ادب وفن

في ذكرى الشاعر هادي الربيعي .. رحلة في فضاء الروح / جاسم عاصي

تبدو عملية إنتاج قصيدة، صعبة المخاض والولادة إذا ما نُظر إليها كوحدة متماسكة. فحين تتحدد وظيفة اللغة على ما هو ظاهر فأن هذا الاشتغال يسحب معه كثيرا ً من العلل في البناء وصياغة المعنى.
لأنه في ألأساس يعتمد الاستسهال دون النظر إلى وظائف آليات الكتابة في هذا الجنس الأدبي أو ذاك. لكن ما يمكن طرحه في هذا المجال على ضوء القصيدة التي نحن بصدد قراءتها؛ هما مرتكزان لا يلغيان الخصائص الأخرى أولهما: أسس الجنس الشعري ومقوماته. وثانيهما: وحدة الصياغة لمعنى واحد. فالأول يتعلق باستيعاب آليات الكتابة الشعرية التي تقود إلى حرفة النظم في البدء، وضرورة الصياغة العروضية ومبرراتها الوظيفية عند الشاعر. بمعنى علاقة هذه الصياغة أو الاستخدام مرتبطة بالنظام المتشكل من ضرورات تبديل الأداة . ليس في كونه عملا ً مسايرا ً للموجة يسهل تنفيذه بدلالة ما سلكه شعراء مثل "نازك والسياب والبياتي وحاوي" في تغيير الأداة على الرغم من تباعد الأمكنة واختلاف الأزمنة. أي أن هذا يتعلق بالضرورة الدافعة للإنتاج والصياغة الجديدة. والذي نريده من قصدنا هنا هو أن الشاعر يرتكز على تراكم معرفي بالأدوات الموصولة لخطوات راسخة وناضجة في الصياغات الجديدة. فالشاعر حين يتجاوز خطوات الآخرين عليه أن يتجاوز خطواته أولا ً. أي أنه يدرك ما مضى وما يجري الآن وما سوف يأتي. أما الثاني فهو يتعلق أساسا ً بالشرط الأول أعلاه ،وهو انتظام وتناسق المنظومة الفكرية بما فيها الرؤية واتساعها والتي تحدد جذر النص فيما يخص المعنى. وهي تقود بالتالي إلى وحدة المعنى من وحدة النص بعيدا ً عن التشظي. وهذا يتعلق مباشرة بالمنظومة التي شهدت استقرارا ً في بدء التعامل مع المنجز وكيف مادة لتحقيق يكون صيرورة شعرية توحد المعنى في القصيدة. ناهيك عن مستلزمات كثيرة في هذا المجال لا يسعها موضوعنا هذا. لعل أهمها اللغة ووظيفتها في النص الشعري، والعلائق التي تخلفها الأنساق الجديدة هذه.
إن المتعلق في قصيدة "خطيئة الملاك بطرس" للشاعر "هادي الربيعي" وهو شاعر معروف تدرج في كتابة الشعر وفق آليات وأنماط مختلفة في الكتابة الشعرية. ثم أنه عبـر منظور شعري متوال اشتغل على ترسيخ مبنى القصيدة وفق عروض الخليلي. وقد حفلت دواوينه بمثل هذا الالتزام. وكان آخرها ديوانه "عربات الآلهة" حيث لاحظنا ثمة تحولاً في المعنى والشكل. إذ تكثفت حالات معالجة الأسئلة الأزلية ذات النمط الفلسفي في صياغات ذات رؤية صوفية كالتأمل في الوجود والموت والولادة والخلود والانبعاث.. الخ. وهذه القصيدة تشتغل على وفق هذه المحاور. فالخطيئة هنا أرضية، وهي قيمة تسيطر على جوهر القصيدة وتشكـّل وحدة موضوعها الأساسي. ولكنها لا تعني خطيئة التفاحة والشجرة، بقدر ما تعني خطيئة الارتقاء وليس الغواية. إذ حقق الشاعر من خلالها غايتين لقصيدة النثر؛ الأولى: كونها تستطيع أن توحد نفسها وفق سياق بنائي واحد منطقي وشعري، والثانية: تركيز للمعنى من خلال القصيدة. فالعنوان إشارة إلى رحلة من أجل تحقيق الخلود السماوي. من هذا نجد العنونة تشتغل على وفق ثلاثة محاور هي:" الخطيئة؛ وهي صفة الفعل الأرضي. والملاك؛ وهو صفة خارج مجال الأنسنة سماوي، ثم بطرس؛ وهو اسم علم يخص الروحانية".
وقد تداخلت وفق منظومة ملفوظة لتعطي فعل التحول خارج منطق التشكـّل لبطرس الإنسان ثم ارتكاب المعصية من أجل الارتقاء. وبهذا تكون العنونة إشارة ـ جملة كلامية ـ تتشكّل من خلال مفردات متباعدة المعنى ،لكنها تلتقي في نسق لغوي لتمنح معنى محددا ً. وهي عملية الارتقاء والمغادرة ،ثم الهبوط ثانية. وثمة جانب يتعلق مع تشكيلة النص، في كونه تعامل مع موروث استطاع الشاعر عبره أن يغادر المرتكز ـ المتن ـ ليخلـّق ثيمة مغايرة لسياق المعنى في المتن. وبتقديري إنما هذا هو فعل شعري يتعامل مع النص الأول ـ المتن المثيولوجي ـ على أساس التأسيس الجديد ـ المخلّـق ـ قريبا ً من الأصل أو المصدر بالمرتكزات، بعيدا ً عنه في المنتج. فالقصيدة تستهل مشهدها بالسؤال. وهو توال لغوي الغرض منه بلورة الشك وتحديد ضمني يشير إلى الوقوع في الخطيئة من بعد استعراض مراتب وسمات "بطرس" الروحية خاصة والمثيولوجية عامة:
"من ذا الذي أوحى له أن يتمرد..؟
هو النقي من كل شائبة
الصاعد مع ملائكة الفجر
الهابط مع ملائكة الغروب"..
