ادب وفن

الفريد سمعان يخاطب رمزاً ملحمياً في «فهد» / عبد العزيز لازم

"فهد"هو عنوان لقصيدة أطلقها الشاعر الفريد سمعان بمناسبة الذكرى الحادية والثمانين للحزب الشيوعي ونشرت على صفحة ثقافة "طريق الشعب"، و"فهد" هو مؤسس الحزب الشيوعي العراقي. لقد وجدت الملحمة عبر التاريخ في الشعر مجالا حيويا لها مكّنها من تقديم مشكلتها باكبر قدر من التوتر والمتعة والتعليم.
ويفيدنا احد تعريفاتها على انها سلسلة طويلة من الأحداث تتسم بالمغامرة والصراع وإنها غالبا ما تحتفي باعمال وانجازات بطل اسطوري بإسلوب الشعرالرفيع. ويعرف العراقيون ان نضالات الشيوعيين ومواقفهم البطولية اصبحت حكايات يتداولها الناس لاكتساب الدروس والحكمة منها خاصة صلابة قادة الحزب أمام جلاديهم، وكان "فهد" مؤسس الحزب أول من اعتلى المشنقة بعد ان نفذ صبر الطغاة في حمله على ترك قضيته التي آمن بها من أجل الوطن والشعب. فعندما صدر حكم الاعدام بحقه وبحق إثنين من رفاقه في قيادة الحزب، حاول الجلاد الأول نوري السعيد ان يقنعه بتخفيف الحكم الى المؤبد، مقابل التخلي عما يؤمن به إلا ان فهدا أطلق كلمته المجلجة:" لو قدر لي أن أخلق من جديد لما اخترت غير هذا الطريق". ثم توالت الحكايات البطولية التي انتجتها مواقف هذه الطليعة البشرية التي وضع مناضلوها حيواتهم على اكفهم في مسيرة ملحمية لم تنته بعد ولن تنتهي ما بقي الاستغلال والظلم جاثمين على رؤوس الناس.
إن التداول المتواصل لحكاياتهم ومواقفهم قد اكسبها بعدا ملحميا تناسج مع الموروث الشعبي الذي صار الناس من مختلف الطبقات يتداولونه باعتباره مجموعة أمثلة رمزية تعطي معنى البطولة والحكمة.
تأتي القصيدة الجديدة لألفريد سمعان الذي عاش قريبا من البطل الملحمي "فهد" في سجنه لتعيد رواية الأحداث الكبرى التي كان البطل محرِّكا لها باسلوب المناجاة الشعرية، خاصة وإن الشاعر عاش تلك الاحداث وساهم فيها وتلقى لسعاتها الساخنة. وهذا يعني ان احداث الاسطورة ليست من بنات خيال الشاعر، بل انه التقطها من الحياة الواقعية التي خبرها وذاق مذاقها لكن طبيعتها وشدة الاشعاع الصادر منها قد صيَّرها كنوزا تزخرف اجواء القصيدة لتتحول من قصيدة تفعيلة ذات صبغة نثرية تصور الواقع الى قصيدة سردية ملحمية منطلقة من حقائق الواقع.
تتوزع أحداث القصيدة على ست كتل لفظية ، كل كتلة متخصصة في طيف معين من الاحداث والرؤى وتبدأ كل كتلة بعبارة المناجاة الاولى "تعلمتُ" عدا الكتلة الرابعة لأن صورة المخاطبة فيها لا تتحمل وجود تلك المفردة فنيا ولغويا فهي لا تتعلق بالسارد أكثر من تعلقها بالمخاطب " البطل الملحمي " الكتلة اللفظية الأولى تركز على جذور نشوء الوعي وبدء المسيرة النضالية للسارد بالارتباط بتاثيرات البطل "فهد":
"تعلمت منك
لا أدري كيف؟
تسلل نبض حروفك
بين ضلوعي
وسارت وراء خطاك
خطاي
وكيف فتحت أمام جفوني
رواق التحدي"..
ترتبط حكاية البطل بحكاية السارد- الشاعر، اي ان هناك ارتجالين ، الاول يصدر عن البطل وهو سابق للارتجال الثاني الذي يصدر عن السارد، فالبطل هنا كان قد حسم امره واختط طريقه وراح يبشربما آمن به بحسم لا راد له.
