ادب وفن

الاستهلال السردي واقتناص اللحظة المتداخلة في «فندق كويستيان» / علوان السلمان

السرد الروائي جنس أدبي وظيفته تشكيل لواقع متخيل بأسلوب مشحون بالمجاز والاستعارة والتشبيه عبر لغة حالمة توفر علاقات وظيفية ونفسية وجمالية.. انه عالم مبني على استلهام الوقائع والأحداث التي يقتنصها سارد يمتلك قدرة على استبطانها والخروج بها من دائرة الحدث بإضفاء الخيال عليها وتحقيق الوظيفة الايحائية الجاذبة والمحركة للذاكرة باعتماد تكنيك فني يقوم على الزمان والمكان والشخوص التي تخلق "التنوع الاجتماعي للغات والاصوات الفردية تنوعا منظما.." على حد تعبير باختين..
و"فندق كويستيان"..الذي يقع نهاية شارع المشجر ببغداد، سكانه من اثنيات وطوائف متباينة لكل منها هويته.. المكان الذي احتضن نصا روائيا نسجت عوالمه الرقمية أنامل منتجة خضير فليح الزيدي، يعتمد بنية شكلية حداثية بتواتر الشخصية والحدث والزمان والمكان مع ارتكاز على التكثيف الذي يحدد بنية النص وفاعليته المؤثرة بأسلوب يعتمد الاقتضاب مع التجاوز الى ما هو مجازي ابتداء من الغلاف ولوحته الفوتوغرافية التي تعد مدخلا لعوالم النص الدالة على الخراب والتي احتضنت العلامة السيميائية "العنوان" التي تستقطب كل حيثيات العمل السردي لتشكل بؤرة الارتكاز للمكان الذي اتكأ على ثنائية "الانفتاح والانغلاق" والتي أدت دورا فاعلا في البناء السردي شكلا ودلالة فضلا عن أنها تسهم في تصعيد الحركة المكانية في النص وتأكيد مركز الأحداث التي تنطلق منها الشخصية التي اتخذت من المكان وجودا ورمزا فرش روحه مسترخيا بلونه الأبيض بفونيمية الدالين عليه.. وعلاه اسم المنتج وتحته نوع الجنس الأدبي..
أما غلافه الأخير فقد طرزته جملة استلت من متن النص بطريقة مقصودة كونها بؤرة الرواية ومحورها المركزي.. وتوسدت على جانبها صورة فوتوغرافية للمنتج "المؤلف"..
"حزينة كانت بغداد وكئيبة بل كانت مستكينة لقدرها.. تتلقى طعنات الخناجر وهي بين يدي "ثور ـ مصارع"، متوحش عنيف وجلف من أجلاف صحراء لم ير الماء في حياته.. الماء سلام ومدنية ووئام.. لا تقوى بغداد المدينة شبه الصريعة الا على النظر بعين دامعة وقلب كسير.. تتكلم بعينيها كلاما لا يفقه طاعنها منه أي شيء.. خجلة مما علق بوجهها الكالح من اتربة ودخان ورماد ودم..".
أما عتبة الاهداء فقد شكلت استباقا في تقديم الشخصية أو الحدث المحوري وفتحت فضاءات ايحائية تعبر عن مدلولات نفسية وترمز لتجربة انسانية مقترنة بالمتن السردي.. بعيدة عن التقريرية شكلت مفتاحا يمهد للمستهلك التعامل مع النص الذي اتكأ على نص شعري للشاعر الامريكي "براين ترنر" ويسهم "حيدر الكعبي" في ترجمته..
"ما أن مرت لحظة على الانفجار
حتى راح رجل عجوز يترنح داخل سحابة من الغبار وشظايا الحجر
يداه تضغطان على اذنيه النازفتين/ فكانه يحجب عنهما ضجيج العالم
انها الحادية عشرة الا ثلثا ظهرا
واصوات الجرحى ترتفع من حوله مخشوشنة بالألم
المباني تحترق والمقاهي والقرطاسيات ومكتبة النهضة
عمود هائل من الدخان.. رأس سندان اسود يتدفق صاعدا
وقوده كتاب الاغاني للأصفهاني ومراثي الخنساء
والقصائد المنفية لسعدي يوسف وفاضل العزاوي والكتيبات الدينية والبيانات
وترجمات هوميروس وشكسبير ووالت وتمان ونيرودا..
