ادب وفن

اللغة تتسع باتساع الرؤيا غيوم ماجد البلداوي ( القسم الأول) / عباس باني المالكي

حين تكون الفكرة هي الرؤيا المنعكسة إلى داخل اللغة، فسوف تمتد هذه اللغة إلى مساحات تستطيع أن يعطيها الشاعر الثيمات المتغيرة وفق منهجية تكوين المشاعر النفسية والرموز المترتبة على التعبير عنها من خلال قدرة الشاعر على المسك باللغة كأداة نقل هذه المشاعر إلى جوهر هذه اللغة لكي تصبح اللغة هي الواسطة المعبرة عن هذه الثيمات المتغيرة، وليس من أجل أن تصبح اللغة هي التصور الناطق لهذه الرؤيا، لأن في هذه الحالة، كثيرا ما تنفلت اللغة أو تتراكم داخل خيال الشاعر الصانع للرؤيا وتتحول إلى رموز مبهمة وغامضة خالية من عنصر الحياة التي لا تعطي التأثير المطلوب على المتلقي دون الوقود في التقريرية، ونحن هنا أمام شاعر يمتلك ناصية اللغة المكونة لكل المعاني التي توصل إلى احداث الانزياحات الواسعة والتي تجعل المتلقي يتطابق برؤيته مع الرؤيا التي يريد الشاعر أن يوصلها، أي أن الشاعر ماجد البلداوي يعرف كيف يصوغ منهجية الرموز المكثفة المتحققة من خلال رؤيته الفكرية والحليمة تابعا منابع هواجس الذات بكل مراحلها وحسب تغير الظروف المكانية والزمنية لكي يرتقي بالرمز المتجدد إلى غايات واضحة مع اعطاء الرمز المكثف.. والمكاشفة التي تعبر عن بواطن الأشياء وحركتها من الداخل واعتمادا على رموز الذات الداخلية فان الارتكاز على اللغة من أجل الكشف عن المستوي المجازي ومستوي التوغل في الخيال لكي يطاوع الرؤيا وفق تركيب اللغة العميقة للأحداث المغايرة في تركيب مفردات هذه اللغة لكي تتخلص من الجمود وفي نفس الوقت أعطاؤها كل المؤشرات الحية والمؤثرة في المتلقي حين يقرأ النص الشعري بعيدا عن الجنوح إلى مفردات لا تشكل ضمن النص إلا شكله، أي فارغة من المعني الواضح المرمز بكثافة العبارة الشعرية وهذا ما نجده في نصوص الشاعر ماجد البلداوي حيث تبقى الكلمات هي الارتكاز الأكثر امتدادا والرحم الأول لولادة المعنى، حيث يكون هنا الارتكاز في أحداث الفعل هي الكلمات وهي المؤشر على تغير الحياة المؤدية إلى فقد الحياة أو فقد قيمتها المعنوية، أي تصبح هي الدالة الموضحة لكل الأحداث، وتبقي الكلمات هي الحيز الذي تتحرك ضمنه الأحداث حيث يشكل عنصر الكلام أو الكلمات دافعا للفعل أو المحتمة على نهايته، فتصبح الكلمة هي المعبر عن المعني المتحقق لكل الأفعال في المقاطع الآتية، ويحدث هذا ص 19(آه يا../ قلتها مرة, وتسلل دمع من الذكريات البعيدة, أرخت عناقيدها الكلمات) وتكون هنا الكلمات هي المؤشرة على البعد وفي احتواء الذكريات فبقت الكلمات هي الملازمة لوجودها في الذاكرة، أي أن الكلمات هي ثابتة والمعبرة عن تلك الذكريات، ويبدأ بحرف النداء إلى البعيد ليشير برغم بعد هذا الذكريات فهي موجودة في الكلمات حوله، حين تكون اللغة الكاشف لمعنى الأشياء. ص 23 (آه كم أحتاجك يا أنثاي! الليلة تلتهب الكلمات/ فنشعل موقد وحدتنا/ نتدفأ بالعشب/ وبالأمطار وألوذ بدفئك).. كل معنى في الوجود خارج اللغة لا يكتسب الحقيقة الجوهرية في ظواهر الحياة والشاعر هنا استطاع أن يعطي إلى اللغة بقدر ما هي أداة نقل وتعبير، كذلك أعطاؤها عمق المكاشفة عن حركة الظواهر وارتباطها المنعكس من الجوهر، أي هي المعنى في تحديد مدارك الإنسان والتي تؤشر كل مفردات الحياة حوله، فهنا أقصى حالة لحاجته إلى أنثاه، هي التهاب الكلمات، حيث تصبح المعبر الكامل لكل مشاعره الداخلية، أي أن اللغة هي المعبرة لكل ما يعيش من استفزاز داخلي ولكل ظاهرة في انحدار أو امتداد لحالة التعبير الداخلي والمحددة من خلال الرموز (الليل، الدفء، العشب، الأمطار).