وبعد استعراض الصفات يـُكمل السؤال الذي ابتدأته الجملة الشعرية الأولى لتشكّل دورة السؤال العام:
"أية هواجس قرعت أجراسها
في أعماقه..؟
هل تسلل الشيطان إلى روحه ..؟
فراح يصعد .. ويصعد .. يصعد , بأجنحته الأربعة"..
غير أن ـ ملفوظ ـ الشيطان في البيت يرسّخ الخطيئة. لكن ذات الشاعر المنفصلة عن كينونة النموذج "بطرس" تـُمهد مرة أخرى لكي لا تـُنهي دورة الحركة لديه، بقدر ما تمنح المشهد الشعري حرية التعبير ليوسع من فضاء الرؤية الشعرية في متوالية ـ ربما ـ وهي مفردة تحقق الاحتمالية وليس اليقينية:
"ربما ليسمع ترانيم السماء الثانية
ربما ليسمع ترانيم العرش
ربما فاض به الغرور"..
وهنا تتجسّد صياغة لمشاهد تتعلق بالمتن. أي أنها فعل لمسوغات الفعل الذي أقدم عليه "بطرس" لذاته في محاولة لتغيير جنسه. وهي مقاربة لمحاولة "جلجامش" في استكمال الثلثين الإلهيين من أجل الخلود الأبدي كـ "أتونبشتم". حيث تؤكد الذات الشاعرة المشاركة والمراقبة سرديا ً من خلال عبارة شعرية:" لا أحد يدري/ وبطرس لا يتكلم". بمعنى التغيير والتبدل والارتقاء على الرغم من الأسئلة التي أحالت السياق الشعري إلى حالة اتصال مباشر مع ذات "بطرس" الصامتة عن الإجابة, والفاعلة فقط:
"لكنه صعد رغم صرخات الملائكة
وهي تحذره من العواقب
وظل يواصل الصعود
حتى غابت السماء الأولى
وقيل إليه أنه يسمع الترانيم
تنبعث من مكان ما في الأقاصي البعيدة
لمملكة الوجود
فأشرق فيه فرح غامر".
وهنا كشف دقيق لوحدات الحركة التي دخلها "بطرس" أثناء الارتقاء وفق سياق المخيلة، وليس واقعيتها . فهي ربما مجرد هوام وتصور. لكنها حالة مسيطرة على مشاعره. غير أنه انتبه فجأة بعد الخطيئة ليتلمس الانزلاق في ما هو تجاوز على كينونته وصيرورته:
"ولكنه سرعان ما تبدد
فتدارك بطرس أنه فقد كل قواه
وأن أجنحته قد توقفت
فانتابه الرعب".
وما قيل إليه صعودا ً هو انزلاق وهبوط:
"وبدأ بطرس يهوي
يهوي
ويهوي
عبر صحارى لا نهائية من الصمت الأسود
حتى سقط على الأرض محطم الأجنحة
تمر به ملائكة الفجر
لتسكب عليه نظرات الرثاء
تمر به ملائكة الغروب , لتهمس
لـِمَ يا بطرس ..؟
وبطرس لا يتكلم"..
وهذه صحوة بعد كبوة لا يمكن تجاوزها بسبب الانغمار في الخطيئة . فليس ثمة ما ينتظره سوى الأرض حياة ومأوى .ويبقى السؤال حيا ً أمام بطرس نفسه ،وأمام من يطرحه عليه:
"عيناه معلقتان في الأعالي
بانتظار إشراقة الغفران
ولكن روحه ظلت تصعد
تصعد
وتصعد
ولا أحد يدري
أية هواجس قرعت أجراسها في أعماقه .."؟
وهنا تستكمل القصيدة دورتها ،وهي دورة السؤال بعد محاولة التحول والوقوع في الخطيئة. حيث كان استشرافا ً لتحول "بطرس" إلى جسد مستقر تعلوه روح نافرة عنه. فهو معلـّق في السماء بواسطة الروح كهيولي وبالأرض من خلال الجسد كمادة. لقد حاول الشاعر عبر قصيدته هذه أن يستكمل دورة بنائية تتناول المعنى بوحدة موضوع. ونعني فيها رحلة بطرس وعروجه نحو السماء. وفي حالات تماسك روحه وجسده كوحدة كائن، ثم حالة صعود وانكفاء الكائن المادة إلى الأسفل بسبب الخطيئة. وهو صعود له علاقة فيوزيولوجية بالرموز كالزقورات والمآذن والمعابد السومرية والبابلية وقمم الجبال. وهو متحقق شعري تجاوز متنه ،متمرئيا ً بالخطيئة الأولى، مازجا ً إياها بخطيئة بطرس. مما أنتج نصا ً مستقلا ً بذاته في المعنى.