ادب وفن

القصيدة الـيومية والـنــزوع إلى الـحرية / جاسم عاصي

من منطلق ما ذكره الدكتور مجيد الراضي في مقدمة ديوان الشاعـر الراحل مصطفى عـبد الله:"نتفق ونرى أن قصائده تتجه نحو غـرضين أو فضائين شعـريين؛ الأول: هو الاحتفاء بما هو يومي ومألوف، والثاني: النزوع إلى الحرية بما يشبه التراتيل الصوفية".
من هاتين الرؤيتين يمكننا أن نوسع دائرة الفحص التي لم تتح للمقدم إلا ّ أن تؤشر لذلك بتميّز وإيجاب.
ففي مجال القصيدة اليومية، نجد أن الشاعـر يتخذ لقصائده منحى خاصا ً، يوحد فيه إيقاعـين؛ هما إيقاع الوزن الشعـري، وإيقاع المفردة التي تشير إلى ظاهرة أو صورة أو مشهد يومي عـادي. فهو لا يعـتمد عـلى اليومي بذاته بقدر ما يدعـه ينساب مع بنية القصيدة ليحقق هذا التوحد الذي وحّده البناء الشعـري، حيث لا يبدو اليومي بكل خصائصه منعـزلا ً عـن جسد المبنى ولا معـناه أيضا ً كما أنه ليس عـلامة داخل منظومة شعـرية، وإنما هو مع الخصائص الأخرى اللغـوية والبنائية يشكّل منظومة واحدة، خاصة الشعـرية، فهي قادرة عـلى أن توفر مناخا ً خاصا ً، يثير المشاعـر ويستنهض الإحساس دون ضجيج وانفعال. فالشاعـر في هذا شاعـر صورة، وفي الصورة مفارقة، وفي المفارقة درس ووظيفة. فالسياسي عـنده داخل الشعـري، إذ يعـالج المفردة الحياتية التي يتكئ عـليها السياسي لاستقراء الواقعـة والمتن النظري. كما وأنه يدمج حركة الحياة خارج وداخل القصيدة. وأعـتقد أن هذا الاتجاه ما كان يتصف به شعـر السياب "الوطني. فهو الرائد في القصيدة اليومية . القصيدة المكتملة البناء، المفضية إلى الشعـرية الخالصة، كما في قصيدة غـريب عـلى الخليج، أنشودة المطر، المومس العـمياء"..الخ.
إن مصطفى عـبد الله يختار النسق الشعـري الذي يوفر له حرية التعـبير دونما اتكاء عـلى ما يضفي تعـقيدا ً عـلى أجواء القصيدة، ويعـطل انسيابيتها. كما وأنه في هذا يحذو حذو من سبقوه في عـكس الواقع وخلق البؤر داخل المبنى الشعـري، فالمعنى يعـين الشكل، منتظما ً في وحدة بنائية تعـكس المفردات الحياتية.فهو شاعـر ملتزم بما هو واقعـي، لكنه يترفع عـن إبقاء الواقع كما هو، أو كما خطط له أن يكون فانحيازه هو انحياز طبقي، وبالتالي شعـري ـ أيديولوجي. إن منظومة شعـرية وحياتية موحدة تعـطي للقصيدة منطلقا ً في البحث عـن جوّانية المشهد ودلالاته، إذ يندر أن تلحظ في القصائد ما هو مسمى مباشرة كظاهرة، بل أنه ينحاز إلى ما يشير إليها بشكل غير مباشر. ففي قصيدة" تنويعـات عـلى لحن الحرب مثلا ًيؤكد هذا:
"يا خلوة التابوت/ تمهلي/ فكلنا يموت..../ نعـم كانت الأرض/ كلها، كانت الأرض سوداء/ الدجاج الذي يفر/ والكلاب التي انتظر/ كلها والحصير/ الذي عـليه صلاة العـشاء/ نعـم، والأواني وكيس الطحين/ وأمـــي التي..... بقيت وحدها/ والعـجين".
