ادب وفن

المنظومة الفكرية في الرواية / جاسم عاصي

يعمل الروائي يوسف زيدان على معالجة المنظومات الفكرية في رواياته. ولذلك يتخذ من التاريخ متناً للدخول إلى هذه الثيمة، عبر معالجة صراعها التاريخي من خلال صراعها الآني.
بمعنى أنه يربط عبر استعانته بالنموذج، ما يمكّنه من التعبير عن هموم عصره. ولعل رواياته "عزازيل، النبطي" أنموذجان عكسا صراع المنظومات الفكرية عبر ميدان الحياة، ومنها صراع الأديان، وهيمنة منظومة السلفية الدينية ووقوفها بوجه حداثة الوجود. كذلك انعكس هذا في روايته "ظِل الأفعى" وهي من بواكير كتاباته. فقد عمل من خلالها على الدخول إلى العام من خلال الخاص، ومن الجزئي إلى الكلي. لكنه بطبيعة الحال، وما يقتضيه العمل الروائي باعتباره يحتوي أحداثاً، لم يغفل الجوانب الأخرى، ومنها الجانب النفسي مثلاً. فقد عالجه بأسلوب نادر، أي أنه استند على الفعل ورد الفعل للشخصيات وهي "الزوجة، الزوج ، الجد، الأم" وقد استعان الكاتب بمفردات التاريخ لمعالجة صراع الحاضر، وحصراً صراع سلطة الأنوثة مع سلطة البطريارك في التاريخ، منذ نزول "آدم وحواء" إلى الأرض. هذا الصراع أسفر عن مستويات، انحصرت بين صراع الجد مع الأم الذي أسقطه على الحفيدة، من باب استعادة القيمة للجد إزاء حداثة فكر الأم من جهة، وعلاقة الحفيدة والزوج غير المتكافئة من جهة ثانية. كذلك العلاقة الحسّية والمعرفية بين الأم وابنتها ثالثاً. وكل هذا أسفر عن ظاهرة وضع الحفيدة وفق مقامها الفكري والاجتماعي والأسري في موقف الذات الأنثوية المسلوبة الموقع، ولا أقول مسلوبة الإرادة، لأنها وأمها تتمتعان بذات قوية. وهي ذات استندت إلى التاريخ للخروج بمفاهيم تسند أحقية الأنثى في التاريخ، ليس من باب سلطة القوة، بل من باب القدرة المنتجة للنوع. لذا نجد الحفيدة وبالتوسل إلى معرفة الأم بالتاريخ، قد تلبستها صورة وذات الإلهة "عشتار" وراحت تردد ما كانت تردده الإلهة من خواطر شعرية، التي هي بمثابة تحقيق لوجودها. بمعنى اتخذت الزوجة "الحفيدة" مصد المعرفة، إزاء أمية الزوج وتفاهته. وهذا فعلاً قد تحقق من خلال اغتصاب الزوجة سريرياً. أقول اغتصاب أمام حق الزوج في الممارسة الجنسية، بسبب عدم رغبة الزوجة على مثل هذه المواقعة. وبأسلوب التخدير المراوغ استطاع الزوج مواقعتاه جنسياً، أي اغتصابها. بمعنى أكد على فشله في إدارة الحياة الزوجية، بسبب أميّته وجهله المعرفي وتجربته الضيقة في الحياة. لذا نجد أن الزوجة تنزع إلى إنهاء تلك العلاقة، والنزوع إلى الهجرة. أي الاصطفاف مع الأم معرفياً. أرى في الرواية انعكاس الرؤى الأسطورية والتاريخية، اللذين قادا إلى الرؤى الفلسفية الخالصة، والمعنية بالوجود في التاريخ.
