ادب وفن

ثنائية الضوء واللون في معلقتي امرئ القيس وطرفة بن العبد / جبار سهم السوداني

مذ قدوا في في افي جنائن جنونهم، ألفوا أنفسهم مخبّلين بعشق الجمال، وسحرية الطبيعة وما فيها من: ألوان وأضواء، وأصوات، عشقوها أسطوريا، انهمرت في أحفورتهم الشعرية، فتصعلكوا جذلين، وتوسلوا قعقعة السلاح وانهمار فروسيتهم وقصص عشقهم، وكرمهم وشعرهم..
أولا: في معلقة امرئ القيس.. في "بيت 3" من معلقته، نقرأ له هذه اللوحة اللونية/ الضوئية "تري بحر الآرام... كأنه حبّ فلفل"- مع ملاحظة أن تلك اللوحات هي من وحي زمكانيتهم... ففي رسوماته الشعرية تتبدى لنا صورة لونية، حين يضرّج لنا افتراضا أو حقيقة بحر الآرام، ثم يسلط عدسة كامرته، ليعقد مقارنة تشبيهية ثنائية، بمضارعته "بحر الآرام الظباء ذات الخطوط من حيث الحجم "الضوء" واللون بـ "حب الفلفل".. وفي البيت 28 يأتي على تشكيلة لونية عطرية فحسب "تضوّع المسك، نسيم الصبَّار، ريّا "رائحة القرنفل".. ونحن نظن ان القرنفل هو من بنات حدائقنا اللونية العطرية!، اذا به في "البيت 12" يجتلب لوحة تخطيطية لونية أخاذة، يمكننا تحسس ألوانها بسحر الشعر "لحم وشحم كمهداب الدمقس" والدمقس: هو الحرير، واللحم والشحم والحرير دوالٍ على ألوان ضوئية معلومة لدينا.. ثم يأتي في "البيت 23" على "لون ضوئي"، و"بيضة خدر" تشبيهاً حسياً لبياضها بالبيضة الخبيئة المصونة... وفي "البيت 25" نشاهد/ نقرأ "الثريا في السماء... الوشاح المفصل" أفترض أن ثمة ألواناً وأضواء في ذي اللوحة الشعرية "القيسية" تبدأ من مجموعة كواكب لألاءة، تضيء السماء، ثم الوشاح: وهو قماش يطرز بخرز من كل لون... وفي "البيت 31" يقول: "مهفهة بيضاء" فهي بيضاء اللون، رشيقة القوام، ذات صدر صقيل كالسجنجل!.. وفي "البيت 33" نقرأ له: "وفرع.. أسود فاحم.. كقنو النخلة المتعثكل". نتخيل هذه اللوحة الشعرية الباذخة الألوان: شعراً فاحماً، أسود، يتدلى متهدلاً على جانبيها وثمة لوحة ضوئية بألوان باسلة يسطرها لنا، في "البيت 37 ويضحى فتيت المسك.. ثم نؤوم الضحى"، وهو ارتفاع قرص الشمس، إنما الذي ينهض هو فتيت المسك، الذي يؤرجح ويتوهج منها، فهذا هو تصوير الترف الباذخ!.
لننتقل الى "البيت 39" فكله أوهاج تضيء الظلام، بالعشاء، كأنها منارة ممسى راهب، حتى نلفاه يكمل هذه اللوحة الرسمية في "البيت 41" كبكر المقاناة البياض، والبكر: أول بيض النعامة، والمعاناة هي المخلوطة البياض بصفرة مستملحة... حتى يهبط بنا في فلك سماء عناءاته في "البيت 44": وليل كموج البحر، مرخ سدوله "ستائره" ألوان فاقعة أو فاتنة في ليله! أنتقل عامداً الى بيته القزحي "63" فمركب من ثلاثة مشاهد لونية ضوئية، مائزة، فيقول "دماء الهاديات، عصارة حناء، بشيب مرجّل" فهذه الفرس المسراع تلحق بقطيع الطرائد لتجعل دماءها خضاباً تتضرج به... حتى تختصر علينا قراءة ألوانه في "البيت 78" حيث يرينا الواناً أخرى من مبهراته الحسيّة التي عشقها بشار باسل "بجاد مزمّل" اذ هو كساء مخطط الألوان، مبهر الأضواء من أكسية وأردية جلابيبهم الأعرابية!
ثانيا- في معلقة طرفة بن العبد "الذي انغرم به الشاعر الجواهري كثيرا": فيطالعنا "الغلام القتيل طرفة" منذ الغسق البكر في معلقته "ألبيت 1" وتحديداً في مصراعه الثاني "تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد"، فنلفاها لوحة شعرية ضوئية لونية غاية في الكمال اللغوي.. فمعناها واضح الدلالة في "أطلال خولة" الغائرة في مسامات رحل جسده.. وهل يختفي "الوشم في ظاهر اليد" مع عوادي الزمن؟، أما في "البيت 5" فنقرأ له مصغين "يشق حباب الماء"، فهذا الانبهار بإكسير الحياة حسد التأليه، يتخذ منه الشاعر صورة تشبيهية مما يسمى بـ "التشبيه التمثيلي" أي تمثيل صورة حسية بحسية مثلها، تتجذر بشكل بائن في "وفي الحي أحوى": أي ظبي له خطتان من سواد.. ثم "مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد"، فيا لهذا الظبي من إبهار ضوئي، مشع الألوان، حتى لتبرزها اسنانه اللؤلؤية المنتظمة في ثنايا ثغرها حتى لتبرز أضواء وألواناً لدى هذه الظبية الانثوية في "بيت 8" اذ يقول:"وتبسم عن اللمى"، واللمى سمرة اللثة لأنها تبرز بياض الأسنان... ثم يجتلب للمتلقي المذواق "المنوّر" وهو ورد الاقحوان الذي يظهر نوره... فهذا الانبهار الجاهلي الحسي باللون والضوء، وبالصورة والصوت، يعكس العشق البدوي للطبيعة وانسحاره بها، على الرغم من شحتها وجدبها الانتهازي على حياته فيلوذ بخياله التعويضي.. اقرأ له في "البيت 9": "سحقته إياة الشمس ضوء الشمس" التي صيرّها آلهة له... هاك اسمعه في "البيت 10" يقول: ووجه كأن الشمس حلت رداءها عليه!! أو ليست هذه لوحة لونية يترسمها خيال شاعر رسام عبقري اللون، وإلا فهل تجد أجمل جاهلياً من أن تعير الشمس وهجها وشعاعها على وجه من يحب؟ سواء أكان وجه "خولته" أم "فرسه" أم "ناقته". أما في "البيت 212" فيذكر لنا البرجد: وهو كساء مخطط بالألوان البهيجة... لكنه كذلك يصنع لنا لوناً غبارياً من الطريق الذي يسير عليه، ممتطياً صهوة فرسه المغناج. في "البيت 13" حين يقول "مور معبد"، والمور هو التراب والغبار لون - ومعبّد بالقار - لون -، هذا الخيال الممتد عبر واحات أحلامهم، تترسمه قرائح خصبة، اذ يجتلب الشاعر في "البيت 14": "حدائق موليّة الأسرّة " ذات أشجار وثمار وأزهار لونية وضوئية مبهرة وفي البيت 22: يقول لنا: تشاد بقرمد، وهو حجر روماني ذو الوان مائزة له... ثم يأتي لنا بلون آخر في البيت 23 "صهابية العثنون" والصهبة ما يضربه لونها الأبيض بالحمرة.. أكتفي بهذه الأضواء والألوان.