ادب وفن

عن قصيدة "اللامكان" للشاعرة سعاد العتابي / مختار الامين

لماذا وكيف نشأت القصيدة النثرية زاحفة على أربعة كحبو طفل.. فارق ثدي أمه من وقت قريب بخطى مرتعشة قررت الخوض في العراك والنزال وسط كبار الأجناس الأدبية خارجة من عباءة الشعر، والخاطرة الشاعرة.
هذا السؤال الطويل الشارح مهم جدا في هذه المرحلة كبداية احترام للقصيدة النثرية ليتناولها قلم الناقد بشكل فيه التقدير، واعطاءها حقها بما جادت به وأدلت من إبداع، وخاصة أن كل البلاغة الأدبية مباحة في اللغة العربية الثرية، وقديما كانت هناك أجناس أدبية معروفة، ولها مكانها وسط الإبداع العربي، ومبدعوها المعروفون بها مثل: الملحمة، والمقامة، والخطابة، وكثير من الأشكال الأدبية التي عفى عنها الزمن، ودهستها عجلات قطار الحداثة والعولمة، وجادت قريحة الإبداع الأدبي الإنساني بالجديد.. نرفضه في أول الأمر ونحاربه.. مدافعين عن أبوته وأصله الجيني حتى يكبر وينمو، وتكثر الأقلام والإبداعات في كتابته، ويدق أبواب الجامعات ليدرّس، ليعلن عن شكله وجنسه الأدبي الجديد.. من هذا أتت القصيدة النثرية بتهجين الخاطرة الرمزية البلاغية من أب خصب يسمى الشعر الحديث حتى أصبحت قصيدة كاملة العضوية.. أي قصيدة مكتملة في عناصر شكلها الجديد: موضوعاً ذا فكرة موحدة ـ تميّز في البلاغة الأدبية في مقاطعها ـ صوراً بلاغية وشعرية جديدة في معناها تحتاج اللفظ الحر الطليق، غير مقيّد بوزن تفعيلي معبر موظفاً توظيفا جيدا ـ صورها وألفاظها تدخل في تأويل جديد على مستوى اللفظ والمقطع ـ لفظ يؤول تأويلا جديدا غير متعارف عليه في السابق "درجة من درجات أوزان اللفظ الثلاثة ـ دراسة بحثية ـ مختار أمين" إذن القصيدة النثرية أتت بجديد أثرى الأدب رغم تعنت الخليليين الكلاسيكيين. والغرب يكتبون القصيدة النثرية منذ زمن.
ولإثبات ما سلف سنقوم بتحليل قصيدة نثرية تؤكد ذلك بعنوان في اللامكان للشاعرة الواعدة: سعاد حسن العتابي
في اللامكان ...
على ضـفة بـلا نهـرٍ
جلسـتُ وظلّي على أعشاب الماء
يشـاركني مُـرّ الحديث وحلمي
وزهرة عبّاد الشّـمس تمرّست سماعنا
وأشـياء هنا .. وهنـاك
تحتفظُ بانعكاس .. همسنا
الموضوع والفكرة:
والفكرة هي العنصر العقلي في النص، والفكرة الممزوجة بالعاطفة تشكل مضمون النص الأدنى.
أي أن قدماءنا ومعظمهم من البلاغيين لم يكن لديهم تصور كامل وواضح للمعنى، وقد دُرست الدلالات في أصول الفقه، والبلاغة، والمنطق دراسات أرقى وأعمق من حيث دلالة اللفظ ومعناه؛ فوجدوا ضبابات وإشارات تحدد المعنى بوجه عام.. ولعل أهم شيء لتوضيح ذلك ظاهرة فنية تسمى البلاغة، وهي التي تتحقق إذا بلغ المعنى مبلغه في نفس المتلقي، فيتأثر به، ويتعاطف معه، وهذا المعنى يتحقق في علم البيان وهو: الذي يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، ومن هنا تتضح فكرة النص في المضمون الدلالي والغاية.
والموضوع هو الحنين إلى الوطن الأصيل الخصب الذي لا يضاهي أي وطن آخر لو أمضينا فيه أطول أيام عمرنا أو أسعد أيامنا، وقوبلنا فيه بكل الاحترام والعيش الكريم، وتناسلنا فيه جيلاً بعد جيل يبقى الوطن الأول الوطن الأم محفوراً في الروح. هنا الشاعرة عزفت عزفا منفردا على مشاعر حنينها للوطن المفقود، والغربة التي تجعل روحها تنسلخ وتبقى كجسد بلا روح أشبه بالميت.. دعونا نرى كيف صورت هذا.
الصور البلاغية والأسلوب:
في اللامكان كل شيء عند الشاعرة وهمي، غير حقيقي وغير موجود طالما خارج الوطن، فنراها في مطلع القصيدة تقول: "على ضـفة بـلا نهـرٍ
جلسـتُ وظلّي على أعشاب الماء" وهنا استخدمت استعارة مكنية للروح الهاربة التي أصبحت ظلاً يلاحق جسدها، وعملت عليه وبنت عليه كل ما من صور بلاغية.
