ادب وفن

التعليمات الحكومية مازالت تحاصر الكتاب العراقي والقرصنة منتشرة * / محمد حياوي**

لا يخفى على أحد الدور الذي يمكن أن يلعبه الكتاب وأهميته الأستراتيجية في نشر الفكر المتنوّر ومفاهيم التسامح في مواجهة انتشار ظاهرة الإرهاب ومرتكزاته الفكرية السوداء. وعلى الدولة والجهات المسؤولة الاهتمام بالجانب الثقافي والفكري وتشجيع النتاج الإبداعي، حتى في ظل الهجمة العدوانية الشرسة التي يتعرض لها بلدنا من قوى الارهاب.
ان المسؤولين عن التشريع والثقافة مطالبون بعدم تعليق الاهمال الذي يعاني منه الكتاب بشكل خاص والثقافة عموماً على شماعة الارهاب، ذلك لأن الثقافة والفكر لا يقلان أهمية عن السلاح في معركة التحضر ضد التخلف والارتداد.
تعليمات بالية
يعاني الكتاب العراقي من جملة تشريعات وقوانين بالية تحد من انتشاره وانطلاقه إلى فضاءات أرحب، إذا مازال العمل في هذا المجال جارياً وفق والتشريعات والتعليمات التي أصدرها النظام السابق في عقد التسعينات، والتي تمنع صراحة تصدير الكتاب العراقي، عندما كان العراق خاضعاً للحصار الإقتصادي آنذاك. لقد عجزت الحكومات المتعاقبة في مرحلة ما بعد التغيير عن إلغاء تلك القوانين والتعليمات، على الرغم من أن عملية إلغائها من صلاحيات وزراء الثقافة أو من ينوب عنهم، على الأقل فيما يتعلق بالتعليمات، بينما تجاهلت اللجان المسؤولة عن الثقافة في البرلمان العراقي أهمية تشريع قوانين وتعليمات ضرورية تتعلق بحماية حقوق المؤلف والناشر بشكل خاص والحقوق الفكرية بشكل عام، إذ ماتزال القوانين والتشريعات المعمول بها في هذا المجال تعود لعقود سابقة.
من جهة أخرى فشلت التنظيمات ذات العلاقة بالثقافة والكتاب، كاتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين واتحاد الناشرين العراقيين في إيجاد سلطة رقابية مرموقة من شانها الحد من عمليات القرصنة الجارية على قدم وساق سواء في سوق الكتاب أو في المجالات الإبداعية الأخرى، على الرغم من ان اتحاد الناشرين العراقيين قد بذل جهوداً محمودة حتى الآن على صعيد مفاتحة وزارة الثقافة ودار الكتب والوثائق من أجل إلغاء تعليمات منع تصدير الكتاب العراقي، إلا أن تلك الجهود تبقى محدودة وغير مثمرة ولم تحقق أية نتائج تذكر حتى الآن، بسبب نمطية العمل في وزارة الثقافة وأساليب الروتين المنتشرة في مفاصلها من جهة، ولمحدودية إمكانات إتحاد الناشرين المالية والإدارية من جهة أخرى.
أنا شخصياً والكثيرون مثلي نشعر بالعار من سريان تعليمات نظام "صدام حسين" التي تسببت بمحاصرة الكتاب العراقي وحرمانه من المشاركة الخارجية في معارض الكتاب الدولية وعدم انتباه المسؤولين الجدد لهذه القضية الخطيرة.
إتحاد الناشرين
لقد اطلعت شخصياً على جملة من المخاطبات والكتب الرسمية والرسائل المتبادلة بين أتحاد الناشرين ووزارة الثقافة بهذا الخصوص، واستغربت من توجيه أحد وكلاء الوزارة بضرورة الاطلاع على رأي وزارة التجارة في موضوع تصدير الكتاب العراقي، وكأن الكتب بضاعة عادية لا تختلف عن الطماطة ومعاجين الأسنان، لقد أدى هذا التوجيه، على سبيل المثال، إلى ضياع جهود أكثر من سنتين بذلها الزميل الدكتور عبد الوهاب الراضي، رئيس اتحاد الناشرين وعدد من الزملاء الآخرين العاملين معه.