بهذا تكون اللغة هي الماسكة لكل حالات التعبير عن المشاعر الباطنية في الوعي أو اللا وعي، أي تصبح اللغة هي لغة الداخل والمعبرة عن كل ما يدور حول الشاعر من انعكاس لكل الرموز حوله، واللغة هنا بقدر ما تحولت إلى وسيلة التعبير، بقدر ما هي أداة لخلق الرموز الوجودية، أي أن الشاعر أمتد باللغة إلى تصور رموز الرؤيا والحركة المترتبة على تنفيذ هذه الرؤيا، والذي يميز الشاعر أنه يحدد الفعل ومن ثم يكشف عن كوامنه الانعكاسية حيث تصبح اللغة هي الاختيار الأكثر تعبيرا عن هواجسه النفسية وليس حالة طارئة للتعبير، أي هي سيمياء النص وحالة تأويله إلى الرموز المقاربة لكل حالاته التي يعبر عنها من وعيه اللغوي وتنقلاته ضمن الوجود، فيجعل من اللغة الرموز المبطنة لكل ما يحدث في الحياة من ادراك فكري لحركة الأشياء المؤثرة فيه..
ص 32 ( قال المهرج سوف تدرك خيبة الكلمات،/ تشتعل في فضاء الغيم/ أسيجة وتمضي/ خلف صيادين ويبتكرون شمسا للنميمة)
فنجده هنا يحاول أن يفسر أن كل ما يحدث حوله من خيبات في التعبير هو بسبب الكلمات، أي أنه يكشف عن رموزه الداخلية من خلال التعبير الاستعاري لكي يحدد الرمز وقيمته، ومن ثم يرتقي به إلى مستوى توضح الرؤيا التي حققت الانزياح باستعارة المعنى لهذا الرمز، وهذا يحدث من خلال ميكانزمية اللغة نفسها دون الإفراط في الغموض في التعبير عن هذا الرمز، أي أنه يبتعد عن الغموض والجمود المفردات المعبرة لكي تبقي تتجاذب أو تتحرك ضمن نسق واحد المتحرك، محركا الفعل على الواقع وهذا طبعا يؤدي إلي تكوين الاستعارة الدلالية والمكونة للصورة الشعرية المقاربة إلى بؤرة النص المتحرك.
ص 35(آه لم يعد الرصيف بضاعتي، سأروض الكلمات كي تنصاع لي/ وأدس في غاباتها طرقي)
اللغة والتعبير عن الرموز الذاتية
حين يعجز عن ايجاد تصالح مع الواقع حوله يحاول أن يلتجئ إلى اللغة ليطوع قيمة التعبير عن هذا الواقع الذي يعيش خارج ذاته الداخلية ورموزها، حيث لم يجد في الوجود الذي حوله إلا منفى اختيارياً لكل ما يريد أن يصل إليه، لا يستكين بل يستمر بالمحاولة لكي لا تهمش الحياة حوله كليا ويسقط في دائرة الغربة, أي انه يحاول أن لا يتخلخل المعنى لديه من خلال عدم التصالح مع الأشياء التي ينتمي إليها بل يحاول أن يعيد المعنى إلى الأشياء التي فقدت معناها ولكن ليس بالطريقة القسرية بل بطريقة انتاج رؤيا أخرى مغايرة لها ولكنها مرتبطة بنفس المعنى لكنها مغايرة لها عن طريق احداث الانزياح الذي يعيد المعنى ويحقق التجدد بالرؤيا وهذا ما نجده في المقاطع الآتية.. ص43، (هذا هو الناي البعيد/ يرتقي الكلمات/ بالمعني/ وفاتحة الأنين) فهنا الواقع هو الفعال في تحقق اللغة التي يستطيع أن يعبر من خلالها عن معاناته واغترابه، فهو هنا من خلال البعيد، أي بعيد عن الواقع الذي حوله يأتي به لكي يرتقي الكلمات ويعيد اكتشاف المعنى الجديد حوله بالرغم من أن واقعه المعاش لا يحمل سوى المعنى والأنين ويتم كل هذا من أجل أن يخرج حسه الذاتي إلى مستوى الموضوعية كي يؤكد أن هذا الواقع الذي فقد عنصر التصالح معه ليس بسبب عناوينه الذاتية بل هو هكذا كما هو، فهو لم يقيمه حسب اشتراطاته الذاتية التي حدد بها هذا الواقع بل أن معناه والدلالة عليه هما فاتحة الأنين، فهو يراه دون الانحراف بالمعنى خارجه, فيمتد هذا الواقع ليشمل كل الزمن الذي يمر به دون التدخل منه بتحريف الانتماء إليه فهو المسكون بالطعنات، والقلق والحروب والرصيف الدامي، وما الكلمات إلا أداة التعبير عنه، فبرغم كل هذا يحاول أن يعيد تجميله وترميمه لكي لا يسقط يوتوبيا المسيطرة عليه، أي أنه يدرك برغم كل هذه المعاناة أنه مازال متمسكاً به ومنتم إليه وهذا ما نراه في ص 45: (يا أيها المسكون بالطعنات/ والكلمات،/ والقلق والحروب/ دمك الرصيف, فودع القداح).
