ادب وفن

«سماوات السيسم».. والومض الشعري / علوان السلمان

النص الشعري تعبير عن الرؤيا التي تفتح باب التأويل بتحريك الخزانة الفكرية للمستهلك نتيجة تفاعله، واللحظة الشعورية الخالقة لحقلها الدلالي والإيحائي.. وتفكيك معطياته يعني الكشف عن بؤره الجمالية والدلالية ومدركات اشتغالاته التي أفضت إلى ظهور الومضة الشعرية المتكئة على خاصية التكثيف والإيجاز والمفارقة الادهاشية..
وسماوات السيسم، "إشارة إلى أشجار تتميز بتحملها للحرارة وصبرها على العطش وخشبها يستخدم في صناعة الأثاث والآلات الموسيقية"، هي المجموعة الشعرية التي نسجت نصوصها المقطعية "جدة ما بعد الحداثة/ عطرها.. إذ يمر/ مسرح.. مدفأة/ صفحات/ رغيف.. الذاكرة/ رحيق حكمتها/ قلائد الحرمل/ مطوقة/ مطوقة عاقلة/ نقوشات الهاشمي/ طباشيرية الحلم/ لم تعد تحكي/ مقرنصات/ لا هديل في ذلك الغروب/ قمر الحناء شموع الآس/ ابتسامة جدتي".. مع إهداء "إلى .. حفيدتي.. هيا ورينا"، الذي شكل نصا موازيا كاشفا عن شاعرة وجد ذاتي تطرز نسجها باسم بلقيس خالد.. كونها تقدم نصوصا حداثية تحاول مجاراة العصر الذي وسم بعصر السرعة نتيجة التحول الفكري والفني ومتطلبات الحياة.. والتي تقوم على التكثيف الدلالي والفني والإيجاز والإيحاء مع اقتصاد لغوي وصوري مستمدة تأثيرها من خلجات النفس وأحلامها السابحة في فضاءات الخيال..
عصفورة بكت..
كل شيء تعلمته وحدي إلا....
بياض البياض
جففت جناحيها وحلقت..
كل شيء تعلمته عرفت..
إلا حرية الأجنحة من يعرفها؟
جدتي هذه طائرة شبح
لا عصفورة
جدتي انظري.احترقت البصرة.
انظري..
طائراتي تحرق البيوت
هل بيتنا بين تلك البيوت يا صغيرتي؟
جدتي هذا.."فديو كيم"
عاصفة الصحراء
فالشاعرة تستنطق اللحظة الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد حقول دلالية تتسع باستمرار وهي تحمل بين طياتها قول النفري الصوفي "كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا".. فتقدم نصا يستنطق الذات باختصار مسافات اللحظة الحالمة.. الموحية.. المختزلة للتعبير عن قلق الوجود عبر حالة من التوتر الذي يكثف المعنى ضمن بنية شكلية موجزة قادرة على بث وقعها الدلالي.. فضلا عن اعتمادها الانزياح الشعري وبنية المفارقة المتنامية كنسق جمالي فرش روحه على امتدادات نصها المتشكل من وحدات جزئية وأنماط علائقية تؤسس بين وحداته تراكيب مقطعية مكتنزة الدلالة المحركة للذاكرة عبر أبعادها الجوهرية المتمثلة في الوعي الذاتي والموضوعي الذي يحقق الدلالة الفكرية..
على وجه القمر تعلق
أقفالها.. حبيب فارقته من لحظات..
صوت.. جعد وجه القمر
وقفت..
التفتت..
ذهلت..
تراقبها عن كثب عيني امها القتيلة
وأبوها الذي اكتشف متاخرا انه..
عقيم..
فالشاعرة تعتمد خطاب الصورة لغة العصر المؤثرة في النفس من أجل تجاوز حدود القوالب الجاهزة وخلق لغة شعرية تخاطب وجدان الإنسان العصري من خلال البناء النصي وفق معيار حداثوي له التزاماته الموضوعية مع تركيز على الخصائص الحسية لإبراز الجمالية وإعادة تشكيل الوجود من خلال اشتغالها على بث شعرية المفردة التي تستنطق كينونتها عبر علاقات الدال والمدلول لتفعيل الأثر الحسي والذهني بلغة إيحائية مفتوحة على قراءات متعددة.. فضلا عن اعتمادها مقومات وأساليب تعبيرية في بناء نصها كآلية السرد التي أضفت على نصها دينامية حركية، إضافة إلى التعبير بالصورة بوصفها مشهدا بصريا مرئيا لتحقيق المتعة الجمالية المنبعثة من ثنايا النص..
