ادب وفن

الجواهري ... في قصائد ومواقف عن الرابع عشر من تموز / رواء الجصاني

على مدى ثمانية عقود، او حواليها، كان الجواهري مؤرخاً – على الاقل- لأهم الأحداث العراقية والعربية، بافراحها وأتراحها، بل والعالمية أيضاً، معبرا بوضوح نادر عن مواقفه ورؤاه الوجدانية والسياسية والفكرية، من تلكم الاحداث، وعنها... وهكذا جاء موقفه، ولنقل مواقفه، بشأن التغيير الرئيس، وربما الأهم في تاريخ العراق الحديث، ونعني به حركة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي أشعلت هبة عارمة، وانهت النظام الملكي، واستبدلته بالجمهوري، الذي قيل ما قيل، ويُقال، إيجاباً وسلباً حوله ...
لقد رأى الجواهري في تلكم الثورة التحررية بحسب البعض، أو الحركة العسكرية الانقلابية- الجماهيرية، وفق بعض آخر، مسك ختام وطنياٌ لعقود من النضال الشعبي والوطني في العراق، من أجل الحرية والازدهار، بل والتقدم بمفاهيم ذلك الزمان... وهكذا سرعان ما نظم، وفي الأيام الأولى لقيام ذلك التغيير المدوي، قصيدته النونية المطولة، ومن مفتتحها:
جيشَ العراق ولم أزلْ بك مؤمنا ... وبأنك الأملُ المرجى والمنى
وبأن حلمك لن يطولَ به المدى وبأن عزمك لن يحيق به الونى
حمل الفرات بها اليك نخيله، ومشى بدجلة جرفها والمنحنى
فلقد اعدت اليهما صفويهما، من بعدما غصا بأدران الخنا
ثم تلت "جيش العراق" قصائد عديدة أخرى تؤرخ لذلكم الحدث، ومسيرته، وتوجه الجماهير الشعبية لاسناده وتأطير مساره. محذرة من الاضطرابات واستغلال الأمور، بما يقود لخلاف ما آمن به الجواهري من ضرورات ومباديء، ومن أجل النهوض والارتقاء والوحدة والتلاحم، بعيداً عن العصبوية، والطائفية والفئوية والحزبية والعنصرية، وسواها من آفات اجتماعية ووطنية... ومن بين ما نستشهد به هنا ما جاء في قصيدته بمناسبة عيد الاول من ايارعــــــام 1959:
يا أيـهـا العُمّـالُ صفـحَ تسـامحٍ، عمّـا تجيشُ ببثّـهِ خطَراتي
أنا لا أثيرُ ظُنونَكمْ، لكنْ فتىً، حراًّ يحبّ حرائرَ الصّرَخات
ما انفكّ تِنّينُ التحكّمِ قائماً، وتقاسمُ الأرباح فـي الشركات
ما زالت الشمّ النّواطحُ تُبتنى، من تلكمُ السّرِقات والرّشوات
لِم يُؤخَذُ المالُ المقطّعُ منكمُ، سحتاً، ولـم تُقطَعْ أكفّ جناة!

وفي عودة للديوان الجواهري العامر، نجد ثمة قصيد حاشد في شؤون، وشجون ذلك الحدث التموزي، وعموم الأحداث التي نعنى بها في هذا التوثيق ومنها: رائية "انشودة السلام" ودالية
"في عيد العمال" وبائية "المستنصرية"... وفي جميعها، وبهذا الشكل او ذاك، نصح الجواهري، وحذر ونوّر، منفرداً، او سوية مع العديد من القوى الديمقراطية والشخصيات الوطنية، قبل وقوع الانقلاب الفاشي عام 1963 الذي قضى على الثورة، من نتائج نهج التفرد، والتسلط، وتجاوز المبادئ التي قامت تحت شعاراتها حركة الرابع من تموز 1958 العسكرية ، المدعومة شعبياً .... ولعل مراجعة وان عجولة لصحيفة الجواهري في تلكم الفترة، ونقصد بها "الرأي العام" تثبت بجلاء، كماً واسعاً من المناشدات الهادفة من جهة، والانتقادات الساخنة والحادة من جهة اخرى، التي كالها الشاعر والرمز الوطني الكبير ... فضلاً عما حوته فرائده اللاهبة، تعبيراً عن ضمائر الجماهير، الامينة على مستقبل البلاد وتطورها. ومن بينها- على سبيل المثال - ما جاء في قصيدته الموسومة "باسم الشعب" عام 1959 مخاطباً فيها المسؤول الاول، والاخير، في البلاد :
"عبد الكريم" وفي المراء جبانةٌ ، تُزرى، وصنو شجاعة، إصراحُ
كنت العطـوف به يُراض جماحُ ، فكن العنـوفَ، به يُهاضُ جناحُ
لا تأخذنــكَ رحمة في موقف، جــدٍ، فجـدُ الراحميـــن مزاحُ
ولطالما حصد الندامةَ مسمحٌ، وأتى بشرٍ ثمارهِ الاسماحُ
ولقد تكون من القساوةٍ رحمةٌ، ومن النكالِ مبرةٌ وصلاحُ

