ادب وفن

قصاصة نقدية عن قصص هيثم بهنام بردى / ياسين النصير

ما يدفعني لقراءة هذه القصص وقصص أخرى لكتاب عراقيين مختلفين هو البحث عن الأفق الجديد للقص، لطرائق السرد، هذا الأفق الذي يمنحنا أن نرى ما يجري عبر عين أخرى، غير عين الشخصيات أوعين المؤلف، أعني بها عين الإنساق التواصلية التي تجعل من الشخصية ومن الأحداث مجرد قوى تلتقي لتصنع مشهدا، هذه العين هي عين السارد الذي يتموقع في منطقة ما تمكنه من أن يرى ويتصور ويحاور ويناقش ومن ثم يقود، ولن يكون للسارد أن يختار موقعا ما ليتموقع فيه اعتباطا، إنما يأتي اختيار الموقع بناء على تخطيط هندسي لزوايا واتجاهات ومسافات ومجالات السرد الذي يحتوي بكلماته ما يجري. من هنا أعني بالبحث، ما
يمكن أن يشكّل تاريخًا للسارد، قبل الشخصيات والأحداث، ومن خلال جزئيات القصص نعثر على الكليّات وهي تفتت، الشخصيات تتفتت أيضا، لذلك ليس من قناعة تامة بأية طريقة للسرد إلا تلك التي تبدأ بالجزئيات لتنتهي بالكليات، وهي الطريقة التي عليها فكر القرن العشرين وما يلحقة من سنوات البداية لهذا القرن، اي أننا سنجد أنفسنا دائمًا في الجزئيات وليس في الكليات، بما فيها كليات الحدث وكليات الشخصية، إذا ما الطريق إلى هذا الفهم غير أن نقلب القصة على أوجهها المختفية وراء لغتها التي لم تترك تلك الطريقة التقليدية للسرد، في حين ان ما وراء السرد ثمة طبقة من سرد آخر والتي بدورها تكشف عن طبقة ثالثة لسرد مختف، وهكذا فأية كتابة هي محو وأخفاء لكتابة سابقة وتمهيد لكتابة لاحقة، ولذلك لا تنتهي القصة بنهاية كلماتها كما لا تبدأ ببداية كلماتها، نهايتها وبدايتها مرهونة بعدد المستويات المختفية وراء مايُقرأ. هو ما لم يفصح عنه الكاتب لأن الموقف الاديولوجي لمسار القصة يحكم مغالق النفوذ إلى ما وراء السرد. هنا يمكن القول أن استبطان اي حدث او شخصية لا يمكن ان يعالج بسياق سردي واحد، لابد من الكتابة بيدين كما يقول فوكو، كي يكشف المؤلف أنه لا يحتل إلا منطقة المابين، وهذه المنطقة التي تذوب وتختلط فيها الألوان، وحدها التي تجسد لنا الرغبة السياكولوجية للمؤلف من أن يصور أحداثًا في ألوان اجتماعية ولهجات اجتماعية مختلفة، ولا تقف عند اسم أو حدث، بل تتجاوز إلى ما ليس له اسم أو حدث.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الشخصيات والأحداث هي كل ما تعنية الشخصيات والأحداث في القصة؟ أم ان هذه الشخصيات وهذه الأحداث في القصة ليست إلا جزءا من سلسلة طويلة مرت بها أنماط الشخصيات والأحداث، لتنتهي عند المؤلف بهذا النمط ليظهرها لنا وكأنها نهاية أو بداية للأحداث باللغة التي تتكلم أو يتكلم عنها؟. لاشك أن مايفعله أي مؤلف معاصر هو اقتناص لحظة فضائية من مسار الأحداث والشخصيات، ليضعها على الورق مجسدا لها بتعابير وبمواقف، أما هي فلا تكون هذه نهايتها، ستستمر في الظهور والاختفاء كلما سنحت لها فرصة ان تظهر بأثواب ومسميات جديدة، وإلا لا معنى للكتابة إذا لم تكن أحداث القصة وشخصياتها قد وجدت في السياق الاجتماعي والإنساني والنفسي من قبل، وقابلة لأن توجد في سياق أجتماعي وإنساني آخر،إذاً لا شيء يكتبه القاص من جديد إلا بكونه قد اكتشف في ألاحداث والشخصيات الماضية شيئا جديدًا لم يسردْ من قبل.