مدي يدك.. تلقفي من القفزة ضحكاتها
من يضمنهما: سيرورة الشهر
وقفزة النهر؟
لا..
لا سلامة في التأني
النص، هنا، ينبثق من موقف انفعالي يتكئ على حقول دلالية "زمان/ مكان/ ثنائيات ضدية.."، مع تكثيف العبارة وعمق المعنى بتوظيف الأمثال، "امشي شهر بالك ولا تعبر نهر"، و"في التأني السلامة"، وهي تجنح إلى التكثيف والتركيز للتعبير عن لحظة انفعالية بتوظيف النزعة البلاغية واعتماد تقنية الانزياح والإيحاء واستنطاق الرمز وصورته.. ومن كل هذا نجد أن الومضة عند الشاعرة تتخذ مسارين شعريين متضادين "الرؤية والرؤيا" و"الواقع والحلم".. وهما يعبران عن الحالة النفسية المأزومة "زمانيا ومكانيا" باسترسال سردي ينتهي بضربة أسلوبية مفاجئة..
عطست..
امتنعت جدتي عن الذهاب..
قدت أنا
حملة
تنقيب
حين عطست حفيدتي
النص بوح ذاتي في لحظة تجل تتحقق في وعاء تبلورت فيه الدلالات بتدفق شعري يعانق فيه الخيال الواقع مع سحنة حكائية وترانيم إيقاعية منبعثة من ثنايا الألفاظ.. وهو يستمد تأثيراته من خلجات النفس السابحة في فضاءات الخيال الممزوج بالواقع بدفق شعري يضيء خبايا الذات ويبوح بدواخلها عبر وحدة متداخلة بنسق جمالي بالفعل الشعري والاستدلالي والانفعالي الشعوري لخلق صورة شعرية تسعى إلى تجسيد الإدهاش الذي هو غاية الصورة الشعرية التي تقوم على تنوع الأساليب المعرفية والقرائية للكشف عما خلف الدلالة اللفظية من خلال جمالية التفاعل مع النص:
قلت: سأكتب عن الوطن
قالت: احفري..
احفري
في هذه البقعة كي لا تكون جذورها
في السطح
.......
.......
وها أنا أحفر..
أحفر..
أحفر..
ليستضيء الوطن
من سكان مملكة
العظام
تعتمد الشاعرة في بناء نصها على تبئير الفكرة بعبارات موجزة تقوم على هندسة بنائية عميقة ولغة متوهجة.. متفردة بأبعادها الرمزية المشحونة بطاقة تعبر عن حالة شعورية وفضاء وجداني بوحدة موضوعية وفكرة مركزة تعبر عن لحظة انفعالية مكتظة بدفقها العاطفي وغناها المعنوي، لأنها تركز على جمالية السياق لتشكيل خطاب شعري انفعالي يعتمد تقنية السرد الشعري لإضفاء عنصر الإثارة مع تركيز على العناصر النفسية لتكشف عن التوتر وأزمة الذات.. فضلا عن اعتمادها طاقة اللفظ المجازية..الموحية التي تفتح عوالم التأويل فتقدم نصا يقوم على شعرية الرؤيا في إطارها البنيوي المكتنز بشحناته المنفعلة التي تضفي على جماليات التشكيل الفني دفقات مكتظة بالحركة..فضلا عن اعتمادها التكثيف الهادف إلى توسيع الفضاء الدلالي للجملة الشعرية المتفردة بأبعادها الرمزية المشحونة بطاقة تعبر عن حالة شعورية وفضاء وجداني بوحدة موضوعية وفكرة مركزة لتقدم نصا متناغما بإيقاع داخلي ودلالة شعرية تؤهله لتأطير صوره المكتنزة بلغة انفعالية متكئة على الانزياحات التي تتجاوز المألوف في سياقها..
وبذلك قدمت الشاعرة نصوصا مكتملة المعنى مبتكرة لفضاءات لغتها وخالقة لفكرتها المتوهجة.. فضلا عن اعتمادها تقنيات فنية متداخلة من اجل استنطاق اللحظة الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد حقول دلالية مقترنة باللغة الموجزة.. المكثفة.. الموحية التي تجاري العصر.