ادب وفن

محمد حسين الاعرجي.. مسيرة الغربة والوطن / معتز عناد غزوان

لاشك أن الحديث عن الأستاذ الدكتور محمد حسين الأعرجي هو حديث عميق وطويل في مشهد عميق ممتلئ بقيم التفاني والحب والإخلاص للوطن، والعذاب في الغربة والإقصاء، والاشتياق لوطن تركه قسراً متنقلا في المنافي من الجزائر إلى بولندا. لقد وضعت معاناة الأعرجي سجلاً مشرفاً لكفاح من اجل المبادئ والطريق القويم، تلك المبادئ التي عرفت أبا هاشم بقوته في المواقف المشرفة وصلابته في اتخاذ القرار الصائب، وفي أحلك الظروف. وفي الوقت ذاته فان الفكاهة والروح الجميلة والابتسامة والمزحة البريئة التي لا تنتهي لا سيما عند سماعها منه شخصياً، لأنها تتمتع بطعم خاص عندما يرويها هو فقط لا غيره، وتكاد تشعر بطعمها الخاص حتى وأن كنت تستمع إليها مرة ثانية.
محمد حسين الأعرجي الحاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة بغداد عام 1977م، عن رسالته الموسومة "الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي" والتي كانت تحت إشراف أستاذ المعي وشيخ نقاد العراق الراحل الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر. لقد بدأت معاناة الاعرجي منذ أن قرر التتلمذ على يد أستاذه الراحل الكبير علي جواد الطاهر، وان يرتبط روحياً بابيه الشاعر العظيم محمد مهدي الجواهري، فقد أحيل الدكتور الطاهر إلى التقاعد القسري والإقصاء المقولب بقانون لا يعرف إلا تدمير الطاقات العلمية الشريفة التي عانت ما عانت من إقصاء وتعذيب، فقد تآمر على الطالب وأستاذه ثلة من المنافقين بغرض تدمير الاعرجي والإحاطة بينه وبين درجة الدكتوراه التي يستحقها بامتياز مطلق، لما تحمله من موضوع جديد آنذاك، فتألفت لجنة المناقشة لتتسلل لها أيادٍ لا تعرف من الضمير العلمي إلا الغدر وفن التآمر، وكانت اللجنة برئاسة الراحل الكبير الأستاذ الدكتور داود سلوم.
ذكر لي والدي الراحل الأستاذ الدكتور عناد غزوان احد أعضاء لجنة مناقشة الاعرجي إنهم أي بعض من أعضاء اللجنة الحاقدين، وضعوا درجة مجحفة بحقه وكانت الدرجة "60"، مما وضع والدي والدكتور داود سلوم الذين يكنون للدكتور الطاهر والاعرجي كل المحبة من جهة، والأمانة والضمير العلميين من جهة أخرى، فوضع والدي درجته "90" والدكتور سلوم "85" فمنح الاعرجي درجة الدكتوراه وبتقدير جيد، وهو الذي يستحق الامتياز. بعدها غادر الدكتور محمد حسين الأعرجي العراق إلى المهجر الجزائري ليبدأ عمله بالتدريس هناك في جامعات الجزائر واستقر في جامعة عنابه المعروفة. وعندما قرر والدي أن يغادر العراق قبيل الحرب العراقية الإيرانية، أي بعد الاعرجي بسنة تقريباً، وقرر أن يستقر في بريطانيا. بيد أن والدي هو الآخر قد تعرض إلى غدر كبير من كليته وجامعته التي أسهم بكل شرف ونزاهة في بناء تقاليدها العلمية النظيفة، فقطعت الدولة راتبه عنه ما اضطر به الأمر أن يتصل بتلميذه وأخيه الذي لم تلده له أمه الدكتور محمد حسين الاعرجي، الذي لبى في الحال طلبه ودعاه إلى التدريس في الجزائر وان مكانه محجوزا فعلاً، قرر الوالد أن يغادر من لندن إلى الجزائر بعد أن أرسل عائلته إلى بغداد لان الحرب كانت قد بدأت. وهناك امتدت لهما الأيادي الآثمة من جديد بعد أن اجتمع الاثنان معاً، ما اضطر والدي أخيراً أن يعود إلى بغداد وترك الجزائر.
ذكر لي الدكتور محمد حسين الاعرجي انه قد سئل يوماً "هل أنت وعناد غزوان شقيقان؟" فأجاب الاعرجي نعم، فقالت له الموظفة، كيف ذلك وأنت محمد حسين الاعرجي وهو عناد غزوان، فأجابها الأعرجي بكل ثقة، انه يعتز بلقبه وعناد غزوان لا يحب لقبه، وقد صدق الجميع أن الاثنين شقيقان، وظلت تلك المزحة سائرة في الوسط الجامعي والثقافي.
وتمر السنون وتشاء القدرة الإلهية أن يكون رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في العراق الأستاذ الدكتور عناد غزوان وبدعوة من وزير الثقافة الأستاذ مفيد الجزائري ليتحدث عن السيد الدكتور محمد بحر العلوم في قاعة الجواهري بوزارة الثقافة أواخر عام 2004، والتي كانت في دائرة الأزياء بمنطقة زيونة، أن يلتقي بالدكتور محمد حسين الأعرجي، وسمعت والدي وهو يناديني بقوة ودهشة "ولك معتز تعال بسرعة هذا محمد حسين الاعرجي"!، وما إن وصلت إليهما حتى أثارني مشهد العناق الطويل مع البكاء غير المنقطع وجعلني ابكي معهما، ولكن حدث ان رحل والدي بعد سبعة أيام من هذا اللقاء، ليأتي الدكتور محمد حسين الاعرجي باكياً ومتألماً لفقده ومشيعاً لأستاذه وشبيهه، وعندما التقيته بعد فترة وجيزة، كان قد عاد للتدريس في كلية الآداب بجامعة بغداد، وأخبرني بأن الدرجة الوظيفية لوالدي قد مكنته من التدريس وإعادة التعيين، وانه أصبح رئيساً لتحرير مجلة المورد بعد رحيل أخيه وأستاذه عناد غزوان الذي كان يشغل هذا المكان الثقافي المهم، إنها مفارقة الحياة، وقال لي الاعرجي بالنص "لستم انتم من ورثتموه أنا الذي ورثه بالفعل".
استمرت علاقتي بالدكتور محمد حسين الاعرجي الذي كان يحدثني عن معاناته في الغربة وشوقه للعودة إلى وطنه، وقد أصابه المرض العضال، و لم يستطع هذا المرض أن يحدد مسيرة إبداعه، فظل يؤلف ويكتب وينشر، هنا وهناك أروع الدراسات وأحدثها نوعاً وكماً، حتى توفي أبي النفس صاحب المبدأ القويم، شجاع في كل المواقف، وبذلك فقدنا علماً من أعلام العربية المخلصين. إن سيرة الأعرجي هي سيرة عميقة في دروسها وظروفها التي صنعت الإنسانية من خلال التواضع والروح المرحة التي تحملت قسوة الحياة وتحولاتها الصعبة. إنها سيرة مبدع أهدى جل حياته للعلم والثقافة، بكل وطنية وإخلاص منقطع النظير.