ادب وفن

الهيل والليل: اضواء على قصيدة مالك القريشي / عيسى مسلم جاسم

العنوانات، سرايا استطلاعية، للصولات الثقافية، والنتاجات الانسانية، فالغلاف لوحده يزيح الستار عن الخبايا، ويكشف هوية المنجز الابداعي، وعلى الاغلب يمتلك "ثيمة" قد ولدت تواً تغري سراعاً "المتلقي" الى شد الرحال والغوص عميقاً بين الاوراق المتدفقة، بعد أن توقفت لغة الكلام، على لسان مبدعي القرون الوسطى من سير الحكماء والعارفين وصولاً الى الوعاظ والحكواتيين.
الشاعر الشعبي المعروف "مالك القريشي" والقصيدة الموسومة بـ"أشمن ريحة هيل" على الرغم من جهود ربان هذا اللون الشعري، وسعيهم للنهوض به سيما لغته، واللهاث لأجل الوصول الى "الفصيحة" وكحد وسطي إرساء اللغة الثالثة "لغة المثقفين" الا ان الشاعر بقي متمسكاً على ديمومة لغة "الجنوب" وله اسبابه ولا اعتراض عليها، بل هي لسان الأهل، وكلام الأحبة، وهي للواقع "لغة" ارتبطت بنضالات شعبنا، واهازيج ثوارنا عبر معاركهم الطبقية، وعبر عشرات العقود التي اتسمت بسيل من الوقائع الشعبية، والاسفار الجماهيرية.
واذا كنا قد فتحنا هذا الباب "الحدثاوي" فإنناتحدونا الرغبة في زيادة جغرافية هذا اللون الاصيل وتزايد عاشقيه من الجمهورين الأفقي والعمودي على حد سواء.
بيت القصيد عنوان القصيدة "أشمن ريحة هيل" وهي "الشم" فعل مستقبلي لفجر واعد وضاح، وبطل الحلم هو الشاعر، لسان ابناء جلدته، والمفعول به، هو الحلم المضاف والمضاف اليه "ريحة هيل، الشاعر يتطلع بمنظار وردي مستند الى تفكير أكيد سديد، تقف خلفه دراية علمية واثقة لـ"شم الهيل" وهو التعبير الرمزي "الفنتازي" ومع كل الويلات والظلمة الحالكة تمتد سهامات الضوء من تفكيره وتخرق "الحجب".
وعين الاصرار على التمسك بمركب شعبية الجغرافية استخدم الفعل المضارع الشعبي الذي جسده من خلال "النون" المتصلة بالفعل، والتي اكد فيها حضوره الفاعل البطل "أنا" فلا "تثريب" عليك سيدي الشاعر، بدليل أن اللغويين "صُناع النحو" وفي أوقات متأخرة "نسبياً" وعند عصر التدوين، كانوا يذهبون الى البادية "أرض الجزيرة العربية" حيث "الف باء" ولادة اللغة العربية، وتدوين "السليق" من الكلام كما هو على لسان قبائل "نجد وكندة وتميم" وهكذا وصل الينا "النحو العربي"، فقل "أشمن أو أشم" لا عليك يا مبدعنا.
فمع تكرار مفردة "الليل" إثنتي عشرة مرة، وما رافقها من مفردات ثقيلة، كثقل الليل على غرار "الويل، صرخة الريل، يدمع دم، الظلام، حركة، الدماية، التهويل، ذيچ المصيبة" وغيرها من المفردات السوداوية، نعم هو كذلك هذا واقع حال، وهي هكذا الصورة، اتضحت برغم المنظار الوردي الذي يرتديه الشاعر، بل لكل "الأنام" فقلبه ينبض نيابة عن قلوبهم، فلا غرابة، ولا عجب أن "شم" الشاعر "ريحة الهيل" وسط ركام رائحة الموت، وسيلان الدم، الى جانب العرق والدموع والغبار والبارود، والى آخر هذا المسلسل "النتن" من الويلات والخراب.
تكرار مفردة الليل - كما اشرنا - لأكثر من عشر مرات، وهذه المفردة جاءت توحي لهمًّ ثقيل وخراب واسع أليم، فالليل وجهان، ولكوننا اصحاب منهج وموضوعيين لنقلب اولاً الوجه المشرق، الذي يوحي بالسهر والاحلام، على انغام الموسيقى والهيام حيث "كواعب أتراباً وكأساً دهاقا"، والتلذذ بمجالسة "الحسان" وحيث الف ليلة وليلة "الاسطورة الأممية" وثانية على لسان الشعراء والفنانين، ونذكر من الأخيرين فقط السيدة الراحلة، كوكب الشرق أم كلثوم وبعضاً من اغانيها "الف ليلة وليلة، هذه ليلتي، ليلة حب" وغيرها.