ومع كل ذلك لم تنفع تلكم النصائح والمناشدات المخلصة، ولم تُؤخذ التحذيرات المدعمة بالملموسيات والتجاريب، بموضع الحرص على امن البلاد ومسار التحولات الديمقراطية المرجوة، بل وبدلاً عنها، راح عسف السلطات "الجمهورية" يتمادى فيشمل الجواهري ذاته، والى حد اعتقاله فترة من الوقت، برغم انه شاعر الامة العراقية، ورئيس اتحاد ادبائها انذاك، ونقيب صحفييها الاول... مما اضطره، احترازاً على حياته، للاغتراب القسري عن الوطن، شبه هارب "من رافديه" محتجاً، وضاغطاً، بهذا الشكل اوذاك على ولاة الامر، بل وواليه بتعبير أدق، لتدارك ما لا تحمد عقباه . ولعل من المناسب للتوثيق الملموس هنا، الاشارة الى المواجهة المباشرة، ذائعة الصيت ، بينه – الجواهري - والزعيم عبد الكريم قاسم، في مقره بوزارة الدفاع، بسبب ماكتبه الشاعر والرمز الخالد، دفاعا عن "الثورة" وضد التجاوزات على المواطنين ، وخاصة مقاله في اواسط 1959: ماذا في بلدة"الميمونة" بمدينة العمارة.
واذا كانت هذه الحال مع الجواهري، صاحب"أنـــا العراق" و"المقصورة" و" اخي جعفراً" و"هاشم الوتري".. والرمز الثقافي والوطني الابرز في البلاد، فللمتابع ان يستنتج، ودون كثير عناء، كيف كانت السلطات تتعامل مع انصار الديمقراطية عموماً، بينما تتغاضى في الآن ذاته عن توجهات واستعدادات المتضررين من سقوط العهد الملكي، والقوى والشخصيات الشوفينية والظلامية والطائفية، لقلب نظام الحكم، والانتقام من الجماهير الشعبية، وقياداتها، دعوا عنكم قادة وضباط حركة الرابع عشر من تموز، الوطنيين الاحرار.
لقد تكررت مناشدات الجواهري وتحذيراته من تجميد الحياة الدستورية وتغييب الديمقراطية، كما من مغبة التفرد في الحكم، ومن التخبط السلطوي، و"المساواة" - على اقل وصف- بين القوى الوطنية والشعبية، من جهة، ومناهضيها، المناوئين للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المبتغاة، من الجهة المقابلة ... وهكذا راحت تعلو دعوات هنا لليقظة من احقاد الموتورين، وتتعالى دعوات هناك لنبذ الفرقة والغلو، ولمزيد من التلاحم بين ابناء الشعب، ولرصد المتامرين في الداخل والخارج، والاستعداد لمواجهتهم قبل فوات الاوان، ومن بين ما نستعين به للتوثيق بهذا الشأن ما جاء في قصيدة الجواهري " أزف الموعد" التي ناشد فيها الطلاب العراقيين ،عام 1959:
أزف الموعد والوعد يعنّ.. والغد الحلو لاهليه يحنُ
والغد الحلو بنوه انتم، فاذا كان له صلب فنحن
فخرنا انا كشفناه لكم، واكتشاف الغد للاجيال فنّ ..
يا شبابَ الغدِ كونوا شِرعةً ، للعلا والبأسِ واللطفِ تُسَنّ
سالموا ما اسطعتُمُ حتى إذا، شنّها حرباً أخو بغيٍ فشُـنّوا
وابدأوا الخيرَ سباقاً بينكم، فإذا بُـودئـتمُ الشـرّ، فثـنّـوا

... اخيراً، وفي نهاية هذا التوثيق العجول، لا بدّ وأن نلفت النظر الى ما سجله الجواهري حول الرابع عشر من تموز، في الجزء الثاني من ذكرياته، اذ نرى فيه مؤشرات وأشارات مهمة لمن يريد ان يقرأ التاريخ بمزيد من الموضوعية، بعيدا عن التشنجات، والعصبيات، وإسقاط الاجتهادات اللامسؤولة، لهذه الاغراض أو تلك ... وعلى أية حال، فقد ترضي هذه الكتابة بعضاً، أو تغضب آخر، إلا انها سعت لكي تكون بعيدة عن العواطف، والتي عمرها ما كانت حكما عادلا في تقييم الوقائع التاريخية، كما نزعم، وقد نصيب.
... وختاما- وحقاً هذه المرة- ها نحن نقتطف بعض ابيات من سيمفونية "دجلة الخير" التي نشرها الجواهري الخالد اواخر العام 1962 ونزعم ان فيها الكثير والكثير من الرؤى والاراء بشأن عموم ما شهدته البلاد العراقية في تلكم الفترة العصيبة :
يا دجلة الخير أدرى بالذي طفحت، به مجاريك من فوق الى دون
ادرى بانك من الف مضت هدرا، للآن تهزين من حكم السلاطين
تهزين ان لم تزل في الشرق شاردة من النواويس ارواح الفراعين
يا دجلة الخير كم من كنز موهبة، لديك في القمم المسحور مخزون
لعل تلك العفاريت التي احتجزت، محملات على اكتاف دلفين
لعل يوماً عصوفاً هادراً عرماً، آتٍ فترضيك عقباه وترضيني..