وبهذا يعـكس صورة يومية، لا تثير الجلبة، ذلك لأنه بصدد تحقيق موازنة ما، يقابلها في مرآة الحرب. وهو مشهد من الداخل، بينما يرفده بمشهد آخر من صورة الحرب:
"صاحب منهل/ صعـد الدبابة/ وتحسس أزرار التحريك/ والعـتلات الدوارة، جرّب أسم الآمر/ مهدي بجهاز الإرسال الرأسي/ شم هواء من أنبوب الغـرفة وغـطى بالطين مصباح العـدادات/ صاحب منهل/ تنصت لليل المحروق عـلى الطرفين".
وتواصل القصيدة إجراء المتقابلات، راحلا ً إلى الماضي وإلى بيئة الجنوب، باحثا ً في أدق تفاصيل الحياة اليومية، بحيث يقدم تأريخا ً طويلا ً للطفولة وللقرية الجنوبية. لكنه يختمها بنبرة الحزن أو التراجيديا التي لا مفر منها. فالحرب تشعـل أوارها الآن لذا فـ:"توابيتنا الفارغـة / تفرقنا في الزحام
وتجمعـنا للصلاة عـلى الميتين".
مثل هذه القصيدة نجدها تستجمع اليومي لتكشف عـن سر الحياة في جمالها، وسر الموت المتربص بالجميل منها. لذا فإنها تعـالج مسألة التوازن بين الحياة والموت، مفضيا ً بذلك إلى من يعـطّل مسيرتها ويسعـّر صراعـها، وهو ـ الإنسان ـ . فجملته صرخة لرفض مثل هذا المسار. لكن الشاعـر تعـامل مع الظواهر من مبدأ التأمل والكشف وإدراك المؤثر. وينحاز للإنسان في صموده وجلده، غـير أنه أيضا ً ليس بقدر الفرادة ذات النمط الخبري، بل من منطلق الشعـرية كما في قصيدة".
"عـند الساحل / اسقط "جواد"/ عـند الساحل/ وجدته الدوريات المحتلة مجروحا ً تحت/ الكتف والساقين/ فتحوا في السجن دمه/ لكن " جواد عـلي حسين " لم يفتح فمه/ فانفتح البحر له".
وفي موضع آخر يستخدم في ذلك أسلوب عـرض الصورة التي ترسم بسردية قصصية المشهد اليومي. فالمسرى الشعـري هنا يشير إلى الوقع النفسي عـد النماذج، ويرسم داخل وخارج المكان وعـلاقته بالشخصيات. إنه يرمي بذلك إلى إدراك الجوّاني عـبر مس الظاهر في قصيدة "الجثة" مثلا ً:
"في ليلة أمس/ نشط الطقس/ كان ظلام الغـرفة محترما ً، لم يمسسه الضوء وقد خرج العـمال نظيفين، وسدوا الباب الأسود/ والشباك الأسود دون ضجيج.
وتتواصل القصيدة من بعـد أن أفضى مطلعـها عـن مشهدها المفتتح. إذ نراه ينحاز عـاطفيا ً ووجدانيا ً إلى جموع العـمال. وهو انحياز جميل يرشح رؤيته ـ أقصد السارد ـ ، لما هو يشاهد من كرنفال يومي:
"لاصفة/ والقمصان منشاة والبدلات السوداء مهيأة
يلمسها/ الضوء فتشمخ دون صرير/ أبيض هـذا الوجه نائم بين الورد
نظيف/ وأنيق كأمير/ أبض بين الحيطان البيضاء".
إن هذه القصائد وغـيرها في الديوان، أستطاع الشاعـر أن يمنح من خلالها اليومي شعـرية خالصة كما وأن اختياره اليومي أضفى عـلى الشعـر طاقة تعـبيرية و ـ كما ذكرنا ـ وحـّد الصوتين؛ المبنى والمعـنى، بما منح القصيدة من تداخل وانسيابية، وموازنة واضحة. فليس ثمة أرجحيه جانب عـلى آخر.
