الشيوعيين.
- العمر عده.. بثمانين/ ولا مره "تگنطرنه".. ولا مره مشه اعلينه/ الشيوعي بكل وقت متعوب- النص يعدد سنوات العمر الطويلة، والحافلة بالزهو والكبرياء، كلها خط بياني متصاعد خال من الهفوات، والسقطات، وكما في السطور الاولى، الشيوعي عصي على الموت، وهذا لا يعني ابداً أنه عاش حياة الترف بين المكاتب والصالات او في فنادق الخمس نجوم او على البلاجات، بل مسيرته، مسلسل بطولي من دروب موحشة، وسجون مرعبة، وصالات تعذيب وحشية، ومشانق موت سادية فلا مناص من هذه المسالك لانها وحدها التي توصلنا الى الضفة الاخرى الرياض الخضراء المورقة ووحدها كفيلة بالعالم الوردي الأرضوي"وطن حر وشعب سعيد".
نجد الترابط العضوي الديالكتيكي بين الانسان الفقيد "القريشي، والقضية الكبرى قضية الشعب الاسمى قضية" الشيوعية الكبرى، ومن خلال النص:
الشيوعي مصنع الكلفات/ يدخلها بصلابة.. والعزم عنوان/ ما يعرف تراجع.. ما ترف عينه/ وكاظم ما لفاه البين. ثم يوضح الشاعر الصورة اكثر: "كاظم مدرسة واستاذ بالايمان ثابت بالمبادئ والعلم دينه/ راسخ بالفكر.. ومعاشر الكلفات/ علماني العقيدة بعمره وسنينه/ وندري بالشيوعي.. واضح التفكير/ ثابت بالمسيرة.. ويعتني الزينة النص هو اقتباس طويل، من الصعوبة بمكان التمييز بين الشيوعية وبين كاظم الانسان فهو العلم والفكر والبيان، وهو الراية الحمراء وأعلى عنوان.
في اللوحة الثانية تتجسد الروح الانسانية، وان الشيوعيين على الرغم من ندرة معدنهم الا انهم من دم ولحم وأعصاب وشرايين واحساس مرهف، للحزن يحزنون بوتائر مميزة وللفرح يفرحون بزهو وكبرياء. نجد في اللوحة وبدون مكابرة ازاء فقدان الأحبة:
الدمع ينزل وشل... من غربوا الأحباب
والعين بات الحزن... بجفونها خنياب
والختام هي ذات المشاعر: ذوله رفاگه الدرب... كلهم وفه للغاب
ذوله رفاگه الدرب... يتذكرونه الغاب