ادب وفن

د.محمد حسين الأعرجي : المثقف النقدي وعقدة الغياب / علي حسن الفواز

محمد حسين الأعرجي ليس ذاكرة ثقافية مجردة، أو صورة سيميائية للمثقف المعارض حسب، بل هو الأقرب الى أنموذج المثقف النقدي، الرافض لثقافوية الخنوع، ولعقدة المثقف الأدبي.. هذه الترسيمة وضعت الأعرجي في سياق ثقافي إشكالي، فهو إبن البيئة النجفية بكل ما تعنيه من رمزية، ومن دلالة لطبيعة القوة الموجهة في مرجعيتها وحساسيتها الدينية والثقافية والتعليمية، فضلا عن كونه ابنا إيكولوجيا للمدينة، إذ أعطته هذه الكينونة مزاجا حساسا للأداء الثقافي، ولتشكلاته على مستوى الإستعمال الثقافي، أو على مستوى النظر للعمران الثقافي ولتحفيز ذاكرة البلاغة اللغوية.. كما أن الأعرجي كان إزاء هذا الوجود إبنا للثقافة الإحتجاجية في طفولته النجفية والبيئة البغدادية وفي سايكولوجيا الدرس النقدي الذي تعلمه.. فهو درس مبكرا إشكالات الشعري والنقدي أكاديميا من خلال كتابه "الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي" حيث يتحول هذا الصراع الى قوة دافعه للكشف، ولمواجهة إشكالية التقليدية في منظور التلقي والفهم..
هاجس الناقد والباحث ظل يساكنه في سيرته النقدية، مثلما ظل يغذي وعيه بجدية صناعة الموقف الثقافي والموقف الوطني والموقف الإنساني. هذا الموقف تحول أيضا الى موقف من السلطة والإستبداد، والى إنفتاح على حراك القوى الوطنية وخطابها الديمقراطي، بإتجاه صناعة وعي مقاوم، ومؤسس لخطاب الثورية الثقافية، فضلا عن ما تأصل به من وعي حاد للباحث الذي تستكنه حمولات ما يؤسسه المثقف من رؤيا وموقف من سرائر ماتصنعه السلطة وأجهزتها المرعبة، ولعل كتابه "جهاز المخابرات في الحضارة الإسلامية" توكيد لفاعلية المثقف النقدي الذي يحمل هواجسه وأسئلته، والمثقف الباحث في ملفات ما تصنعه سلطة الإستبداد من رقابة ورعب..
ظل الأعرجي حاملا هواجسه النقدية حتى بعد سقوط النظام الإستبدادي، إذا حاول أن يكون جزءا من صناعة التغيير، ومن التأسيس الجديد لمفهوم الدولة والثقافة والمؤسسة، لكنه لم يلق البيئة المناسبة، ولا المجال التعبيري عن مسؤوليته كمثقف نقدي، وعن حمولات ما تشبعت به ذاكرته التي ترسخت فيها دروس على جواد الطاهر، وصديقه الأثير الجواهري الكبير. فلم يحصل على الوظيفة التعليمية التي تليق به، والتي كان جزءا منها، ولا الإهتمام العلمي بمنجزه الثقافي ككاتب وشاعر ومحقق مجيد، ولا حتى الإهتمام بتاريخه المعارض لسلطة الإستبداد، وللتعاطي بمسؤولية مع سيرته العلمية والتأريخية.. مثلما وقع ضحية للإرهاب الذي عرّضه للتهجير ولفقد الإطمئنان، والإحساس بالعجز عن إداء رسالته..
صورة الأعرجي هي صورة واقعية للعطب الثقافي الذي تعانيه مؤسساتنا الثقافية، وللتهميش الذي يعيش عقده المثقف العراقي، ولكل تمظهرات الأزمة التي يواجهها الملف الثقافي، بوصفه ملفا لمقاربات مفاهيمية كالدولة الجديدة والهوية والحرية والديمقراطية والحقوق المدنية، والعلم والمعرفة والتاريخ، وغيرها ممن يدخل في صناعة علاقة فاعلة مع المثقف وأسئلته..
اليوم ونحن نستعيده بعد رحيله عن عالمنا ..ما الذي يمكن أن نقوله، وان نضعه في مواجهة أزمات عطبنا الثقافي؟
أحسب أن هذا السؤال سيكون مفتتحا لمواجهة ما يجري، وما يمكن لنا أن نصعنه كخطاب عقلاني ونقدي لتقعيد فعل المواجهة، ولتفعيل كل المسؤوليات الوطنية والثقافية والقيمية، والتي تدعونا للحديث بصراحة عن كل تلك الاشكاليات التي يواجهها المشهد الثقافي والجامعي بشكل خاص، واللحظة العراقية المفارقة. إذ لا نجد في سياقها وكأن الدكتور الاعرجي كان واحداً من اكثر ضحاياها نبلاً.. فحينما نعود الى التاريخ نجد ان الضحايا الكبار كانوا أيضاً اكثر نبلاً كأبن المقفع والسهروردي وغيرهما الكثيرين.. هؤلاء يمثلون بعطائهم وجهادهم ومواقفهم لحظات خطيرة في التاريخ. وان استعادة الاعرجي اليوم ستكون أشبه بوخزة ضميرية وثقافية يمكن من خلالها ان نستفز الجسد الثقافي، لكي نجعله مستفزاً. إذ يمكن لهذا الاستفزاز ان يكون باعثا على رؤية الاشياء بوضوح لما جرى وما سيجري، وكيف لنا ان نعمل بمسؤولية وجدية لرسم الأفق الثقافي والسياسي والمعرفي والجمالي في عراق ينحدر باتجاه المجهول، وفي ظل تحديات مرعبة لثقافات الغلو والتطرف والتكفير والكراهية، فضلا عن رعب الجهل والتخلف والفقر، والذي سيكون ضحيته المثقف والرسالة الثقافية والدرس الثقافي.