في المجال الثاني؛ وهو النزوع إلى الحرية والإعتاق من أسر اللحظات والأجواء الصعـبة التي دفعـت الشاعـر إلى مغـادرة الوطن والموت في المنفى؛ فإنه أيضا ً يكون رائده الموازنة. فهو يدخل الظاهرة من شتى صنوفها، لكنه يعـالج مركزها المنصّب عـلى الاستلاب والمصادرة والتصفية. لذا فوسائل الوصول إلى هذه المعـاني الجائرة واللا إنسانية؛ يجعـلها الشاعـر عـلى موازنة دائمة مع ما تشف عـنه من شعـرية، فلا يضخم في التعـبير من أجل عـكس طبيعـة الجور وإفرازاته، بقدر ما يعـاين بهدوء وانفعال داخلي يشف عـنه باطن النسق الشعـري، وليس ظاهره. إن النزوع إلى الحرية عـنده هو نوع من التراتيل المتواصلة، لا يعـطلها الموت أو الانتفاء، بل يصعـّد نبرتها، كما هو في شعـر المقاومة عـ، د "نيروداوآرغـون ودرويش وسميح القاسم والسياب". إنه يتبع النََفَس الإنساني ضمن الألم البشري، فهو ـ أي الصوت الشعـري ـ قوي ومتواصل نفسيا ً، ويضع في حسابه المعـادلة التي يتحقق عـبرها الوجود. فما زال هؤلاء المسحوقون والمنحازون لهم، يستشرفون المستقبل والحياة الكريمة، فلابد من عـناصر تجد لها متسعـا ً في مثل هذا النسق الحياتي. لذا فالصراع ملزم لكن الشاعـر هنا يدرك وبحس شعـري عـبر وعـي فكري حينا ً أو انحياز طبقي في آخر. وفي المحصلة النهائية يكون التغـني بالحرية من خلال القيد والسجن والغـربة في المنافي. وهذا ما حدد انتماء الشاعـر إلى وطنه. فهو ليس انتماء أيديولوجيا، وإن كان كذلك فإنه لا يضع مبدأ الصراع السياسي كحد يتحكم في النسيج الشعـري. فعـنده الشعـر ينتمي إلى الشعـر والسياسة تنتمي إلى السياسة، لكنهما يرضعـان من تربة الوطن.
إن كل قصائد الديوان، وحتى ـ القصائد اليومية ـ تتجه إلى هذا الاتجاه، محققة معـادلا ً موضوعـيا ً رفيع المستوى. ففي قصيدة اللون الصامت يظهر التعبير عـلى أحسن صورة، فهي لا تتعـامل مع صمت الألوان بل مع أصوله:"لا أعـرف ماذا أرسم/أعـطوني الألوان وقالوا:
أرسم وجها ً يبكي لا يدري/ ماذا نعـطيه فيسكت/ أرسم سيفا ً يحرث فوق الخدين/ أرسم صوتا ً متعـباً.
هكذا يحدد الشاعـر صوراً تتراءى في احتمالات عـدة، لكنه يتواصل بما تمليه عـليه قدرته عـلى فهم الأشياء:
"أمد يدي، أعـجن كل الألوان/ أسقطها فوق الطين، وتشرب...
منتظرا ً أن تصف الألوان/ يا ألواني إني جئت / كي أرسم وجها ً لا يبكي وجها ً يصف الآمال، يسمي الأشياء/ يا ألواني جئت ولن يعـبر فصل لا أعـرفه/ أو ميلاد لا أعـرفه".
بينما نجده ينزع إلى عـناصر الطبيعـة ليعـّبر عـن ذات الحرية فيها، متداخلا ً مع صورها الحية التي تشي وتبوح بعـذريتها المعـبّرة عـن عـذرية وبكارة ما يرمي إليه الإنسان في نضاله اليومي:"أيتها الشجرة، يا أم العـصافير/ أنت تعـلمين، لماذا يكون الماء ماء البحر صافيا ً في الإناء /وقاتما ً في البحر/ وأنت تعـلمين أن الأغـصان الحية وحدها تملك الكثير من الماء/ ماء للعـطش/ ماء للوضوء/ ماء للبكاء".