أسلوب مباشر واضح الدلالة والمعنى"على ضـفة بـلا نهـرٍ" أي لحظة استغلتها النفس لاستقراء ماهي فيه، وازعها حنين وشوق لمفقود فتقول: "جلسـتُ وظلّي على أعشاب الماء" هنا قسّمت كيانها كله إلى قسمين النفس والروح، النفس الحاضرة المستقرأة، والروح الغائبة التي تطفو على النفس في حنينها للوطن الذي استحضر في خيالها يشاركها الحديث "يشـاركني مُـرّ الحديث وحلمي" وهنا تصف الحديث بالمرارة على سبيل الاستعارة بالكناية، وكأنه خلوف الصائم الذي يروح ويجيء في الفم بشكل ثابت غير متجدد يكرر نفسه عبر ذكريات ثابتة محددة المعالم لا تتغير ولا تبرح الذاكرة تحدث نفسها به باستمرار، واليوم تستحضر الغائب الحاضر الوطن ليشهد على حديثها هذا، وحلمها فيه "وزهرة عبّاد الشّـمس تمرّست سماعنا" واو العطف التي تسبق زهرة عباد الشمس المعطوفة على المعطوف عليه فيما قبلها تفيد استمرارية الحديث واستمرارية المشهد المتكرر، وكأن كثيرا ما تتحدث نفس الحديث أمام نفس الشهود حتى أن زهرة عباد الشمس "تمرّست سماعنا" هنا في هذه الجملة ذات اللفظين صورة بلاغية رائعة، وهي تجسّد التمرّس في شكل زهرة عباد الشمس المتفتحة الأوراق كما البوق كأنها تصغي السمع اعتادت عليه؛ فتطبعت الزهرة على هذا الشكل؛ فأصبح شكلها يأخذ شكل الأذن المطرطقة للسمع، وهذا النوع من التصوير البلاغي المرتبط بالرؤية والصورة في شكلها الواقعي يعطي جمالا في نفس المتلقي، لأنه يؤول الصورة الشكلية الذهنية المتعارف عليها بشكل جديد من خلال بلاغة الشاعر الوصفية.
"وأشـياء هنا .. وهنـاك
تحتفظُ بانعكاس.. همسنا"
الأمر سيبقى على ما هو عليه، وتصبح كل أمنياتها للعودة للوطن بعيدة، وتظل الروح هائمة تبحث عنه في اللا مكان، والدلالة الثانية اليقين في القرب بالعودة، لأن الوطن يشاركها الحديث.. قدرة الخيال على استحضاره مجسدا حيّا أعطاها اليقين بالعودة، وأمنياتها فيه، وهنا فن البلاغة في التأكيد المعنوي الذي لا يلحظ بعلامات التأكيد المعروفة، ولكن تأكيداً يؤكده الحس بجمال الصورة المركبة بلاغيا، وهنا استعارة مكنية فيها تشخيص المساء والصباح بعروسين في عقد قرانهما، تشبيه بلاغي يفيد الإلتحام، وازدواجية اللون والملمح، يعني الصبح يشبه المساء في اتحادهما بعقد القران، وهنا أيضا وظفت الصورة بأكملها على أن تعطينا معنى مغيرا على ألفاظها، من حيث تركيب الجملة واختيار ألفاظها.. القران زواج وفرح، ولكن ما أكدت عليه هو حزن ومأتم، والدلالة "أضاعتِ الشمسُ نورها ـ التَحفَ القمرُ بالعتمة ـ شرذمتِ الأنجمُ في متاهاتِ الفضاء ـ سافرتِ الأحلامُ خارج الزمن ـ بكتِ البساتينُ البلابلَ الغافية ـ انطوى الجسدُ وتدثّر بجلده وبقبلةٍ ـ تسمّرتْ على الشفاه من زمن ما" كل هذا التصوير يدل على المأتم والحزن المخيم على كل الهناك الذي هو هنا، فنجدها شخصت الشمس بطفلة لاهية أضاعت نورها، كما التي فقدت عذريتها، وكأن وطن الشاعرة كان
بالنسبة للشمس نورها، "التَحفَ القمرُ بالعتمة" هنا فنية ومهارة استخدام اللفظ كدال للصورة "التحف" اللفظ الذي يؤول الصورة بشكل دقيق قاذفا في قلب المعنى، ومقدرة الشاعرة في إيجاد اللفظ الذي يجيد المعنى إجادة تامة، واستخبا القمر وخبا كالجبان، وهنا براعة الاستعارة المكنية في تجسيد القمر لإنسان، "وتيه الأنجم في متاهات الفضاء" ولفظ متاهات هنا موح جدا، هنا أيضا البعد الثالث للفظ استخدامه للكشف عن الحالة الشعورية ووصفها "أوزان اللفظ الثلاثة ـ دراسة بحثية ـ مختار أمين" يدل على متاهة الضياع التي تعيشها روحها، والوطن المستعار الذي تقيم فيه فضاء خالياً يدل على اللا مكان مهما امتلأ بعوالم مغرية، ومخلوقات مغرية، وتجسيد الأحلام بالإنسان الذي سافر خارج الزمن، وهنا تشبيه بلاغي واع عندما تكون الأحلام في أرض المستحيل في غير بيئتها، كأنها تهرب خارج حدود الزمن دلالة على عدم تحقيقها نهائيا.