على صعيد آخر غابت السيّدة ميسون الدملوجي، رئيس لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان العراقي عن الندوة التي نظمت لمناقشة تلك المشكلات في اتحاد الأدباء، على الرغم من توجيه الدعوة لها رسمياً، متجاهلة بذلك مسؤولية وطنية مهمة من صلب مسؤولياتها التي أوكلها إليها الشعب العراقي والمتمثلة في صون ثقافته وتوفير السبل والمناخات الصحية لها لتنمو وتزدهر.
وماتزال الجهود المضنية تبذل لألغاء تعليمات نظام صدام حسين التي تحاصر الكتاب العراقي منذ عقود، وأمل خيراً بتحركات المسؤولين واتحاد الناشرين للوصول إلى نتائج عاجلة على هذا الصعيد، لكن هل ستنتهي مشكلات الكتاب العراقي بحل هذه المعضلة؟.
الرقم المعياري
في الواقع هناك جملة من المشكلات الأخرى التي تعاني منها صناعة الكتاب العراقي، ولعل من اهمها قضية الرقم المعياري الدولي الـ ISBN وهي قضية غاية في الأهمية اهملتها الجهات المسؤولة عن صناعة الكتاب العراقي، من دور نشر واتحاد ناشرين ودار الكتب والوثائق ودار الشؤون الثقافية العامّة ودار المأمون ودار الثقافة الكردية وغيرها من المؤسسات المعنية بنشر وإصدار وطباعة الكتب والمجلات الدورية.
إن أهمية الرقم المعياري الدولي تنبع من كونه هوّية دولية لأي كتاب، وهو بمثابة بطاقة التعريف الخاصّة التي تدخله إلى أنظمة المكتبات الوطنية العالمية، كما تسهم في صون حقوق مؤلفه وناشره على حد سواء، ومن دون الرقم المعياري الدولي يصبح الكتاب مكشوفاً تماماً وعرضة للهدر والضياع ولا يمكن له المشاركة في معارض الكتاب الدولية ولا الترشح للجوائز العربية والعالمية.
ويتكون الرقم المعياري الدولي حالياً من 13 رقماً بعد التعديل الأخير على الاتفاقية الدولية الخاصّة به في العام 2007 وتمنحه المؤسسة الدولية للتقييس التي تأسست في العام 1969 في برلين ويعرف عالمياً بمختصر ISBN وهي الحروف الأولى من عبارةInternational Standard Serial Number
أما عربياً فيعرف بالمختصر "ردمك" وهي الحروف الأولى من عبارة الرقم المعياري الدولي للكتاب، وتقسم الأرقام الثلاثة عشر إلى أربع مجاميع تخصص قسم منها للأقليم ثم البلد ثم الناشر ثم رقم الطبعة من الكتاب، وهو نظام دولي معمول به في أغلب دول العالم ويسهّل عملية الفهرسة والتبويب والتصنيف في المكتبات العامة ومنافذ البيع ومعارض الكتاب الدولية، كما تتمتع الكتب التي تحمل ارقاماً معيارية بالحماية الدولية من القرصنة أو فقدان الحقوق وفق الاتفاقية الدولية لحماية الملكية الفكرية.
إن خلو العراق، أو الكتب العراقية من هذا الرقم يعد خللاً كبيراً في عملية صناعة الكتاب العراقي ونشره وتوزيعه، وتختار المؤسسة الدولية للرقم المعياري في الغالب جهة واحدة أو وكيلاً واحداً شبه رسمي في كل بلد لينسق معها رقمياً ويمنح تلك الأرقام للناشرين مقابل مبالغ شبه رمزية، لكن الأمر يتطلب من الجهة الوطنية التي تتحمل هذه المسؤولية توفير بعض الإمكانات التقنية لتلقين المعلومات الخاصّة بكل كتاب، كالعنوان وأسم المؤلف والناشر وسنة النشر ورقم الطبعة وطبيعة الكتاب حسب التصنيفات الدولية وعدد الصفحات والسعر وغيرها من معلومات، لجهاز كومبيوتر "حاسوب" مرتبط عبر الإنترنت بانظمة المؤسسة الدولية.