وهنا يمكن أن نضيف إلى ما استقراه الدكتور مجيد الراضي منحى القصيدة القصيرة عـند الشاعـر، والتي امتازت بالاقتصاد في اللغـة، والانسيابية في التعـبير، كذلك في البوح بما هو مؤثر عـبر طرح وكشف المتضاد، محافظا ً في ذلك عـلى مناخ المقاطع في القصيدة الواحدة، معـطيا ً خصوصيات مختلفة للمشاهد التي تصّب في مشهد موحد.
في قصيدة رحيل يقول:
"كان ضوء الطريق، باردا ً مثل عـيني ّ
صامتا ً
تماما ً، كما شلت أمتعـتي ورحلت".
فهذا الإختزال يفضي بسعـة المشهد وجوانيته بينما نجده يكشف عـن حقيقة الأمر ليفضح النوايا أمام براءة الأشياء:
"يريدوننا، جاهزين/ مثل الحقائب/ نهبط/ أو نتوجه للمقصلة"
ويعـتمد أحيانا ً عـلى الضربة ليكشف المشهد كما في:
"يداي الخاليتان/ دافئتان/ وملء غـرفتي الضوء والهواء/ لست وحيدا ً/ ولكني وحدي"
ولعـل ما يميز الديوان؛ هو مناخه الذي يطغـي عـليه الهدوء الشعـري، وسعـة التعـبير وشموليته، ثم غـنائيته التي تنتظم في منظومة القصيدة الواحدة، حتى المقطعية منها. غـير أن التعـبير في القصائد هو ما يكشف خصائصها، وهناك نصّان يكشفان عـن مثل هذا؛ فالأول: الأجنبي الجميل الذي أنطوى عـلى قدرة في الكشف عـما هو خفي ومتوار خلف الظاهرة أو المسمى، فهي قصيدة لا تسمي الغـربة، بل توحي بها عـبر عـناصر شعـرية خالصة:
"أنا الأجنبي الجميل
أنا الأجنبي وهذا لساني
الذي يشتهي
ولا يستحي
فيطول..!
أنا الأجنبي تحيرت بين قميصي وهذا الظلام المخيف
تطلون منه عـلي ّ فلا تجدوني معـه"
وتتواصل القصيدة في كشف غـربة الجسد عـما يكسيها، عـابرا ً بذلك إلى آفاق أبعـد. وحين ينضج عـنده المشهد، نراه يترى ذهنه بالنقائض:
"أنا الأجنبي تعـثرت بالحاضرين وقمت إلى المائدة
عـلى قدم واحدة/ وكان الكلام النظيف يهل/ ويغـسل كل الصحون. تمنيت أن أعـترض/ ولكنني/ تذكرت أني أتيت بدون فمي".
إن القصيدة اتخذت لها وظيفة كشف المفارقات والنقائض، لتضع صورة الأجنبي بعـين الآخر أكثر حضورا ً لكنه مقموع ومستلب ، ليس داخل الوطن بل خارجه. لذا يختتم القصيدة هكذا:"انا الأجنبي الجميل/ وقفت مع الواقفين/ تزاحمت، لكنني في المكان القليل
أميل/ لتعـبر قبلي الحقائب/ ويعـبر قبلي المكان/ ويعـبر قبلي الزمان
تعـلمت أن أنتظر/ وأصنع لي وطنا ً في جواز السفر".
والثاني: قصيدة الحجر الذي رأى يحاول محاكاة ملحمة جلجامش لكنه يحاورها أيضا ً من منطلق الاستبدال في الركائز. فالقصيدة جُهد في التوظيف، وإحالة النص (المتن) للتعـبير عـن حاضر يكشف من خلال مسارها ما يلحق الواقع من متغـيـّر باتجاه قهر الإنسان ومصادرة وجوده وحريته، ماضيه وحاضره، وإغـلاق مستقبله وختمه بالشمع الأحمر.