من البداية تضعنا قصة بهنام بردى "إقتناص" في فضاءين متجاورين: فضاء زمني" هو فصل الخريف، اللحظة النادرة التي تتضافر فيها كل الأشياء في تكوين الأفول الطبيعي للإحضرار، الذي يأتي على المكان والإنسان، أو الأفول الذي يسكن الأشجار والعربات والبنايات القديمة ومحطة السكك، والفضاء الثاني هو فضاء الرجل ومؤثثاته؛ من معطف وكتاب ووجه كاب وزاوية منحسرة يرافق الفضاءين فضاء اللغة التي اعتمدت الافول ميدانا للسرد. الشيء البؤري للسرد هوالذي يبدأ الآن بانحساركل الاشياء وقذفها إلى هاوية كما لو تمت بفعل مجهول، وما الكتاب المفتوح ليس إلا إشارة لحياة مجهولة تكمن بين سطور الكتاب ربما لا تنقذ الرجل الناحل الملاصق للمطر والريح والجو الكئيب، هذه الصورة الانطباعية التي رسمها هيثم بهنام بردى له، ففيها من شعرية الأمكنة الآفلة الكثير الذي يتصل بقدرة القاص على السردية الشعرية،التي غطت تفاعله، وليس على ما توصل إليه الفضاء الآفل من الطبع أن الأفول لايشمل الطبيعية بل الإنسان ايضا. كل شيء يعيش محبطا على لسان المؤلف، كل شيء يوصف من الخارج، بينما اشياء المكان وأشياء الرجل خريفية وتتآكل من الداخل.
عينا القاص لسانه وعدته القصصية، لذا يترك كل طرق السرد النفسية والحوارية جانبا، ويعتمد على المرآة التي يضعها أمام كائنه الخريفي، وبما أن السرد يتم من الخارج إلى الداخل، شعر القاص أنه يتعامل مع كتلة وليس مع احاسيس، القاص الشاعر لايستطيع احيانا تغليب طريقة فنية على أخرى، لأنه محكوم بسياق الرؤية الأفقية، فتبقى صوره معلقة في الفضاء المتأرجح بين أناه وأنا الشخصية، فكانت اقدامها متأرجحة على الأرض. وما وضعه للشخصية في هذا المناخ الخريقي الحزين الآفل، إلا تكملة لفضاء المشهد كله، وكانه محكوم بالانسجام،والقص يعتمد المفارقة، ولو حذف الشخصية لما وجدنا تغييرا لكنه وكأي قاص تأخذه الشعرية لأعراس الاشياء، نجده يستحم في كلمات الافول فتتضافر مع وضعه النفسي لتصنع مشهدا غاية في الجمال لولا أن مشهده ارتبط بشخصية واقعية معرفها.ولو استغني كليا عن وجود الشخص بمعطفه وكآبته، لشعرنا ان القصة كونية وانها من تلك الإشارات البليغة لحال تشمل كل المبدعين. وكنت أمني النفس لو لم يضع القاص مثل هذا الشخص الذي بدا لي أنه اكثر من ما قيل عنه، وترك لنا أشياء الحياة تحكي قصته لكانت وحدها المأوى الكوني والنفسي الذي يلجأ إليه كل الاشخاص المتشابهين.
طريقة بناء هذه القصة الشاعرية واحدة من الطريق التي تنهض بها فضاءات الأمكنة المنعزلة والموضوعة تحت تأثير نفسي، لتسرد نصيتها، بدلا من ان يسرد القاص أو الراوي عنها، هنا لاقيمة لأي ضمير للمؤلف أو للشخصية، القيمة الجمالية والفنية لضمير الأشياء التي وجدت نفسها في لحظة مشتركة تؤلف الأفول والزوال. فالأشياء إذا ما احتكمت إلى فضائها التعبيري ألفت نصها دون أن تكتب عنها كلمة واحدة، ربما الموسيقي والفنان التشكيلي ومخرج الدراما والسينما يشعرون بمثل هذه اللغة الفضائية،بينما لايجد الأديب منا إلا الكلمات كي يعبر عنها.