فالنص يصور لحظة انفجار فيها يحترق العالم بامتداداته التاريخية عبر رمزية الكتب.. التي يتكئ عليها الاستهلال السردي الذي يقتنص اللحظة ويسير منسابا عبر فصوله الرقمية التي تستدعي المستهلك للإسهام في عنونتها ومشاركة المنتج..
"في هذه اللحظة بالذات تجاوز عمري الخمسين سنة عراقية.. وعندما أقول عراقية فقد عنيتها تماما.. تختلف عن كل سنة اخرى على وجه الارض.. سأقص عليكم حكايتي بعكس كل قصص الناس من النهاية حتى البداية وفق تسلسل منطق آلية الزمن المجحفة التي تقضم تفاحة العمر الشهية ثم تترك المتعفن من التفاحة لتلهو به الذاكرة.. زمني دار بي بعكس عقرب الساعة اللعين من اليمين الى اليسار.. لهذا السبب سيكون تسلسل الحكاية من النهاية الى البداية..
تركت شقتي الدافئة في برلين مودعا بـ "ميووووو" من قطتي الأليفة "سيسو" ممسدا على شعرها الأبيض الناعم رغم علمي بما يخلفه غيابي المؤقت من كآبة لها.. ستعاني حتما من فراغ قاتل ووحشة مخيفة سيؤديان بها الى موت بلون الكآبة الرمادي.. تخليت مؤقتا عن حياتي في المانيا وبنيتي التوجه الى بغداد على أمل أن أعود مجددا بعد انقضاء المغامرة السرية..".
فالنص يعتمد بنية حكائية مرتبطة بالحالة السوسيونفسية للأصوات المتحاورة داخل فضاءات النص كونها تعتمد "التنوع الاجتماعي للغات والأصوات الفردية تنوعا منظما.." على حد تعبير باختين لتحقيق اللحظة الادهاشية وتناميها بتنوع الضمائر التي تدخل فضاءات الصراع بأبعادها الاجتماعية والنفسية كي تحقق وجودها الحالم وتعبر عن ذاتها بالصورة والرمز الذي هو "تعبير عن فكرة مزدوجة المعنى..".. فضلا عن انه يوظف عنصري الاستدراج والاستقراء فينطلق من الجزء الى الكل من اجل مباغتة المستهلك واختراق المألوف وتجاوزه.. فضلا عن تأثيثه بتلاحق صوره ومشاهده القابضة على لحظة الانفعال المتغيرة الأمكنة باعتماد الجملة السردية البسيطة في وظائفها الحكائية والمتميزة بخاصية الحركة وسمة التوتر الناتج عن تغلب الجملة الفعلية وانتشارها بين ثنايا السرد وبداياته.. مما يمكن السارد من الانفتاح على تقنيات السرد البصري السيمي الذي انعكس على كيفية حضور المكان داخل السرد الحاضن لمجموعة من الاحداث والانفعالات..
"يحاول كاكه ناصر مثل العراقيين المهاجرين العودة المؤقتة الى البلد لممارسة لعبة الذكريات المفقودة وترميم ما فقد منها مثل جماعته المغتربين كذلك استلام مخطوطة روايته التي تركها معي وهرب من الخدمة. قلت له:نعم موجودة طبعا كذبت عليه لقد نسيتها تماما..
غالبا ما تنشف وتشح ذاكرة المغتربين بعد استهلاك يومي وحلمي لخزينها الوشيك على النفاد.. فيحاولون العودة للتزود بالوقود الوطني..ناصر الكردي بطران.. أي مخطوطة وأي رواية.. جرثومة البلد تصيبهم بخيبات كبرى.. ثم سرعان ما يعودون الى اوطان المنافي مختصرين بذلك اجازاتهم ومكتفين بالصور وأصابع الباميا اليابسة والسمك المجفف التي اخذوها معهم...".
