ادب وفن

الشاعرة سلمى جبران: أنا إنسانة أمارس صراع البقاء منذ ولادتي / حوار: شاكر فريد حسن

سلمى جبران، شاعرة فلسطينية تقيم وتعيش في عروس الكرمل "حيفا"، أكدت حضورها في ساحتنا الثقافية والأدبية بجدارة وتميُّز، من خلال قصائدها التي نشرت لها في صحفنا ومجلاتنا الأدبية، وفي مجموعتها الشعرية الأولى "لاجئة في وطن الحداد" التي صدرت لها قبل فترة وجيزة، وجاءت في أربعة كتب، وهي:" دائرة الفقدان، الحلم خارج الدائرة، متاهة الحب، حوار مع الذات".
"سلمى" لا تبحث عن الشهرة، ولا تلهث وراء النقاد، إنها تكتب لتعبر عن خلجات قلبها ونبضها وجرحها ووجعها الداخلي، وتعنى بإنضاج الفكرة، وتجمع بين حروف كلماتها قطوفاً من الرومانسية والرقّة والحلم والدفء الإنساني والمشاعر الصادقة، ونلمس في نصوصها الخيال الخصب الواسع المتجسد في الدلالات والإشارات والمعاني العميقة. ولتسليط الضوء على تجربتها الشعرية كان لي معها هذا الحوار:
من هي سلمى جبران؟
السؤال عام جدًّا، ولكنّي أقول: أنا إنسانة أمارس صراع البقاء منذ ولادتي وأصبح ذلك جزءًا من مبناي الدّاخلي الذاتي نفسيًّا وشعوريًّا وفكريًّا، وأرى أنّ هذه الحالة تنعكس عليّ حتى جسديًّا. نجحت في كل مراحل حياتي أن أتصاحب مع الألم والحزن ومع كلّ صعوبات الحياة التي واجهتها والتي أحيانًا اخترتها وأحيانًا أخرى اختارتني. كَوني أُمًّا عصف بحياتي عصفًا غير اعتيادي بسبب ظروف استثنائيّة عشتها ولا أريد أن أكتب عنها، أو أن أُحلِّلَها لأنّني أرى أنني إن فعلتُ ذلك فأنا أستحضرُها ولستُ أُجيد استحضار الأرواح!
أُحبُّ في نفسي بساطتي التي مكّنتني في غالب الأحيان أن أرى الأمور على بساطتها وبدائيّتها ممّا جعلني أصل إلى عمقها وأبقى هناك طويلًا حتّى أتعب أو حتّى أصل إلى سراب! أقدِّس الإنسان روحًا ونفسًا ويطول تأمُّلي في سبُل ممارسته الحياة حتّى أملّ!
بالنسبة لتحصيلي الدّراسي والمهني فهو يشبهني تمامًا: طمحت بالوصول إلى لقب ومهنة ثمّ لقب ثانٍ ومهنة أخرى وعندما وصلت شعرت أنّني أعود إلى نفسي وقرّرتُ أن "أربح نفسي... دون أن أربح العالم"!
حدثينا عن بداياتك الشعرية، وما هي المؤثرات في تكوين تجربتك الإبداعية؟
بدأت كتابة الشِّعر في جيل 12 عامًا ولكنّني لم أحتفظ بما كتبت، فقط الآن أفهم حكمة القدر في جرياني الدّائم وعدم احتفاظي بـ "تحف أثريّة" لا مكان لها في آني. تربّيت على أصوات الزّجل والمناجزات الشّعريّة والتغنّي بالمتنبي و"أبو فراس الحمداني" والجواهري وسليمان العيسى و(أبو سلمى). وأكثر من أثّر بي وجعلني أحلّق في أجواء سماواته هو جبران خليل جبران حيث انتشيتُ هناك بالحب والرّوحانيات والآلام المقدّسة. بعد هذه المرحلة لم أكتب شعرًا لفترة غير قليلة ولكنني عشت شعرًا كتبه لي الحب المعمّد بالألم وهذا الشِّعر الذي سكن كل خلاياي كنتُ أسمعه في داخلي وكَتبتُ بعضًا منه في المرحلة التّالية.
الكتابة ماذا تعني لك، وهل لك أي طقوس خاصة؟
الكتابة هي لسان الذّات أو لغة النفس. الكتابة في كل مراحل حياتي هي علامة وجودي وتواصلي مع نفسي ومع واقع حياتي. لكل حالة كتابة طقوسها الخاصّة وكل الطقوس تنبع من حالة هدوء وتوحُّد تتجلّى في حوار مع الذّات يهدف إلى حوار مع الوجود ومع الدُّنيا.
لمن تقرأ سلمى جبران، وماذا تقرأ، ومن يعجبك من الشعراء العرب المعاصرين؟
حاليًّا أقرأ روايات تكشف عن أعماق ذاتية إنسانية مثل: "العطر" لزوسكيند" "ذاكرة غانياتي الحزينات" لجابريئيل ماركيز" "الغريبة" لمليكة أوفقير" "صمت الفراشات" لليلى عثمان" "إنانة والنّهر" لحليم بركات" "سيّدة المقام" و"طوق الياسمين" لواسيني الأعرج وطبعًا "باب الشمس" لإلياس خوري، قرأتها مرّتين على الأقلّ، والكثير من الرّوايات الأخرى التي تكشف خبايا النفس البشريّة. أقرأ أيضًا الأدبيات المهنية العلاجيّة، مثلًا إرفين يالوم، فرجينيا ساتير ووين داير.
