ادب وفن

نصف قرن على رحيله، ناظم حکمت شاعر الحرية، 15 كانون الثاني 1902 – 3 حزيران 1963 / عادل حبه

يمر هذا العام مرور نصف قرن على رحيل الشاعر التركي ناظم حكمت. ولد الشاعر ناظم حكمت في سالونيك من عائلة ثرية ومتنفذة. ومنذ بداية نتاجه الشعري، كرس كل ابداعه لمقارعة الاقطاع التركي والاستعمار والاستبداد والفاشية وأجواء القمع السائدة في تركيا، والتحق بالحزب الشيوعي التركي مما أثار غضب ونقمة الحكام الأتراك. ونتيجة لذلك تم القبض عليه في عام 1938 وحكم بالسجن لمدة 15 عاماً قضى أشهراً في السجن الانفرادي. وعلى الرغم من أنه كان يقضي مدة محكوميته في السجن إلاّ أنه جرت محاكمته بتهمة جديدة وهي العصيان على الدولة المركزية لمدة 20 عاماً اضافية، واعقبه بحكم آخر لمدة 28 سنة وعدة أشهر.
ومنذ عام 1946 وبعده، أرسل ناظم حكمت أشعاره من خلف قضبان السجن لتنشر في الصحف الفرنسية والصحف العالمية. وأثارت أشعاره في سائر نقاط العالم غضب الرأي العام العالمي ضد الحكومة التركية مما استدعى تشكيل لجنة لانقاذ الشاعر ناظمت حكمت من سجون الحكام الاتراك. وشارك في الحملة لاطلاق سراحه شخصيات أدبية وفنانون مثل برتراند راسل وجان بول سارتر وبابلو بيكاسو وبرتولت بريشت ولوي آراغون وبابلو نيرودا.
وفي عام 1950، أعلن ناظم حكمت في سجن بورصا الاضراب عن الطعام. وتعاظم الضغط في الخارج والداخل لاطلاق سراحه. وأضطر البرلمان التركي إلى تشريع قانون حول العفو العام للسجناء رغم معارضة فرسات الاستبداد على تشريع هذا القانون. وفي النهاية أطلق سراح ناظم حكمت من السجن بعد قضاء مدة 13 عاماً في السجن وكان يعاني من أمراض القلب والإصابات في الرئة وقد بلغ الخمسين من عمره. وبعد إطلاق سراحه، أدرك الشاعر أن الحكم سوف لا يتيح له الحرية في العيش وفي الابداع. فحاول الحكم أن يفرض عليه الخدمة العسكرية بهدف الاجهاز عليه. ولكن ولاة الأمر فشلوا لأن الشاعر سيق وأن خدم في الشرطة البحرية في بداية شبابه فلا حاجة له لأداء الخدمة العسكرية. ونظراً لتقدمه في السن فقد قرر مغادرة البلاد وطلب اللجوء في بلد آخر يستطيع أن ينعم فيه بالحرية والابداع. ولذا هرب إلى خارج البلاد، وأقام لفترة قصيرة في بلغاريا ثم توجه إلى الاتحاد السوفييتي في عام 1950. ومكث هناك لمدة 13 عاماً وأسقطت عنه الجنسية التركية. وفي الاتحاد السوفييتي اقترن بزوجته الروسية فيرا ولاديميروفنا تولياكوفا. وتولت زوجته كتابة كتاب يحتوي على الأحاديث التي جرت بين الزوج والزوجة، ووضع الكاتب التركي الساخر عنواناً له " حديث مع ناظم بعد رحيل ناظم". وقد أشارت زوجته في هذا الكتاب إلى "أنني التقيت بناظم لأول مرة في عام 1955. ولم التقي طوال عمري بشخص مثل ناظم. كان إنسناً واقعياً بكل معنى الكلمة. زكان يتحدث بحماس واشتياق عن الأدب والفن والتشكيل والسياسة. كان ذا فكر ثاقب ويجذب كل مخاطب بأفكاره، إنه شخص لا مثيل له". في خلال سنوات وجوده في الاتحاد السوفييتي سافر إلى العديد من البلدان وشارك في مهرجان الشبيبة في برلين حيث تعرف على شاعر شيلي بابلو نيرودا الذي رثاه بشعر جميل عند وفاة ناظم حكمت اثر سكتة قلبية في موسكو في حزيران عام 1963، ودفن في مقبرة نوفودويجي الموسكوفية.4