فالنص يتناول اليومي/ الحدثي والظرفي من اجل الامساك بالزمكانية وهو يسير بخطين متداخلين: أولهما الرواية المخطوطة التي تسرد الاحداث قبل الهجرة "لم يبق في قاع الذاكرة سوى طيف رباب.. المراة التي تجذبني نحوها بعد مرور أكثر من عشرين عاما.. بطلة روايتي المخطوطة التي تركتها لدى صديقي علي عبدالهادي بندر..".
ثانيهما الرواية التي تسرد الاحداث بعد العودة من المنفى "عثرت على المخطوطة الضائعة لصديقي ناصر رشيد وتحتها كلمة "رواية".. كان كل اسبوع يلح علي بمكالمة او يرسل رسائل في البريد الالكتروني الايميل أو رسالة الـsms للتذكير بالمخطوطة حتى وجدتها في حقيبة عسكرية داخل الحقيبة الحديدية.. رائحة المخطوطة تعيد لي نسيج الحكاية من جديد بين ثناياها تراب ناعم من تراب الوطن..".
فالرواية يمكن ادراجها ضمن السرد الحداثي الذي يكون فيه البطل هو نفسه السارد والشاهد لخضم الأحداث.. والذي يعتمد التوازن بين حدثين وزمنين لتعميق الاحساس بالوحدة والاغتراب في الزمن الحاضر.. فضلا عن أنها تعتمد تداخل الزمن الحدثي والسردي مع اهتمام بالأساليب الفنية والجمالية مع قدرة على توليد اللغة وتفجيرها باشتغالها على توسيع طاقة الوصف توسيعا يجعل من الفضاء المتخيل فضاء مشبعا بالدلالات والرموز لكي يؤدي وظيفته المجازية الايحائية كونه فضاء موازياً لفضاء الواقع العقلي..
كان كريم حنش في تلك الساعة يردد أغنية "يا خوخ يازردالي" لطالب القره غولي.. وهو يقلب المنجز من المخطوطة التي اوشكت على صفحاتها الاخيرة.. يغني وهو في قلب الجحيم.. ما الذي يجعله يغني لولا عامل الخوف المتجذر؟ وربما هي حالة الياس التي تفيض بها روحه.. لا أدري كور الخيوط ملتبس جدا..
في ذلك الصباح القائض استطاع علي عبدالهادي الدخول الى المنطقة الخضراء بعد تجاوزه لسيطراتها قاصدا الى القنصلية الالمانية مستعلما من موظفيها عن حالة مواطنها المفقود قبل صدور اعلانهم الشحيح..
اعلان:
الممثليات الالمانية في العراق بغداد/ اربيل
الى/ وزارة الخارجية العراقية
انه بتاريخ...... شهر ستة ـ سنة 2007.. اختفى من أحد شوارع بغداد/ الكرخ المواطن الالماني ـ ناصر رشيد فوزي ـ اعترضته جماعة مسلحة مجهولة الملامح.. لذا اقتضت الاشارة لمناشدة الأصدقاء في الجانب العراقي.. نهيب بكم لزيارة دائرة البحث/ الاستقصاء/ التحري الميداني عن المذكور.. تقديرنا..
السفير الالماني بغداد
فالنسق الدرامي يهيمن على البنية السردية مما أسهم في تحقيق البناء الفني المتوازن من حيث تطور الاحداث والكشف عن عوالم الشخصية الداخلية "هواجسها/ أفكارها/ طبيعتها.."، فناصر رشيد بطل الرواية كردي القومية خاض حرب الثمان سنوات مع مجموعة تسمى بلغة العسكر "مركز تسليم شهداء الفيلق الثالث.." في منطقة الدير على طرف البصرة.. ثم يهرب من فرنها وبراد الجثث المجمدة الى المانيا والحرب في عامها الخامس..
