ادب وفن

المسرح ظاهرة حضارية / قاسم حول

يؤرخ العالم الثقافي تاريخ أول مسرحية في التاريخ الإنساني بعام 490 قبل الميلاد وهي مسرحية «المتذراعات» أو «الذارعات» كما يترجمها البعض وهي للكاتب أسخيلوس الأغريقي. وكانت المسرحية تقدم مرة كل عام.
وكانت إنعكاسا لحادثة إجبار خمسين فتاة على الزواج من أولاد العم ورفضهن للقرار القسري فكانت المسرحية تنتصر لحرية المرأة وحكم الشعب في الإنتصار لحريتهن. فالمسرح منذ نشأته هو ظاهرة حضارية وهو أنعكاس للواقع واتخذ شكلا أكثر حداثة لكونه إنعكاسا غير فوتوغرافي لذلك الواقع. وهذا المسرح دخل حياة العالم ووصل وأن بشكل متأخر إلى المنطقة العربية ووصل إلى العراق، وأستهوى لأهميته رموزا ثقافية بدأت تنشئ الفرق المسرحية بعد أن كان عبارة عن مشاهد مسلية في الكابريهات، ومع تأسيس الدولة العراقية المعاصرة ومع الصراع السياسي العالمي والأقليمي والمحلي العراقي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية فإن ظهور المسرح النقدي والإنتقداني بشكله المتواضع الأول حظي برعاية الحركة اليسارية العراقية، ولعل رعاية التيار الشيوعي في العراق لفناني المسرح بإعتباره أداة لكشف الواقع والتناقضات الإجتماعية ومعاناة الفئات الإجتماعية الفقيرة وتحليل واقع الإقطاع عبر مسرحيات ذات طابع كشفي ونقدي تفاعل جدلا بين السياسي والمثقف والمثقف المسرحي. ولذلك عندما ساد الفكر العنصري والشوفيني على السلطة في الثامن من شباط عام 1963 (وأن لفترة شهور بلغت التسعة) كان قرار إغلاق الفرق المسرحية وإعتقال رموز الثقافة ومنها المسرح من القرارات السياسية الفوقية.
معاناة المسرح والمسرحيين ليست منفصلة عن محنة ومعاناة الشعب العراقي خلال حقب الفكر الدكتاتوري والشوفيني وحتى ما بعد سقوطه عام 2003.
قد يظن البعض وهم يروجون بأن المسرح أنتعش في فترة الدكتاتورية، ولكن نظرة علمية وواقعية وموضوعية لطبيعة المسرح أبان الحقبة الدكتاتورية فإنها كانت تصب في خدمة الفكرة الشوفيني وثمة قرارات أتخذتها السلطة في تهديد المسرحيين وألغاء مسرحيات حين لم تكن المسرحية قد مرت كتابة وإخراجا عبر أروقة الحزب الحاكم. والأمثلة كثيرة ولعل ألغاء ومنع حتى تداول مسرحية «الخرتيت» ليوجين يونيسكو مثال لكثير من الأمثلة لأن فكرة الخرتتة والمقصود بها الفكر النازي يمس فكر العنصرية والشوفينية وهي صيغة الحزب الحاكم. ولعل هجرة العديد من المسرحيين خارج وطنهم هو رفض للخنوع أمام سلطة الدكتاتورية التي أنعشت مسرحا فاشيا قدمت له وللعاملين فيه الكثير من الإغراءات لتكريس المسرح لصالح الفكر الإيديولوجي المتخلف.
اليوم يعيش المسرح أزمة جديدة مختلفة، أزمة إختناق ولعلها من أصعب الأزمات التي عاناها المثقف العراقي والمسرحي العراقي في تاريخه. فظروف الخروج من أزمة المسرح لعلها تفوق حتى ظروف الخروج من أزمة السينما لأن المسرح هو حركة حية يومية خلال العرض قوامها أدواتها التعبيرية ومنها الممثل بعكس السينما التي تتحول فيها مفردة التعبير إلى صورة على شريط يمكن نقله وتعميمه إلى أنحاء العالم.
اليوم يعاني المثقفون العراقيون ظروفاً مدمرة للحس الثقافي ومبدعي المسرح، فإضافة إلى الظرف الأمني المتدهور وإضافة إلى الظرف الإقتصادي المتدهور، هناك إيديولوجيات متأخرة عن واقع العصر ومتأخرة عن التطور الإجتماعي تفرض شروطها على الواقع بقوة الهيمنة المطلقة حينا وتشكيل رموز لهذه القوة المطلقة. رموز بشرية مخيفة قد تصبح في وقت ليس بعيداً سياجاً من أسيجة العراقي. أتساءل اليوم وأنا أعيش خارج وطني وقد ذهبت عاما كاملا قضيته في العراق وعملت فيلما سينمائيا عن واقع الثقافة في العراق، فيلما روائيا عن غربة المثقف وهو فيلم «بغداد خارج بغداد» الذي يصب في فكرة الغربة كل أشكال الغربة الوجودية والوجدانية والجغرافية، أتساءل وأنا عانيت كثيرا إنقطاع الكهرباء في المشاهد الداخلية للفيلم، كيف للمسرحيين أن يقدموا مسرحياتهم بدون بروجكترات الإضاءة، فمولدة الكهرباء تزعج الصوت ولا أدري أية مولدات كهرباء يمكن أن توفر الإضاءة للمسرح ونحن في القرن الواحد والعشرين . . وإذا توفرت الإضاءة بهذا الشكل أو ذاك فهل يملك الناس حرية المشاهدة والذهاب ليلا لمشاهدة المسرحية التي هي أيضا موضع رقابة أشد من رقابة فكر الأحزاب الشوفينية السابقة.
المسرحي اليوم بين نيران مفخخات السلاح ومفخخات الفكر المتأخر الذي يشيد أسيجة العتمة وسقوف الظلام على حلم الثقافة ومنها ثقافة المسرح. ولو فرضنا أن إضاءة المسرح قد تم حل أشكالها فهل ستحل أشكالية أضاءة الفكر السلطوي.
المسرح العراقي يعيش اليوم أزمة ثقافية صعبة حقا ومؤلمة حقا وأنا لا أملك سوى أن أرمي وردة حمراء من ورود هولندا أمام ستارة المسرح العراقي تعبيرا عن الحب لكل من يملك الشجاعة في أن يصعد على خشبة المسرح وكل من يذهب لمشاهدة المسرحية! أبعثها لمسرحيي العراق في يوم المسرح العالمي.