تميزت أشعاره ومؤلفاته بالبساطة وبالسحر والمواقف الملتزمة الواضحة، والاستفادة من الموروث الشعبي التركي ومعاناة الشعب التركي، إضافة إلى كنوز الثقافات التقدمية الأخرى مما خلق له أنصاراً ومعجبين في شتى بقاع العالم وبما فيها عالمنا العربي. فأصداء طريقته الشعرية تجدها في إبداع صديقه عبد الوهاب البياتي والشاعر بلند الحيدري ونزار قباني. وخلف ناظم حكمت الكثير من الأبداع الشعري وأصدر عدد من الدواوين أبرزها "رسائل إلى ترانتا- بابو" عام 1935 و "ملحمة الشي بدر الدين" في عام 1935 و "مناظر طبيعية وانسانية من بلادي" في عام 1966-1967، أضافة إلى عدد من المسرحيات هي "الجمجمة " في عام 1932، و "الرجل المنسي" في عام 1935، و "فرهاد وشيرين أو حكاية حب أو أسطورة حب" في عام 1965. كما أصدر رواية بعنوان " إنه لشيء عظيم أن تكون على قيد الحياة" في عام 1967. فارق الحياة في موسكو عام 1963 ودفن فيها، ولكن لم يعاد الاعتبار له في وطنه الأم تركية إلاّ في السنوات الأخيرة.
ترجمت آثار ناظم حكمت إلى 30 لغة. وقد ترجم الشاعر الاسباني انتونيو كاموندا حامل جائزة سرفانتس آثار ناظم حكمت مثل "السحاب العاشق" و "أخي أن الحياة حلوة" و "الدم لا يتحدث" و بيت المرحوم" و حماسة شيخ بدر الدين" و " النفي حرفة معقدة" و "يوسف وزليخا" و "المحطة" و "مدينة بدون عنوان" و "باريس وردتي" و" ماء نبع جبل بيستون" وغيرها.
من قصائده الجميلة هي "رسالتي الأخيرة إلى ابني محمد"، وهي قصيدة دوّنها في عام 1954 وموجهة إلى ابنه محمد، وأهداها الشاعر إلى مجلة الثقافة الوطنية اللبنانية وترجمها الشهيد الراحل حسين مروة أثناء لقائه بالشاعر في اجتماع لمجلس السلم العالمي عام 1954. يقول الشاعر في هذه القصيدة:
الجزارون في ناحية، ضربوا ضربتهم بيني وبينك
وهذا القلب اللعين في ناحية، يلعب بي لعبته
فهل يكون نصيبي ياصغيري محمد، أن أراك بعد؟
أنا أعلم إنك ستكون رشيقاً كسنبلة القمح
فأن كنت هكذا في صغري
ممشوقاً فارعاً نحيفاً أشقر
وعيناك ستكونان واسعتين كعيني أمك
وحبنا سيغشاه حزن غريب
وجبينك سيكون جبيناً وضاءً لا يتناهى في الأفق
وظني أنه سيكون لك صوت جميل
فقد كان صوتي غريباً عن الجمال!
وستغني اغنيات حلوة تغتح طريقها إلى القلب
وستكون عذب الحديث يسيل العسل من لسانك
أي محمد
عسير عسير أن تطيب نشأة الصبي
وعين أبيه غير العين التي ترعاه في صباه
ياولدي ! لا تعذب أمك
لا لاتعذبها
أنا لم أستطع أن امنحها الضحك
فأجعلها أنت ضاحكة\دع وجهها يضحك على الدوام
أمك محمد:
إنها قوية كقوة الحرير
وناعمة كنعومة الحرير
أمك ... ستبقى جميلة حتى حين تصبح جدة
فكأنها يومئذ هي هي التي التقيتها أول مرة
على ضفاف البوسفور وهي في السابعة عشر
ضوء القمر...ضوء النهار...سمرة الخوخة قبيل نضجها..
بل أجمل ما تكون المرأة في دنيانا
أمك...
لقد افترقنا ذات صباح على رجاء الملتقى...
لكن هيهات....لم يتحقق الرجاء
لم نتمكن من اللقاء
أمك أذكى الأمهات وأطيب الأمهات
تعيش مئة سنة انشاء الله
ابني أنا لا أخاف الموت..
ولكنني انتفض أحياناً وأنا أعمل فجأة..
وحين أكون وحدي على سريري قبيل الغفو
يهتف بي خاطر:
من الصعب أن يعد الانسان ما قد يعيش بعد من أيام
ولكن هل نشبع من الحياة؟
لا يمكن يا محمد أن نشبع....
ابني لا تعش في دنياك مستأجر
كمن جاءها ليصطاف
عشدنياك كأنها بيت أبيك
ثق بحبة القمح
ثق بالأرض
ثق بالبحر
ولكن ثق أكثر بالانسان
احسسن بحزن الغصن الذي يجف
بحزن النجمة التي تنطفىء
بحزن الحيوان العليل
ولكن أحسس قبل ذلك بحزن الانسان
كل نعمة في الأرض تعطيك السرور
النور والظلمة يعطيانك السرور
ولكن الانسان....اعظم ينبوع لمسراتك
محمد...وطننا تركيا جميل بين الأوطان
ورجاله الحقيقيون مجتهدون
محبون للعمل
من طبعهم الدأب
شجعان....لكنهم فقراء
وفقرهم بشع ورهيب
لقد تعذب شعبنا ومازل يتعذب
ولكن ما أطيب المصير...
وأنت هناك في الوطن
ستكون من بناة الاشتراكية...السعادة..ستراها بعينيك..
ستلمسها بيديك
محمد!
سأموت بعيداً عن لغتي واغنياتي
عن ملحي وخبزي في لهفتي إليك
في لهفتي إلى أمك
إلى رفاقي إلى شعبي
ولكن ...لن أموت في المنفى...لن أموت في الغربة
سأموت في بلد أحلامي...
في المدينة البيضاء*...مدينة أجمل أيام عشتها في عمري...
محمد......
ياصغيري
أنت وديعتي عند حزبي
ولذلك سأرحل باطمئنان
والحياة التي تنطفىء بي
ستبقى جذوتها فيك سنين معدودة من عمرك
ولكنها ستبقى إلى الأبد في شعبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• المدينة البيضاء يقصد بها موسكو