لقد كان الصراع قد ابتدأ في الرواية عبر علاقة الجد مع ابنته المهاجرة. والخلاف قد ارتقى بسبب تمثله الخالص للحُقب، أي الجد يمثل الساكن في التاريخ، والبنت تمثل المتحرك. وهو صراع أزلي بين القديم والحداثة. وفي الرواية قاد إلى القطيعة، مقابل عمل الجد على التعويض في شخص الحفيدة. وذلك بصياغتها على وفق رؤاه. لكن الحفيدة وعبر علاقتها بالأم بواسطة رسائل أمها حصلت على إجابات ضمنية على أسئلتها، بالرغم من أن الأم مفهوما كانت تعارض مسألة ضرورة حصول السؤال على جواب. فالمهم هو الاستمرار في طرح الأسئلة، لأنها القادرة على صياغة الشخصية. وللتنبه إلى الحوار الذي دار بين الزوج والزوجة، لأنه يؤكد على المعرفة واستحالتها وهو يؤشر مديات الفرق بينهما الذي قاد إلى القطيعة بين الزوجين:
" ــ حبيبتي إيه الكتاب اللي معاك كده؟
ــ ترانيم الربات المندثرة .
ــ آه .. بالفرنسية! إيه الجديد في الكتاب؟
ــ فيه اللي فيه!
ــ يعني إيه؟
ــ حاجات كثيرة".
وتتوالى مثل هذه الحوارات المدعومة بمقاطع من الشعر والتراتيل السومرية، التي من خلالها تؤكد على جهل الزوج، واضمحلال سلطته الحالية. فالسلطة أو وجود الذات يتحقق من خلال المعرفة الجزئية والكلية للوجود، لا البقاء في الهامش، وفرض سيطرة الذات الذكورية التي انقلب وبواسطتها منطق التاريخ وحوّلها من أحقية وجود المرأة إلى أحقية وجود الرجل. وهذا قد تحقق منذ أن خلق الله الرجل حصراً على صورته، وألحق حوّاء من ضلعه المعوّج لتكون مؤنسة له كما تقول قصص الأديان. فهي ملحقة بالرغم من وجودها المنتج في الحياة. وما إلى ذلك من أفكار وعيّنات تاريخية ومثيولوجية وأسطورية خالصة، والتي تطرقت لها الرواية باقتدار وأثّرت في مجريات أحداثها، مثل طبيعة وجود المرأة من وجهة نظر الزوج، وعلاقتها الجنسية باعتبارها مجال تفريغ لشهوة الرجل. وهذا انسحب بطبيعة الحال، وعلى وفق التراكم التاريخي إلى وضع المرأة في خدرها، ثم منزوية في دارها. أي مقموعة.
إن الفرق بين الزوج والزوجة هو فرق معرفي وحسّي خالص، فحين سألها "حبيبتي، ليه نظرتك بعيدة عني كده"؟، لم تجب، لكنها وعلى وفق أسلوب الكاتب أجابت من خلال المنولوج الذاتي "كل ما بي بعيداً عنك. ماذا تريد من نظراتي، إنني أنظر الآن إليّ، فلا أراك منعسكاً على مرآتي، لا أراك إلا منعكساً على صفحة رغبتك المحمومة"، وهذه القطيعة تتطور إلى قطيعة حتى لحظة الاغتصاب الجنسي الذي عمل كنتيجة له إلى قطيعة تامة، والنزوع إلى الاصطفاف مع الأم. وهذا يظهر جلياً من خلال قراءة الزوج لرسائل الأم التي ترشح معرفة بالتاريخ وثوابته، كذلك بروز معارف جديدة للزوج عن رمز الأفعى في التاريخ وما جرى عليها من متغيرات، خاصة تشبيه المرأة بالأفعى وهو دال على منطق يحط من قيمة المرأة من وجهة نظر الرجل، لكنه في حقيقة الأمر هو نوع من الاقتراب من دلالة رمز الأفعى في التاريخ، وما جرى عليه من استبدال لصالح الرجل وسلطته المرغِمة للأنثى.
إن رواية "ظِل الأفعى" رواية فكرية خالصة، لكنها استعانت بالحياة والتاريخ وتاريخ الأساطير كداعمة لوجهة النظر في صراع المنظومتين الأساسيتين في التاريخ؛ منظومة الذكورة والأنوثة، وما لحق هذا الصراع من متغيرات في التاريخ، وصل كثيرا إلى الدمار كالحروب والفرقة بين الشعوب.