قرصنة الكتب
إن عملية الاشتراك بمؤسسة الرقم المعياري الدولي ليست بالقضية الصعبة بحد ذاتها، لكن توفير الظروف الملائمة وتعزيز الثقة في سوق الكتاب العراقي هي القضية الأهم والأصعب في الواقع، ونظراً لانتشار عمليات قرصنة الكتب على نطاق واسع في سوق الكتاب العراقي حالياً، فأن الأمر يتطلب جهوداً كبيرة من وزارة الثقافة ومؤسساتها واتحاد الناشرين للحد من تلك الظاهرة المضرة التي أساءت لسمعة الكتاب والناشر العراقي كثيراً، كما يتطلب الأمر إصدار تشريعات ضرورية تتعلق بقوانين حماية الملكية الفكرية وحقوق المؤلف والناشر وزيادة المراقبة في أسواق الكتاب وتشكيل فرق متخصصة لدراسة ظاهرة القرنصة وآلية معالجتها وتوفير كافة الوسائل والسبل للناشرين العراقيين للخروج بالكتاب العراقي إلى فضاءات أرحب والمشاركة في معارض الكتاب العربية والدولية بشكل رسمي وليس تحت يافطات دور نشر عربية ظل الناشر العراقي تابعاً لها منذ سنوات بسبب تلك القوانين البالية التي تسببت بمحاصرة الكتاب العراقي وتضييق الخناق عليه، كما تركت الناشرين العراقيين في عزلة عن اتفاقات التوزيع العربية والعالمية.
هوّية تصميمية
شخصياً أعد الكتاب، كوجود فيزيائي، بمثابة الوعاء الذي يحتوي عصارة الفكر والإبداع البشري، وكلما كان هذا الوعاء محكماً وجميلاً ومتناسقاً كلما كان قادراً على صون المحتوى وحفظه من التبدد وتوصيله بأكمل صورة، وانطلاقاً من هذه الحقيقة نكتشف أهمية التصميم، ليس بالنسبة للكتب حسب، بل لجميع المطبوعات والدوريات والصحف، ونظراً لتطور العلوم وتأسيس المرتكزات الفنية الأصولية في أغلب الاختصاصات، فقد أصبح التصميم علماً قائماً بذاته تدرّس أصوله وقواعده في مختلف المعاهد المتخصصة، على الرغم من كونه فناً أو صنفاً فنياً من صنوف الفنون التشكيلية بشكل أو بآخر.
من هنا لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار العلاقة الفيزيائية بين عين القارئ وغلاف الكتاب، تلك العلاقة التي تعد الخطوة الأولى للتواصل، وعلى إثرها تتحد فيما بعد الخطوات اللاحقة.
لقد ظل تصميم الكتب في العراقي على مدى عقود طويلة هائماً وعشوائياً وغير خاضع لأية معايير محددة من شأنها بلورة هوّية تصميمية واضحة للكتاب العراقي، والسبب الرئيس، من وجهة نظري، هو عدم التخصص في الغالب، أو شيوع مفهوم "الفنان التشكيلي مصمم جيد"، لقد نتجت عن هذه الظاهرة مفردات مؤذية للعين كان ضحيتها الأولى المؤلف نفسه، الذي يُكتب أسمه على الأغلفة العراقية ببنط صغير للغاية وكأنّه عورة يراد أخفاؤها، في الوقت الذي ندرك فيه أن أسم الكاتب هو الذي يتسبب بمبيع الكتاب وليس العنوان. لقد حاولت من خلال تجربتي مع عدد من الناشرين العراقيين ترسيخ مفاهيم جديدة في تصميم الكتب ومحاولة إيجاد هوّية تصميمية للكتاب العراقي تميزه بالشكل عن الكتب الأخرى، وتلك مفردات قد لا تبدو واضحة بشكل مباشر للعين، لكنّها موجودة ضمناً في عناصر التصميم، ومازال الطريق طويلاً لبلورة مثل هذه الهوّية في الواقع.
لقد تمكن المصمم الإيراني من تجسيد طابعه الخاص منذ عقود طويلة، وذلك باستخدام عناصر ومكونات شرقية محددة تتماهى مع انسيابية خط التعليق "الفارسي" المعروف برشاقته، في حين تمكن المصمم المصري، على سبيل المثال لا الحصر، من الوصول إلى أشكال تعتمد المفردات المباشرة لتحفيز العين بالوسائل الشعبية واكتظاظ العناصر، فنتج عن ذلك تكوينات قد تبدو هجينة او مباشرة وغير أنيقة، لكنّها راسخة وتشكل هوّية ما. وعموماً الحديث يطول بهذا الشأن ولا تتسع محاضرة كهذه للتفصيلات، وطالما ركّزت على بعض هذه الجوانب في الدورات الكثيرة التي أقيمت لي في العراق.