في قصة" التدرع" يعود القاص للأشياء نفسها أيضا، ولكن بطريقة أكثر ذاتية، السرد هذه المرة من الداخل إلى الخارج، فيستنطقه هذا المكون المقتطع من الواقع كي يمارس القاص عليه فعل القص، ولكن هذه المرة حيث يبدأ" بكلمة استهلالية مبهمة هي "التدرع" الحماية، المنعة الذاتية، اتقاء العالم الخارجي، العزلة المكتملة، الأنا، هذا يعني أن القاص قد اقتطع جزءا من الواقع، كما لو كان كتلة، شخصية، حدثا، وأتى به إلى بيت القص ليعالجه، وبعد أن ينتهي منه سيعيده للواقع ولكن بطريقة أكثر حضورا وقوة واندماجا، توشك الأحداث، الشخصيات، الأفكار لمثل هذه الطريقة التأليفية على الإنهيار أي أنها في مرحلة - نصف موت- ، وليس موتا كاملا، فيأتي بها القاص للنص القصصي لمعالجتها بطريقة فنية كما لو كان رساما يرمم جدارا منهارا، ليعيد استقامته أو تجديده، فيكون عمله ترميما وصيانة للشخصيات من أن تنهار كليا، القص يبدا من لحظة انهيار الشخصيات ووصول الاحداث إلى مرحلة التغيير، القص هو اعادة ترميم كي تعود الاحداث والشخصيات إلى بـ -نصف حياة، اي انها تصبح قادرة على ممارسة وجوده ثانية، ثم يعود القاص به للواقع إلى تيار الزمن كي تواصل حياتها الكاملة. كل السرد القصصي يبدأ من المابين"نصف- موت وصولا إلى نصف- حياة" لهذا كان من اللازم أن يأتي بشخصية مريضة أو منشغلة أو قد وصلت إلى نقطة خطرة، ويضعها في بؤرة القص ليدّورالأشياء حولها، ومرة ثانية نجد الأفول مهيمنا، ليس على الاشياء والشخصيات، إنما على أفكار المؤلف نفسه، فهو لا يأتي القصة"التدرع" إلاّ في لحظة أن يكون حدثها - نصف موت- نصف حياة- وهي ثيمة الحكاية الشعبية، أو كل تأليف قصصي يبدأ في المنطقة الوسطى، في "المابينية" والتي وحدها تستنهض قوى السرد لما تمتلك من لغة غير حاسمة تذهب بالسرد باتجاه الحياة مرة وباتجاه الموت مرة أخرى. القاص المجيد يبدأ من هذه اللحظة الوسطية، التي يكون حدثه موشكًا على الأفول، كي يستنهض في القصة قواها الصيانية لتنتهي القصة بالعودة إلى المجرى الطبيعي، وعندئذ ستواصل قوى السرد الصيانية بناء حدث جديد وصيرورة جديدة للحياة ، تمهد لحدث آخر في بيئة اخرى بانتظار قاص آخر.
القصة الثالثة" عشق" لا شيء فيها غير رؤية القاص لحلم طائر، وهو يتأمل حلم يقظّة الفارس والفتاة والتراب والقدّ وحركة لغوية خالية تمامًا من الثيمة الثورية للرومانسية، بل الحال واقعة تحت ثورة جنسية مجهضة وعاجزة عن ممارسة وجودها إلاً في أحلام اللغة والتصورات، صحيح ان المرأة هي هذا الكون الأنثوي الثري، ولكنها أيضا هي هذه القسوة التي لا يمكن اكتشافها إلاإذا كان ثمة فارس حقيقي، فارس غير منسحق تحت الرغبة الجنسية، فارس بهنام غائب، بل سكران بلغة القاص، ولن اتصوره يمتطي إلا قصبة يضعها بين فخذيه، بينما المرأة التي أمعن في توصيفها جنسيا ليست إلا خيالا استمنائيا بعيدًا حتى عن التحقق بالكلمات. يمكن لمثل هذه القصص أن تبعث النشوة في القراء الأطفال، وفي اسلوبية قصيدة النثرالعادية، لكنها لن تكون قصة، فهذا شيء بعيد عن التحقق الفني.