أما الوجه الثاني لمفردة "الليل" التي قصدها الشاعر في قصيدته، فهو الجانب المرعب والتنين المخيف، وقد احتوت الكتب السماوية مفردات الليل وما يصاحبها من شر وساوس عدوانية، نظير ما يحصل اليوم على الساحة العراقية، اما في حياة الامم والشعوب فيترجم الليل الوجه الاستبدادي، وفي عيونهم أنهم يعيشون ليلاً طويلاً قاسياً، تنتابهم جملة من البؤس والجوع والمرض والحرمان، إنهم لا ريب ليل الطغاة، حتى ما زلنا نكتوي بنار المداهمات الليلية، وما تسمى "الزركات" التي تحصل أواخر الليل، وعلى وجه التحديد في حواضر المدن وضواحيها، والريف النائي بحثاً عن الرموز الوطنية التقدمية واليسارية، بحسب معيار ان الليل ساكن، ويجدون من خلاله ضالتهم، والأمساك بكل من لم يواليهم، ولا يفكر بالربت على اكتافهم، وفي حشد "سلطوي" مشترك تجمعهم قواسم مشتركة من حبس الانفاس وتكميم الافواه، ومرور الشعب من تحت رماحهم، قوات مشتركة، من الشرطة المحلية واجهزة الامن السرية، واقزام البعث العفلقية، كلٌ تحت طائلة الليل، والذي في ساعاته الاخيرة يتم تنفيذ احكام الاعدام والتعذيب، في ظل شعب موشح بالعنفوان والسعي لمسك أول الخيط للثورة والغليان. لكنها هي الساعات الاخيرة التي تكون أشد حلكة، ولا ريب سوف يعقبها فجر تليد، وهذا منطق التاريخ، وهذه سيرة عجلة الحياة، وسنن حياة الطغاة والسلطان مصيرها الذبول والافول الحتمي بفعل سريان الوعي الثوري "لا توجد حركة ثورية بدون نظرية ثورية"- لينين.
والمبهج حقاً ان الشاعر "القريشي"، على الرغم من تصويره الأمين، فإنه رسم للمتلقي لوحة تتسم بـ"الواقعية الاشتراكية، لسبب مهم وبسيط انه يكتب من وراء المكاتب او من شرفات الابراج العاجية، بل من معاناة الشعب اليومية، والجميل ومع خيام الليل البهيم في أول القصيدة، الا انه جعل العنوان "رومانسيا" واثقاً من انبلاج الفجر، أضف الى ذلك والاجمل ايضاً جعل الختام في السطور الاخيرة، حكاية تترجم الخلاص من الليل الطويل.
مثلما كان العنوان "أشمن ريحة هيل" أي يعني يرى نقطة ضوء في نهاية النفق، هكذا كان واثقاً جداً، وكأنه ضغط على مراحل التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، هي نبوءة ابداً لم تكن "طوباوية" بل مبنية على اسس دقيقة علمية، اما الختام فكان مسكاً، فيقول: "توالي الليل لا بد للشمس تطلع وشمن ريحة الجوري وشمن ريحة الهيل.
القصيدة خريجة مدرسة "التفعيلة" نرى تكرار حرف "اللام" كقافية لـ"اثنتي عشرة مرة، وهذا العدد مبارك ومعمول به وفق "الميثولوجيا" الاجتماعية والتاريخية، وضمن الأرث الحضاري، مع تكرر "الهاء" المربوطة لـ"أربع مرات" كما تألفت القصيدة من ثمانية وعشرين سطراً، جاء بعضها "مدوراً" وايضاً اتسمت بشكل عام بالتفعيلات الطويلة التي تستوجب "النفس الطويل" وكأنه يحصي صبر الشعب وفق مفهوم "الهدوء يسبق العاصفة".
اما الجانب الفني فجاءت القصيدة منسابة انسياباً هادئاً، وبمفردات مفهومة، ومن غير اسفاف او سطحية او وعظية، او متناغمة الايقاعات وفق الموسيقى "الوزنية" التي يشدنا اليها ثانية كونها جاءت سلمية خالية من الهفوات اللغوية والنحوية وحتى الطباعية وهي حالة نادرة لقصيدة شعبية نقرأها وهي مشوهة بفعل الهفوات المشار اليها.
توالي الليل.... توالي الليل/ أهجُس روحي مخنوك ه وتحس بالويل السطران الأولان من النص، وقلنا ما قلنا بخصوص معاناة العقود الطويلة والموسومة بـ"الليل" والحالكة لانها توالي الليل، آخر الليل، قبل الفجر، كما إن لدى الشاعر افكاراً اخرى كبحها، وما أراد لها أن تندلق خشية الملام، وبقيت حبيسة صدره المتخم بسطور طويلة من المتاعب، واستعاض عنها بالنقاط الخمس، وجاء العدد اعتباطياً، كان بودي أن تكون "..." ثلاث فقط، وهي وبحسب المنطق الرياضي تعني الكثرة وحتى اللانهاية.
ومن جديد - وكما اسلفنا - يكرر توالي الليل- توالي الليل ظل الليل يدمع دم وصار ويه/ الظلام يسيل، من النص، وهي صورة بلاغية "أنسنت" الليل، وجعلت منه كائناً حياً يشاطر الضحايا آلامهم، فالدموع من عيون الليل "لوحة سريالية" تفوق لوحات سلفادور دالي وكأن يعتذر ويتضامن، لكنه وفق سنة الحياة، وحضوره لا محيص منه.
ويمضي الشاعر برسم لوحاته التضامنية، فتوقف عند طفل: توالي الليل طفل مرعوب/ راد أمه الضنكهة العوز وخان بهه الحيل النص ذلك الليل المساق على أنفه، لم يستثن أحداً حتى الضعفاء "المرأة والطفل" وكأن الشاعر يعيد الى الاذهان "واقعة الطف في كربلاء" وضحاياها النساء والاطفال، ناهيكم عن خيرة المبادئ عند الرجال.
توالي الليل لأن غاب الشوك وشمس المحبه، اختفت والذيابه شكد كباحه تشيل- النص، والمرارة فيه على الرغم من أواخر الليل وشح الكون الا أن الفجر لم يكحل العيون وتسيّد الذئب الميدان، خسارة الانسان، وهذا يعيد النظر في الخطط السياسية من جديد، والبحث عن تكتيك جديد.
النصف الثاني من القصيدة المؤلف من خمسة عشر سطراً شهد الانعطاف الكبير.