إن القوة التاثيرية الصادرة عن البطل تنفذ بخط مستقيم الى نفس السارد وتدفعه الى الإنخراط بنفس الموكب الذي يجوب طريق التحدي . في هذه المرحلة يتبلور شعار الحزب الذي ألهمَ المناضلين "وطن حر وشعب سعيد" ليعبر عن ارتباط الحرية التي تتضمن استقلال الوطن وسيادته بالسعادة التي تتحقق في ظل العدالة الاجتماعية والإشتراكية، في مجتمع خال من الاستغلال والبطش. تسير الجموع الجديدة ذات المصلحة بما يدعوا اليه الشعار، بعد تسلحها بروحه نحو تحقيق هذا الهدف وتبدأ القوى المضادة الغاشمة بالقلق ومن ثم العمل العدواني القمعي ضدها. الصفحة الثانية من النضال تنيرها الكتلة اللفظية الثانية، فعلى لسان السارد يتحدث عن نفسه وكيف تعلم صيانة "اكاليل مجد البطل" " الحزب:
تعلمت كيف اصون اكاليل مجدك
بين عروقي
وأحمل أهات صبرك
أكتم صوتي
تحت هدير السياط
لأحمي ... رفاقي
في هذا إنارة لحقيقة اضطرار الحزب الى ممارسة العمل السري لحماية التنظيم من بطش السلطات القمعية وبداية تعلم رفاقه اتقان اصول العمل السري . ثم يلتفت السارد لمخاطبة البطل فهد بعد ان يفرغ من نشر اساليب النضال السري التي تعلموها منه:
يا فهد
تبقى .. تظل ترانيمك
في موكب الكادحين
وبين الخمائل
كما أنت
أسطورة لا تغيب
تحوم على مجدك الصلوات
وتقتحم البحر
اشرعة الانتصار
في الجزء الثالث من السياق الشعري ثمة درجة جديدة من التعلم تؤججها حادثة رهيبة ذات ذروة درامية مدوية وهي إعدام البطل الاسطوري وفق خطة دبرتها قوى داخلية بالتنسيق مع القوى الاستعمارية الخارجية، وتشير الوقائع التاريخية إن حادث إعدام " فهد" ورفيقية حازم وصارم جرت باشراف السفير البريطاني، سفير الدولة الإستعمارية الكبرى, وهذ يعبر عن مقدار الأهمية التي أولتها الدوائر الاستعمارية في قضية التخلص من البطل ورعبها منه ورفيقيه رغم جبروت السلاح والامكانات القمعية التي يمتلكها الاستعماريون، وفي هذا تتحقق مصداقية العبارة التي جاءت في سياق البيان الشيوعي حول ظهور "شبح الشيوعية" الذي يهز فرائص المستغلين رغم جبروتهم. يتماهى السارد مع تلك المصداقية التي انطوت عليها العبارة فيصف الشهيد حين يطلق وقفته الجريئة في وجوه الجلادين بعد ان يودع رفاقه في السجن:
وأعلنت أن الشيوعية
أقوى من الموت
أعلى من القمم الشاهقات
وحقك
رغم قيودك
رغم الجراحات
كانوا يخافون منك
فبعد ان تتحقق نبوءة البيان الشيوعي في شخص البطل العراقي فهد ورفيقيه يقدم الشاعر كشف حساب لما تحقق في مرحلة ما بعد استشهاده فيجسم ما حصل بعد ذلك على انه حقائق من نتائج مواقف البطل . في الجزء الرابع تغيب كلمة "تعلمت"، وتبدأ حركة سردية لإظهار ذرى الانجازات المحلقة والتي تنتمي الى جنس الملاحم :
رسمت الملاحم
روضت اقسى قيود الطغاة
فصارت قلائد ترقص فوق صدور
العذارى
صنعت من الخبز رمزا مهيبا
ونصنع من كل ليل نهار
يتعين هنا ملاحظة قوة تحويل الاشياء من خلال تغيير وظيفتها الرديئة الى أخرى لا تخدم الانسان فقط بل وتصنع التحدي الانساني للظلم ، فالقيود تتحول الى قلائد وهذا يذكرنا بخطاب الشيوعيين التقليدي الذي شاع في فترات نضالية رافقت تجربة البناء الاشتراكي لمنظومة البلدان الاشتراكية السابقة الذي يقول سنحول السيوف الى محاريث. هنا يتم تغيير الوظيفة من الصورة القاتمة الى الصورة الخيرة المضيئة فالمحاريث رمز الخصب وانتاج الخيرات المادية بينما السيوف ترمز الى قتل الانسان وانهاء منجزاته الحضارية ، كذلك تواصل المقولة الشعرية تجسيد المعنى الذي اطلقة المهاتما غاندي بعبارته المدرسية الشهيرة:" لا تتخلص من الاحجار التي يرميك بها خصومك بل احتفظ بها كي تستخدمها لتشييد بناء جديد ".
إن قلائد الفريد سمعان هنا، ترمز الى الجمال الذي يُستخلَص من القبح الممثل بالقيود، بقوة النضال وصبر المناضلين. اما البيتين الأخيرين من هذا الجزء فيجسدان التماهي المصيري بين السارد- الشاعر والبطل فالبيت الذي يبدا بالفعل " صنعتَ " يجيّر الفعل لصالح البطل الذي صار شهيدا ، بينما تنتقل الوظيفة الى السارد بحركة الفعل " نصنعُ " وهو فعل يخدم الوقت الراهن بينما الاول يخدم الماضي فهنا يستلم السارد ومن معه "نحن" رسالة البطل كي يواصل العمل الكفاحي ليصنع من الليل نهاراً. ويكون كل من البطل والشاعر بذلك قد انجزا مهمة إيصال الرسالة الى الاجيال المتواصلة المتوالدة فيتم تحقيق استمرارية الثورة.
الكتلة اللفظية الخامسة تصور استمرار العمل الثوري في مرحلة لاحقة، مرحلة تميزت بفساد الضمائر والتشوه الخلقي التي جرى التخطيط لها من قبل الديكتاتورية. يواصل السارد تعداد ما تعلمه حتى في الظرف الجديد:
تعلمت
لا استبيح بيادر غيري
واحمل اوجاع
من علمتنا الحياة بأن نفتديهم
بارواحنا
وكيف أكون حداء القوافل
....
وانشودة تمتطيها الرياح
وبيتا يلوذ به المعدمون
الكتلة اللفظية تؤسس لختام فني لكنها تستعر بوصايا يتواصل اجيجها بين "رفاق الطريق الغيارى" من الاجيال القادمة فهي لا تحدد نهاية السِفْر الكفاحي لهؤلاء بل تستنفر قوى اضافية لا تنتهي لتلتحق في موكب ليس له نهاية . نلمس في ثنايا القصيدة باقسامها الستة رنين التفعيلة السيابية التي تظهر ثم تختفي في تضاريس شعرية سياقية اخرى تخضع لطغيان الدلالات الصارمة المتنوعة. إن متانة هذه القصيدة تجسد قوة الترابط بين التجربة الثورية الشخصية والتجربة العامة.