ثمة نقطة أساسية تثيرها هذه القصص، هي أن القاص يكثر من استحضار القرائن التي تؤكد الحال التي عليها الشخصية، فهو لا يكتفي بسرد ما تعانيه ذاتيًا ومن داخلها، إنما يضيف إليها معاناة بيئية ومناخية وطبيعية ولغوية، فتشكل حلقة قرانية واسعة لتأكيد الأفول أو الموت الوشيك، هذه القرائن لا تنتج أي تصور أو تميز للشخصية، إنما تنتج وضعًا نفسيًا للقاص وهو يرى أن شخصيته ليست وحدها من تعاني العزلة والأفول بل ما حولها أيضا، وربما العالم كله، وعلى القاص أن يجد الموازنة بين قضيتين: الأولى هل الشخصية قادرة أن تُخضع ما يحيط بها لمعاناتها، ومن ثم لينسجم مع ما هي عليه من حال الأفول والإنحسار؟، هذا السؤال فني تركيبي، وليس سؤالا يبحث عن إجابة. المسالة الثانية: هل أن ما استحضره القاص من المحيط والبيئة والعالم والسماء، خاص بوضع الشخصية وحدها، ومنسجم مع ما هي عليه دون غيرها، أم أن هذا الوضع الكوني الذي استحضره القاص يمكن أن ينقل إلى حدث وشخصية أخرى وبزمن آخر، وبمكان آخر، وقد يتحدث عن موضوع آخر، قد يكون مغايرا لما رسم في القصة؟. نخلص من ذلك إلى أن القصة ليست سردا للأحداث فقط، ولا هي "تحشيد" للاشياء المحيطة بها، إن مايقال فيها لايقال إلاً مرة واحدة، وأن حضورالأشياء والحالات المستدعاة من عوالم مثيولوجية أو طبيعية لا يمكن العودة إليها في أي نص آخر، إن حجر البيت الذي شيد به، قد يتشابه مع حجربيت آخر، لكنه لن ينتج نسخة مكررة من البيت الأول، كل القصص تكتب باللغة، وكلها تعتمد حدثا وشخصيات وسردا، ولكنها لن تكون متشابهة. ما قرأنا في القصص يمكن استبدال ما في "تدرع" بما في "اقتناص"، وبما في "عشق" ليس من خصوصية للحالات الفضائية التي اتى عليها في القصص.
إن ما يجعل هذه القصص قصة واحدة شيئان: الأول أنها مكتوبة بشحنة نفسية وشعورية واحدة وربما زمنية ومكانية واحدة أيضًا، بحيث نجد ثيمة التكرار بما فيها الألفاظ، وإن اختلفت الكلمات. الثانية أن قصصه القصيرة مختارة من داخل وعي ولسان القاص نفسه، لذلك كانت شعرية لأنه يكتب القصص بطريقة شعرية، والشعرية تسرّع التكرار والتأكيد لتضفي على الجو شعورا مشتركاً بين السارد والفضاء، فيضعف فيها التأمل والمراقبة، إن سردها دفق شعوري وانثيال لغوي، بينما السرد الفني يتطلب التأمل والمراقبة وكثرة الفواصل والبياضات والفوارز والأستفهامات. مما جعل القاص يُلبس قصصه ثوبًا اسلوبيًا واحدًا، وهذا مالا ينسجم وطبيعة القص الحديث، لأن يكون لكل قصة ثوبها الذي لايمكن إلباسه لقصة أخرى.