"تحقق حلم كاكه ناصر في الهرب والافلات من فرن الحرب وبراد الجثث المجمدة.. هاجر الى المانيا عندما كانت حرب الثمان في عامها الخامس وعلى اوجها.. اخبرني في ليلة عجفاء من ليالي مركز الجثث وبسرية تامة.. بعد ان دثر جسمه ورأسه معي بنفس البطانية قال لي بهمس مخيف: صديقي علاوي انا يروح غدا في اجازة بعد ما يرجع.. سالتحق ببقية أهلي في ألمانيا.. احتفظ لي بمخطوطة مالي في بيت مالك".
وهناك علي عبدالهادي بندر "ابو الجرايد"، كما ينادونه في مركز تسليم الجثث حيث كان مدمنا على قراءة الصحف اليومية وحل الكلمات المتقاطعة.. والذي يعيد للرواية حياتها ويبعثها من مرقدها بعد موت ناصر فتصير بديل الجسد.. اما رباب حسن حلم ناصر وحبيبته غير المعلنة من جانبها بعد ان رافقها من بغداد الى البصرة في سيارة الريم للبحث عن زوجها "حاتم علوان" المفقود.. وكانت سببا في كتابة روايته "حديث الريم".. اذ ظلت ذاكرته تقوده كالأعمى من مكان الى آخر نحو طيفها..".. الذي ارتسمت فيه صورة الوطن..
هذا يعني ان الروائي يعتمد المكان بشقيه "المغلق والمفتوح" كفضاء انساني وثقافي وجمالي مكتنز بأبعاد رمزية ودلالية تكشف عن طبيعة الواقع وهو يحاول التوفيق بين المكان الجغرافي والعضوي الانساني المنسجم والاحداث باعتماد اسلوب الاسترجاع.. اذ عودة الراوي بالشخصية الى الوراء.. والتذكر والارتجاع "فلاش باك".. فضلا عن اعتماده الحوار بشقيه الخارجي "الموضوعي" المتناظر بمشاركة طرفين أو أكثر.. والذي يكشف عن دواخل الذات الانسانية وبيئتها.. "بعد ان دثر جسمه ورأسه معي بنفس البطانية قال لي بهمس مخيف: صديقي علاوي انا يروح غدا في اجازة بعد ما يرجع.. سألتحق ببقية اهلي في المانيا.. احتفظ لي بمخطوطة مالي في بيت مالك..
تحسست بسبابتي عينيه المبللتين بدمعه الدافئ.. تذوقته كان دمعا مالحا.. وددت القول له لكن صوتي تكسر في حنجرتي.. خرج من فمي متقطعا وحارقا مع زفير حار: اتتركني مع وحشة هذه الجثث كاكه ناصر؟.
وهناك الحوار الداخلي "الذاتي" الذي يقترب منه المنولوج الذي هو حوار الذات ونفسها وتيار الوعي..
"اليوم أكيد سألتقي مع رباب.. ترى كيف سيكون شكلها؟، هل أنا مجنون فعليا كما كان يصفني الأصدقاء في مقهى عرب سنتر ببرلين وكما يلمح لي علي ابو الجرايد؟، ربما نعم وربما أنا العاقل الواقعي الوحيد هنا..".
فالروائي يثري نصه بتعدد الضمائر وتنويعها بتنقله من ضمير المتكلم الى ضمير الغائب فالمخاطب عبر جدلية الالتفات وقوة الانتقال وتغيير المنظورات.. لذا فالمشهد عنده يتشكل من خلال تداعي الزمن في الذاكرة التي تستدعي الماضي وتستحضر قيمه ورؤاه حتى انه يصبح مرتكز النص الذي يبدأ من مستوى الوعي ويغوص في اللاوعي ليكشف عن الوهم الذي يتحرك مع الواقع التاريخي فيسجل تفاصيل الحياة ويتعامل مع العادي لينسج همه الذي لا يتجرد من دفئه ولحظته المشبعة برائحة الحياة من اجل الكشف عن الانموذج الانساني المنبثق من واقع التشظي كوحدة متكاملة في العمل الفني...
وبذلك قدم الروائي نصا يتجاوز المألوف ويركز على الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر في الواقع داخل بنية السرد...