"انطوى الجسدُ وتدثّر بجلده وبقبلةٍ
تسمّرتْ على الشفاه.. من زمنٍ ما"
هذه أروع صورة بلاغية في القصيدة على الإطلاق جعلتنا نرى الجسد الميت بعد نزع الروح منه، الروح الهائمة في الوطن، تصوير بديع تتعدد فيه الرؤى والأخيلة لنفس الصورة بألفاظ عادية مستعملة، مرة نجدها تعتمد على اللفظ بذاته يصور لنا، ومرة تعتمد على اختيار الألفاظ وتواردها خلف بعضها لتكون جملة في بناء سهل ممتنع، أول صورة لنفس الصورة متعددة الرؤى، صورت موت الجسد لحظة الفراق لحظة خروجها من الوطن وهي تقبله؛ ففرت في نفس اللحظة منها الروح؛ فانطوى الجسد وتدثر بجلده، وهنا صورة فرعية داخل الصورة الكلية الأم، شكل الجسد كما صورته في الانطواء ـ وخلو الروح منه كما العظم ـ وهنا تشير على الخلو والخواء الفراغ الذي أحدث فيها بعد رحيل الوطن لابد أن يجعل الجسد منطويا، وكأنه متدثر بجلده، وهذه صورة من بلاغتها تثير قمة العاطفة لدى المتلقي، وصورة أخرى لحظة حدوث الموت والخواء والخلاء والفراغ بعد هروب الروح على آخر صورة كان عليها الجسد "القبلة" وكأنها تسمّرت على الشفاه اللوح "الجسد" المصلوب "من زمنِ ما" ولا في زمن ما، الطبيعي أنها تقول في زمن ما، لأنها تسرد موتا قد حدث قبلا في أحد الأزمان، و"من" هنا تفيد الاستقطاع من التوّحد مع ذاك الزمن الغارب الذي لم ينفصل عنها الذي مازال باقياً بداخلها بدليل استمرار تسمر القبلة على الشفاه ـ رسمتها ـ حفرتها، وهو تعبير يثير مشاعر المتلقي بالشعور الشجني الجالب للتعاطف، ونأتي لاختيار الألفاظ وعملها ونتائجها؛ فنجدها اعتمدت على ثلاثة ألفاظ "انطوى ـ تدثر ـ تسمرت" كل لفظ فيهما أعطى تصويرا تاما بإحكام شديد دقيق دل على عمله وأتى بنتائجه وأثره في البناء المحكم، وتصور موت الجسد، وهروب الروح؛ فأصبح كل ما سيأتي بعد هذه كأنه يحدث في اللا مكان، في عالم البرزخ، عالم الحالم، فنجدها بعد تصوير ما حدث لها ببراعة تكرر "في اللامكان" وهنا بداية القبض على لحظة حدوث القرض، قول المشاعر "اجتَحْـتُ وظلّي برزخَ الروح" نجدها أيضا تعتمد على اللفظ الموصل بسهولة للمعنى "اجتحت" وهنا في استعارة مكنية تجسد الظل بالروح في برزخ الروح، فنجدها تصور الروح على شكلين الأول عندما كنتها بالظل تمثل الروح الهائمة الغاربة الهاربة، والثاني جواب شرطي بلاغي للأول دون أداة الشرط لتحرر من أسلوب الشرط لتدخل مرحلة اليقين دون عائق للتوكيد، والشرط لا يعطينا اليقين إلآ بتحقيق شرطه، ولكنها هنا تريد أن تؤكد للمتلقي أنها على يقين في عالم البرزخ؛ ففرغت بناء الجملة من أي أدوات وحروف لتهرب من الشرطية، وتحقيق الجواب باليقين بلاغيا أنها في عالم البرزخ، "هــاجَ شوق لذاتٍ أقْصيـتْ .. في سراديب العتمة .. زادُها حزن تعهّد لها بالإخلاص" أريد أن أبحث عن جمالية التنكير هنا، وما يفيده من دلالة وتأثير في "شوق ـ لذات" عرفنا أن التنكير في اللغة يفيد العموم، وأيضا يفيد الإبهام، والتقليل والوهن لأسماء الصفات؛ فنراها استخدمت في الأولى "شوق" للعموم من كثرة الشوق الذي لا يحده حدود في تصورها، وما تشعر به، واستخدمت في الثانية "لذات" التنكير للإبهام ليفيد الدنية والضعف، والضعف على ذات أنهكت لا حول لها ولا قوة، والتعريف يفيد التكبير وعلو الشأن، فكيف لها أن تصف نفسها بالكبر وعلو الشأن وهي في هذه الحالة من الضياع الشامل.