وعن الشعراء العرب المعاصرين، فأنا عشت شعر محمود درويش وأعتبره السّماء التي تغطي الشّعر العربي الحديث وتنقله إلى كونيّة خاصّة متكاملة خالدة لا تعترف بالعدَم. وكذلك يعجبني شعر راشد حسين وحنا إبراهيم وسميح صبّاغ وحسين مهنّا وتوفيق زياد وسالم جبران. ولكنّني شربت قبلهم من نبع جبران ونزار قبّاني وعبد الكريم الكرمي وسليمان العيسى ومعروف الرصافي وإيليا أبو ماضي والجواهري وغيرهم.
الحركة الثقافية في الداخل الفلسطيني كيف تقيمينها، وهل هي قادرة على استيعاب كل التجارب الإبداعية؟
بما أنّني أومن بالفردية وخصوصيّات الفرد، فأنا أُتابع أفرادًا أثروا بي وبالآخرين وأثاروا حب استطلاعنا لاكتشاف قدراتنا الذّاتية وقدرات الآخرين وسكبوا نورًا على مواطن الجمال والحرية في العالم. لذلك ليس بمقدوري تقييم أية حركة ثقافية ولكنني مدينة لكلّ من ساعدني على الحفاظ على جذوري والبقاء على قيد الوعي وعلى قيد الحريّة وعلى قيد الحياة. التجارب الإبداعيّة لا تأذن أحدًا بالدخول إلى الوعي الثقافي العام وهي "تملك نفسها ولا تريد أن أحداً يملكها" مثل المحبة الجبرانيّة، ولذلك فالقدرة على استيعابها، في أي مكان أو زمان، هي قدرة لانهائيّة.
حركة النقد في بلادنا، ما رأيك فيها؟ وهل للعلاقات الشخصية أثر في الكتابة النقدية؟
لم أقصد أن أقرأ نقدًا أو أن أتابع "الحركة النّقديّة" ولكن من خلال اطلاعي على مجموعة كبيرة من المقالات النّقديّة أدركت خصوصيّة النّقد في بلادنا وخضوعه إلى معايير عدّة أحدها "القرب من الصّحْن". ولكن طبعا هناك من النقاد المحليين، أمثال شاكر فريد حسن، مَن أعطى حقًّا وأوجد مساحةً ل"البعيدين عن الصّحْن". لم أقرأ أدبيات نقد أكاديميّة وأنا على ثقة أنّ هناك نقدًا ذا مصداقية في هذه الأدبيّات، رغم أنّ العلاقات الشخصيّة في مجتمعنا تطوّرت و"تعصرنت" من علاقات قبليّة حمائليّة إلى علاقات حزبيّة عقائديّة أعجز عن تحليلها وأظن أنّها تؤثِّر بشكل أو بآخر على الكتابة النّقديّة.
هل لدينا شعر مقاومة فلسطيني اليوم، أم أنه انحسر وتلاشى؟
أعتقد أن من أبرز قصائد المقاومة كانت قصيدة: "سجِّل أنا عربي" وأذكر أنها كانت في حينه إثبات وجود وحق، ولكن تنكُّر محمود درويش التام لها كان صارخًا و"لاعب النّرد" تجاوزتها بقرون وأبعدتها. أي حقّ أرجعه شعر المقاومة؟!! الشعر تعبير عن المشاعر وعما يدور في كياننا ووجودنا- ولذلك مجرّد التعبير هو مقاومة للعدم وللموت. محمود درويش قاوم العبودية الذاتية وحرر نفسه وارتفع إلى الكونية الإنسانية مهملًا كل قيد نضعه حول أنفسنا أو يضعه حولنا المضطهِد. بعضهم امتلك "لقب" المقاومة مقترضًا إياه من المضطهِد نفسِه ومدينًا له به ... وسألتني سابقًا عن ظاهرة "صناعة النجوم الأدبية"؟!! وأجيب: هل كان "شعر المقاومة" ظاهرة أم حالة منشودة أم موجودة!!؟
ما هي الموضوعات التي تطرقت إليها في مجاميعك الشعرية؟
الحزن- الفقدان- الحب- القبليّة- التقاليد الاجتماعيّة والعائليّة- العقليّة الأبويّة الذّكوريّة- لا الأمومة- التعامل مع الظلم والاضطهاد- التناقضات في التعامل مع المرأة- ظواهر النرجسيّة الذكوريّة ضد المرأة- الوحدة- الغربة- المحبّة- التمرُّد- الحلم- الصدق مع الذّات ومع الآخر- الوعي- اللاوعي- الروح- الحرّية- المعاناة- الحنين- الموت- الصمت- الحوار مع الذّات- الجنون- اللغة والحروف- الضعف- البدائيّة- الوطن كحلم ذاتي.
ماذا يعني لك الحب، الوطن، الغربة، وكيف تتجلى هذه المفردات في قصائدك؟
الحب هو حالة للمشاعر لا تعرف العدم، وفيها ينمو الأطيَب في الذّات والأطيَب في الآخر.
الوطن هو الوجود الآمن للنفس في المكان والزمان المتاحين وفي المساحة الذّاتية الخاصّة. والغربة هي الوجود في مكان وزمن غير آمنين وعيش صراع البقاء بشكل دائم. فالغربة والوطن بالنسبة لي حالتان متزامنتان وغير متناقضتين في البعد الذّاتي الفردي. أما الوطن بالمفهوم السياسي القومي الاجتماعي فهو مفردة جنّنتني على مدى عقود ولم أفهم منها غير لغتي التي أعشقها.
تتجلّى هذه المفردات في القصائد التالية:
متزامنتان وغير متناقضتين في البعد الذّاتي الفردي. أما الوطن بالمفهوم السياسي القومي الاجتماعي فهو مفردة جنّنتني على مدى عقود ولم أفهم منها غير لغتي التي أعشقها.