اللغة المعبر عن محور التغير
وبالرغم من أنه متمسك بهذا المكان دون التخلي عنه يحاول أن يرسم أفقاً آخر وعصفورا من الكلمات لكي يغير المعنى لديه من خلال مسحه زجاج غمامه ونحيبه الذي يرزح تحته، وهنا يأتي بالأفق وهو محاولة البحث عن واقع آخر بعيد عن الواقع الذي حوله حيث أن الرسم هو حالة البحث عن التغيير ولكن عدم القدرة على فعله لأنه يشعر بتلاصقه بهذا المكان لأسباب قد تكون خارج قدرته، وهنا صارت اللغة محور تغير لكن بشكل تمني، أي توضح حالة الغجر لديه أحداث التغير حوله، فنشعر بأن اللغة هي المنطقة التي يرتب فيها قناعاته وامتداده الذاتي وهذا ما نجده في هذه المقاطع في ص 46 : (وأرسم لهذا الأفق/ عصفورا من الكلمات،/ وأمسح من زجاج غمامي/هذا النحيب).. هنا كل حدث يؤدي إلى اللغة يتكون المعنى لهذا الحدث من خلال المفردات المناسبة التي تعبر عنه. ولكي نحدد الأسباب التي تشارك بأحداث هذا الفعل لكي يستمر النص كوحدة عضوية متجانسة الرؤيا واللغة المعبرة عن هذه الرؤيا بشكل موضوعي في لحظة الذات المتأثرة لهذا الحدث، حيث تطرح هذه الذات التأثير بشكل رموز من الوعي واللاوعي، فزمن العربي لم يعد بلا تمتمات ولا كلمات بل أصبح مجرد لافتات وأغاني وصراخ لا يفعل التغيير بل يهمش هذا الزمن لفقدانه الكلمات وحتى التمتمات أي أصبح الزمن العربي مجرد صراخ لا طائل منه في احداث التغيير المنشود حيث نلاحظ في المقاطع الآتية في ص 55: (هذا أنا، أقصد الزمن العربي،/ بلا تمتمات ولا كلمات / ولا عولمة/. أقصد اللافتات/ الأغاني/ الصراخ/ المواويل).
اللغة والإيقاع الداخلي للذات
لفقده كل أمل بالتغيير يشعر أنه غريب لأنه وحده يريد أن يحدث التغيير ولكن لا أحد معه فتسبقه الكلمات ويسبقه الدرب، وهذه الوحدة والغربة تجعله يرتد إلى ذاته دون هدف، دون أمل وما يجعله يغرق في الجنون، وهذا يؤشر عمق الرغبة لديه من أجل الإسراع بالتغير نحو الهدف الذي ينشد ولكن لا أمل بهذا التغير فليس أمامه إلا السقوط في هم الذات المفردة بعيدا عن كل الدروب وهذا ما نجده في المقاطع في ص 63 : (منفردا أخطو في هذا العالم وحدي/أمشي تسبقني الكلمات/ يسبقني الدرب/ أغرق في بحر جنوني).
نلاحظ أن اللغة ترتقي عنده إلى مستوي التعبير عن كل خلجاته الذاتية ورموزها المعبرة عن هذا الخلجات فحتى الدعوة إلى أنثاه تأتي إليه من خلال التصاقها بالكلمات، حيث يشعر بأن كل شيء خارج الكلمات هو صمت فيتحول التلاقي من خلال الكلمات وفي المقاطع الآتية في ص 64 (أدعوك الليلة، / هيا التصقي بي/ وبالكلمات).