ادب وفن

قدوري... "والزعيم" / مقداد مسعود

الآن يستيقظ النائم على منبه الموبايل، الذي ألغى الكثير من آلة الزمن
:الساعة اليدوية/الساعة المنضدية، التي توقظنا بتوقيت نريده..
الموبايل الذي لا تنافسه حتى كاميرات مخصصة للحاسوب، ومن المؤكد أن الحاسوب سينتصر إلى الموبايل، وهو يضيفه إلى اللوائح الالكترونية..يبدو أن ما يريده أستاذ علم الكومبيوتر والنظم المركبة في جامعة برانديس (جوردان .ب. بولاك) في أبحاثه حول تخليق التركيب البيولوجي ضمن هندسة البرمجيات، هذا التخليق الذي صار الآن في متناول الأيدي تقريبا...
هذه الذاكرة التقنية، لستُ ضدها وفي الوقت نفسه لا تجعلني "أفرمت" ذاكرتي الطبيعية، ليس لأني مثل المليارات من البشر الذين يقطنون في (تثبيات السعادة) حيث الحنين إلى ما مضى.. بل لأن الأمر يحتاج إلى فاصلة وقت، حتى تتخلص ذاكرتي من القوة الطاردة..أقول كل ذلك كلما أخذت أترصد ساعة الموبايل وأنا أقرأ في (الأشارات الإلهية) للتوحيدي.. فجأة تتعالى دقات طبل وأصوات صبية أعرفهم، يدعون النيام إلى يقظة لتناول وجبة السحور.. فأوقظ عائلتي.. ثم أشاركهم في تحضير المائدة.. يداي تشتغلان وذاكرتي تغطس في حوض ماء طهور من أسماء الطفولة، يومها لا أعرف قارع طبل السحور.. ولم أر طبله..
لكن صوت الطبلة يعلن أنها تنكة دهن فارغة.. وان العصا قطعة (بوري)... وأن صوت القارع صوت ممراح يجعلني أصغي مبتسما.. وحين أسأل أمي أو أبي: من قارع طبل السحور؟ يكتفيان بالابتسامة... تشجيعا لي لمعرفته معتمدا على شطارتي.. وحين أستعين بأخوتي، كان كل واحد منهم يرجمني بعشرة أسماء!، لكن كل شيىء سيتضح مع أول أيام العيد.. حين يتجول قارع الطبل عازفا بذات تنكة الدهن الفارغة، وبقطعة البوري.. ويجعل العزف عاليا، كلما وقف على عتبة بيت من بيوتنا..حينها أهرع لأمي مبتسما، هاتفا باسم قارع الطبل: قدوري...قدوري العربنجي..
الآن وبعد كل هذه السنوات المتعرجة.. كلما عزف قارع طبل السحور أستعيد (قدوري العربنجي).. بابتسامته الكادحة، وقميصه الأبيض المستهلك، لكنه النظيف دائما وبنطاله الخاكي وحذاؤه الكتان الابيض... قدوري الساكن وحده في غرفة استأجرها عند امرأة مسنة، يدخل البيت ويغادره دون أن ينظر إلى الأعلى.. قدوري الذي في 14 رمضان ولأول مرة في حياته تظاهر مع البصريين والبصريات أمام مبنى محافظة البصرة، هاتفا باسم الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.الآن مع وقت السحور وأنا أسمع دقات الطبل.. أرى قدوري يدق على الطبل بيد وباليد الثانية يرفع عاليا صورة ملونة للزعيم الركن عبد الكريم قاسم.