معرض فرانكفورت
وبشكل عام فقد أدت تلك الظروف والمعوقات التي واجهت صناعة الكتاب العراقي إلى عزلته كما ذكرت، وغاب العراق عن التمثيل الدولي في معارض الكتاب المهمة، وعلى رأسها معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الذي يعد أهم واكبر تظاهرة لصناعة الكتاب في العالم وفيه تعقد الاتفاقات المهمة على صعيد النشر وتقنياته وآلية توزيعه، ونظراً لكوني عضواً في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب منذ العام 2005 فقد قدّمت دراسة متكاملة العام الماضي إلى دائرة الشؤون الثقافية العامّة تضمنت موجبات المشاركة في المعرض وآلية المشاركة وحجز الأجنحة، كما تضمنت من بين ما تضمنته، مقترح تنظيم مسابقة سنوية لعدد من فروع الإبداع والكتابة، ترعاها الدولة وتخصص لها الجوائز السنوية لنتمكن في المحصلة من اختيار خمسة كتب من كل فرع للعمل على ترجمتها إلى اللغات الأنجليزية والألمانية وتقديمها كنماذج من الأدب والإبداع العراقي للناشرين الدوليين في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، ولم تلق الدراسة أي صدى يذكر حتى الآن بالنظر لعدم تخصص المسؤولين في دائرة الشؤون الثقافية العامّة.
التوصيات
ضرورة الإسراع بالغاء تعليمات وقوانين "صدام حسين" الخاصّة بمنع تصدير الكتاب العراقي وتحمل المسؤولية الوطنية في توفير أفضل السبل لانتشار الكتاب العراقي ودعم حركة النشر والناشرين من خلال منحهم الخصومات المتعارف عليها في حال شحن كتبهم بواسطة طائرات الخطوط الجوية العراقية لضمان أفضل مشاركة للكتاب العراقي في معارض الكتاب الدولية التي تنظم على مدار العام في الكثير من العواصم العربية والأقليمية والدولية.
ضرورة الإسراع في مفاتحة المؤسسة الدولية للتقييس من أجل الحصول على وكالة منح الأرقام المعيارية الدولية للكتب العراقية وحصرها في دار الكتب والوثائق أو اتحاد الناشرين العراقيين والعمل على توفير جميع متطلبات تلك المؤسسة من تشريعات وتعليمات ووسائل لوجستية أخرى.
العمل الفوري والجدي لتشكيل لجان متخصصة للحد من ظاهرة قرصنة الكتب المنتشرة في سوق الكتاب العراقي، وضرورة أجبار الناشرين على عرض مسوّدات كتبهم الجديدة على لجنة مختصة لتحديد صلاحيتها للنشر من الجوانب الفنية البحتة، نظراً لاستسهال النشر في السنوات الأخيرة على حساب المعايير النقدية.
تنظيم المزيد من الدورات التطويرية في مجال التصميم الغرافيكي بجميع أشكاله والبحث عن المصممين الشباب الموهوبين لتنمية قدراتهم الجمالية وتدعيمها بالمفاهيم العلمية الخاصّة بالتصميم وعناصره ومكوناته وأسسه.
واخيراً ضرورة البدء بالعمل على تنظيم مسابقة للكتاب العراقي واختيار الكتب الفائزة لترجمتها، والمشاركة السنوية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب وتقديم النتاج الفكري والإبداعي العراقي للعالم والعمل بموجب الدراسة التي قدمتها إلى دائرة الشؤون الثقافية العامّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نص حديث الباحث واستاذ التصميم المغترب محمد حياوي في الندوة التي نظمتها الجمعية العراقية لدعم الثقافة يوم 10 آذار الماضي بالتعاون مع اتحاد الناشرين العراقيين، واحتضنتها قاعة الجواهري في مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في بغداد.
** تم التطرق في سياق المحاضرة إلى ما أسميته "الوجود الغرافيكي للدولة العراقية"، وهو تخصص آخر لم أورده هنا لعدم صلته بالمشكلات التي تواجهها صناعة الكتاب العراقي، وقدّم كدراسة مستقلة إلى مجلس رئاسة الوزراء.