ادب وفن

مراسيم خاصة 7 / مزهر بن مدلول

المفطح!
كلما نهضت من مطحنة، أسقط في مطحنة اخرى، لا يدّ تقودني الى الطريق ولا اثر لخطوات اتبعها، وليس في هذا السكون سوى الموت الصريح، والألام التي لاتصدّق ولاتنتهي، كنتُ وحيدا مع اوجاعي وآهاتي الكامنة، وحيدا مع مزاجي الحالم، وحيدا مع جسدي الذابل الذي اضحى لايتسع لروحي!، وعندما استرجع صورة تلك الاشهر في ذاكرتي، تقفز امامي وجوه اولئك الأفّاقين، الذين لم يتركوا سلاحا الاّ واستخدموه لصيدي، اين هم الان؟!، خرق، لاقيمة في مضمونها!!.
متاهتي في الرمال، هي الأشدّ عنفا وضراوة، وهي الاعمق جروحا وحسرات، وستظل منقوشة في رأسي مثل كابوس اسود يترصد صفاء سريرتي في كلّ لحظة نور!، لقد تعرضت الى عقوبة سماوية لأثمٍ لم ارتكبه، او ربما ارتكبه احد اجدادي منذ الاف السنين!، وكم من مرة استبدّ بي اليأس، وراودتني رغبة حارقة في ان اصرخ، ان احتج، ان اندّد بهذه الفظاعات والعذابات التي تقترفها السماء بحقي، لقد تولّد لديّ انطباع فادح بغياب العدالة الألهية، قناعة راسخة بأنّ جميع الانبياء والرُسل والقديسين، الذين طالما طلبت منهم ان يمنحوني القدرة على الاستمرار!، وقفوا ضدي، ولم يلقوا بظلّهم عليّ ساعة!.
كنت في دوامة كاملة من الفقدان، غصن يابس نضح اخر قطرة ماء، الليل بلا مطر ولا صور ولا بارقة ضوء، العطش مثل نار لا يخبو لها إوار، الجوع بلغ بيّ مداه، الغربان تنعق كأنها تنوي ان تعلن الحداد!، بينما الصحراء تتباهى بصرامتها، تصيح كالمأخوذ، تعوي وتنبح، تشتم وتتوعد، مصبوغة بلون اصفر، لون المصير المرعب، الذي بات على مرمى حجر.
كنتُ امسك برأسي، شفيعي الوحيد مما انا فيه، حاولت ان اجعله يقظا، حاضرا ومتأهبا، ان احميه من الاستسلام لأنهيارات جسدي!، فرأسي هو ملاذي وهروبي ونجاتي، هو نافذتي التي اطلّ منها على ضفة الحلم الجميل الذي رسمته في مخيلتي!، لذلك بذلت اقصى جهدي في ان يبقى محصناً حيال ما قد يحمله هذا الغموض العجيب!، ولكن يبقى السؤال الجوهري الملحاح، هو: ما فائدة رأس صاح في مكان مسعور كأنه برميل بارود على اهبة الانفجار؟!، أليس الجنون افضل حالا؟!.
مرّ اكثر من عام وانا اتنفس الغبار، اما (الحشيش) الذي قرّح اشداقي!، فقد تحول الى طبقة صلبة، كأنها طبقة اسمنت داخل معدتي، كنت احلم باللحمة!، اللحمة التي اصبحت مجرد امنية بعيدة المنال، لم اشمّ رائحتها منذ دهر من الزمان!، وكم تمنيت لو كانت بحوزتي بندقية صيد، (الشوزني) ام (الصجم)!، لأهيم في الافق، علّني اعثر على قطاة او شاة او أرنب ضال، كنت أجلس على حافة البئر، أناجيه، أنظر في قرارة أعماقه، أتخيله مليء بالسمك!، كثير من الاسماك داخل هذا البئر! (بني وحمري وخشني وكَطان وشبوط)، وجميع الانواع التي أكلت منها مشوية في التنور، أربط (السطل) او (الدلو) بالحبل الطويل وأرميه الى قاع البئر، أحس بثقله، ها هو قد امتلأ، أسحبه بتأني، ارفع كفيّ الى السماء، إلهي، عبدك الزاهد، لا أطلب لئالئ ولا أحجارا كريمة!، أريد سمكة صغيرة، (زورية) بحجم الأصبع، رائحة تملأ عليّ نفسي، لكنّ (الدلو) يأتي خالٍ من ايّ شيء، خالٍ حتى من الضفادع!، جميع الكائنات البريئة ترفض ان تعيش في هذا المكان، وحدها الزواحف القاتلة والحيوانات المفترسة تتحمل هذا الشقاء الرهيب!، فأيّ قدر رمى بي في هذا التابوت الكبير!؟.
