ادب وفن

نستالوجيا الخطاب الشعري / مازن المعموري

لماذا أصبح الشعر ملاذا للثقافة العراقية؟، هذا السؤال كثيرا ما يراودني وأنا أمر على التاريخ الثقافي للشعر, فالشعراء الذين وفدوا إلى بغداد مركز العالم العربي في القرون السابقة كانوا إما من طلاب الشهرة والمال أو من طلاب الزهد, فمن كان من طلاب الشهرة مدح وتخاصم، وأما من كان من الفئة الثانية فقد أصبح صوفيا هائما في الفيافي زاهدا بأشكال الحياة البغدادية المرفهة بكل متناقضاتها الحسية والجمالية والمتع الخاصة والعامة على حد سواء, والحقيقة هي أن التصوف جاء ليصبح أدبا وليس فكرا كما كان له أن يكون على حد تعبير هادي العلوي, أما الشعراء الفلاسفة مثل أبو العلاء المعري فهم محسوبون على الفكر أكثر من الشعر المعني بالعاطفة والكلام الجميل البليغ, ولو تقدمنا أكثر لوجدنا الشعر العربي لصيقا بالشكل اللغوي والبلاغي في عصر انحطاط الحضارة العربية حيث بقي الشعر بعيدا عن الحياة غارقا في تقديم المتع اللفظية للخاصة من الناس.
مصطلح (نستالوجيا) هو مفهوم سياسي واجتماعي ويعنى به التوق غير السوي للماضي أو إلى استعادة وضع يتعذر استرداده, وهذا الوضع ناتج عن عدم القدرة على التكيف مع الواقع, والحقيقة أن هذا التعريف وضعني أمام نفسي أولا, إذ أن استعادة الماضي والعيش فيه إنما هو صورة لما يحدث للمجتمع بأسره, وبالتالي يسير بنا هذا التوق للماضي إلى ابتكار لغة خاصة لاستعارته كلما أريد له أن يكون بديلا عن الواقع أو الهروب منه, وتحت كل الذرائع النفسية والمرضية والقيمية سرعان ما يجد الشاعر نفسه أمام تمثلات هذا المخيال الجاهز والراسخ في ذهنية الآخر المتلقي أو الجمهور ليعيد إنتاجه مرة أخرى.
إن الدخول إلى الماضي هو في حقيقته دخول إلى معترك المفاهيم المكونة له. فالمنطلقات الخلافية في مجتمعنا تعني القيمة الوجودية لذلك المفهوم, وهو ما حصل مع كل الخلافات السياسية والمعرفية في الحضارة الإسلامية التي مازلنا نعيش آثامها التاريخية, فقد ظل العراق على مستوى التاريخ, فترة طويلة يعاني من الاحتلالات المتعاقبة وقسوة الولاة والملوك والخلفاء الذين بطشوا بالعراقيين أبشع بطش, حتى أن سلخ الجلود والوجوه, كان من المشاهد اليومية والمألوفة في فترة الحكم العباسي وفي مكان محدد من بغداد, وكان هذا المكان يسمى بمتحف الرؤوس المحنطة الذي يقع على نهر دجلة في مكان "اورزدي باك" الحالي في شارع الرشيد, كما يذكر الأستاذ عبد الأمير مهنا في كتابه ( أخبار المصلوبين وقصص المعذبين في العصرين الأموي والعباسي)، مشاهد لا يمكن أن نراها في أفلام الرعب وكوابيس الحشاشة, وإزاء مثل هذه الأعمال وصور التعذيب تنامى الحس المتعاضم بالخوف من السلطة والانتهازية المفرطة أمام المتغيرات السياسية الحاصلة في كل مراحل التاريخ, فلا غرابة بعد ذلك ان يكون الماضي مسرحنا الأثير في التعامل مع قضايانا الجوهرية لأننا سرعان ما سنربط مدى قربها من المتعلقات الحية لذلك الماضي ومنها علاقة الشاعر بالسلطة وطبيعة الصورة المخزونة في ثنايا ذاكرتنا الجمعية لذلك الشخص الانتهازي والضعيف والمبتذل أمام حافة السيف وسيلان لعابه أمام لمعان الدرهم الذهبي .
في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات كانت قد استبعدت كل النصوص الواقعية التي تتعامل مع الحرب بشكل واضح وتم التركيز على ( وأنا هنا لا اتهم أحدا ولكنني أصف الظاهرة ) قصائد الشعراء عبد الرزاق عبد الواحد وآخرين تتصدر مهرجانات الثقافة العراقية ومن خلالها كان الضوء مسلطا على القيم القبلية للعروبة ذات البعد الحربي وخيلاء البطل وغيرها من الصور القديمة للحياة, وفي الجانب الآخر برز خزعل الماجدي ورعد عبد القادر وزاهر الجيزاني وغيرهم من شعراء السبعينيات ليصبحوا محط أنظار الوسط الثقافي ممثلين لمعطيات النص الشكلاني الذي يهتم بألعاب اللغة الشعرية تحت طائل الطروحات التجريدية للجمال الخالص والتي تعد النص الشعري مكتف بذاته, أما الشعراء اللذين كتبوا ضد الواقع أو حاولوا المساس بمرموزاته فكان عليهم أن يتحملوا التهميش والتغييب, بينما تراجع البعض عن مواقفهم المضادة للحصول على ما يشبع معدة اطفالهم وكل هؤلاء يملكون المبررات الحقيقية لتلك التحولات , ولكن ماذا بعد 2003.
لقد ظلت المهرجانات الثقافية في العراق تحمل ذات الطابع الخطابي ولكن هذه المرة بدون إيديولوجيا وبدون مخططات عليا أو تعليمات قد تثير ريبة الشاعر أو الناقد أو كاتب القصة, لذا بقي الشاعر يهيم خبط عشواء دون أن يعرف ماذا يريد لأنه لا يدري من هو الملك الذي يمدحه ولي في ذلك مثل لفت انتباه الجمهور في ملتقى المثقف والمصالحة حيث افتتح الشاعر محمد حسين ال ياسين قصيدة مدح فيها ثم ذكر القدس ثم ذكر العراق وجاءت القصيدة كما لو أنها محاولة لترضية كل الأطراف الدينية والقومية والليبرالية وغيرها من الأمور التي حفلت بها أبيات القصيدة الطويلة وكأن الزمان قد توقف في مفترق طرق ولا يدري أيها يسلك, والمبررات حقيقية وصالحة مرة أخرى للحدث وما بعده, لكنني متأكد أن الأدباء سيقفون هذه المرة أمام أنفسهم وأمام المجتمع ليقدموا مبرراتهم في كل مرة تتغير فيها الصورة وهي حقيقية وصحيحة طالما ان الماضي سيد اللعبة وان اللغة الشعرية هي البديل عن العقل العراقي الجديد.