وذات صباح مختلف في عذاباته النفسية، حيث فاقت تلك العذابات قدرتي على التحمل، نهضت من فوق حافة البئر، واتجهت نحو الجنوب، قررت ان اقتحم على (حرس الحدود) ظهيرتهم الهادئة، سوف افاجئهم بصورتي المرعبة، ووجهي المخدّد بالوجع، بمظهري الذاوي، وأحزاني التي لاتتسع لها مدن ولا صحاري، سوف تمتلئ مخيلتهم بالعجب، عندما يشاهدون انسانا أُفرغ من إنسانيته، ولم تبق في عينيه سوى نظرة باهتة هي اقرب الى نظرة من يوشك على الاحتضار!.
كان (مخفر الشرطة الكويتي) يختبئ خلف كثبان رملية كثيرة، ولم يظهر منه للناظر من تلك المسافة البعيدة سوى العمود الحديدي الذي يحمل على رأسه صحناً يشبه الرادار، فكانت تلك العلامة هي البوصلة التي امشي على اساسها، وفي الطريق الذي استغرق مني ساعتين فوق رمال تلتهب، داهمتني الكثير من الهواجس والشكوك:
ترى هل انا ذاهب لألقى مصيري وحتفي!؟، ماذا لو انهم رموني في زنزانة؟!، هل يسلمونني الى العراق حيا ام جثة مجهولة الهوية!؟، كلّ ذلك تردّد في رأسي المصدوع وانا امشي نحو حرس الحدود!، لكنّي قلت مع نفسي: انّ وجود ما هو اسوأ من هذه الصحراء امر مستحيل!.
عندما وصلت الى هناك، كان النهار قد انتصف او كاد، وكان الحراس وعددهم سبعة يتهيأون لوجبة غداء دسمة، وجوههم خالية من النور، واجسادهم غارقة في الشحم!، وكان رئيسهم يتصبب عرقاً من شدة الحر والزبد يرغي على شدقيه وهو يتكلم، جاء اثنان من العسكريين يحملان صحنا كبيرا، (الصحن ابو العراوي) ممتلئ بالأرز، ثم جاء آخران، احدهما يحمل قدر المرق (السوب) والثاني يحمل (طشت المفطح)، خروف انتزعت منه رقبته ويديه، رفعه العسكري ليعلو ب(ليته البيضاء) صحن الارز، كان البخار يتصاعد، ورائحة اللحم الوفير يسيل لها اللعاب، زاغت عيناي، وشعرت ان لساني يتمدد ويستطيل، سوف آكل هذا الشحم ولأذهب بعدها الى النار!.
حين درنا حول الصحن، دار بي العجب!، هل انا داخل بلاطٍ أميري!؟، ام انها الوجبة الاخيرة للمحكوم بالموت؟!، وبدا لي انّ العسكريين كانوا كرماء اكثر مما توقعت، او بالحقيقة لم تصبهم يوما مشقّة جوع، فكانوا يقطّعون اللحم ويضعونه امامي، بينما اصابعي تغوص في صحن الارز تارة، وفي الشحم الابيض تارة اخرى، اصابني الذهول من هذا الترف الذي انا فيه!، وكنت ارمي قطع اللحم في فمي غير مبالٍ بحرارة الدهن، إلتهمت الاكل من دون ان امضغه، أكلت بنهم وكأنّ احدا يلاحقني، وكان الحراس ينظرون لي بعيون فاحصة مستغربة، يأكلون بتروي ويتحدثون عن مستقبل الصحراء، وما سوف يفعله مثلهم الاعلى!، أما انا، فليس لي مثل اعلى، ولا أريد ان يكون لي مثل اعلى، واذا كان لابدّ من ذلك الآن، فليس سوى شهيتي المفتوحة الى اقصاها!، والتي فقدتها بسبب منظر (العدس) الذي يشبه عدوا لدودا!، وكذلك(البرقية) التي اعلن عنها المستشار السياسي للموقع!، والتي ستكون عنوانا لحكاية قادمة!.