ادب وفن

«كلمات سبارتكوس الاخيرة».. دراسة أسلوبية :قصيدة للشاعر أمل دنقل / نائل الزامل

يحيل عنوان القصيدة الى مفاهيم نصية تسبق القراءة، وتقدم رؤى استفتاح للنص من خلال عودة الاسم "سبارتكوس" الثوري الأول في تاريخ البشرية في وجه العبودية بكافة أصنافها وأنواعها، وكون العنوان أحال الى اشارة وجودية لآخر كلمات سبارتكوس، فأننا امام وصية ثورية ولاسيما أن العنوان تعامل مع الشخصية بوصفها معروفة للجميع.
أولا : أسلوبية العنوان:
أ-المستوى النحوي: يتكون العنوان من مقطعين يشكلان جملة خبرية تامة المعنى بذاتها، وفي الوقت نفسه تشير الى احالة ما هو ات، فالمقطع الأول المتكون من المضاف والمضاف اليه يمثل نقطة اللقاء الاولى للمبتدأ، ولاسيما أن المبتدأ هو متواطؤ عليه في المعرفة، ولا يكون المبتدأ نكرة، وجاء مبتدأ القصيدة نكرة معرفا بالإضافة، وتركيب نحوي يؤكد أهمية الاسم الأعجمي "سبارتكوس" في تعريف النكرة "كلمات" التي لا يتم معناها ولا تستحق مكانتها دون وجود البطل سبارتكوس، أما الخبر فيأتي معرفا بأل التعريف، لكنه ليس خبرا قطعيا بقدر ما يمثله من فتح افق لما هو آت، أي أن الخبر لم يقتل معنى المبتدأ بل جعل له امتدادا اوسع وبحاجة الى عدد من التراكيب التي ستعلمنا ما هي الأخيرة من الكلمات. يحيل المستوى النحوي الى تمام في اللغة وحاجة في المعنى لم تتم.
ب- المستوى الصوتي: لا يحيل العنوان الى موسيقى ايقاعية في الاوزان العربية، لكنه لا يخفي تمكنه من موسيقاه الداخلية المقتربة من التقديم الرسمي للخطابة، فالصوت بشكله الكلي، المقسوم الى مقطعين لفظيين، ينتهي الاول بالسين كوحدة توقف ساكنة، تخضع للجر محلا وليس لفظا بالإضافة، والكلمات الثلاث التي يتكون منها العنوان، تحتوي كل من الكلمة الثانية والثالثة على حرفي مد، في حين جاءت الكلمة الأولى بحرف مد واحد، مما منح الاتساق الموسيقي للفظة الأعجمية أثرا تقبليا للمزاج العربي، في حين جعل من المقطع الثاني المتمثل بكلمة "الاخيرة" ختاما بموسيقى في بدايتها وختامها، كما تمثل كل كلمة من الكلمات الثلاث ما يشابه القافية المطلقة التي تسبق بحرف مد.
نجد العنوان قد حذف من الاسم الاعجمي، حرف المد الثاني فالمتعارف عليه انه يلفظ "سبارتاكوس" لكن العنوان قد حذف الالف من وسط الكلمة فتحولت الى "سبارتكوس"، وهنا حول اللفظة من المد الوسطي الذي يؤخر النطق في استرخائه الى جعل الكلمة اكثر تماسكا وحزما في لفت الانتباه للصوت، كون المد الكثير يؤدي الى التنغم والهدوء.
ت- المستوى المعجمي والدلالي: تمثل الكلمة الأولى في ثريا النص "كلمات" جمع لمفردة "كلمة"، اذا تشير الى جمع محدد يختلف مدلولها عن لفظة "كلام" التي تشير الى الاسترسال والترابط وفق نظام محدد، فالكلمات في مدلولها الاول لا تؤكد ترابط الاشياء وسيرها باتجاه واحد، وانما توكد قيام المفردة الواحدة بذاتها وتملكها لمدلولها والاشارة التي يحملها معه ذلك المدلول. كما تحيل مفردة "كلمات" الى القلة والتحديد وهذه القلة تمنح المفردة أهمية قصوى فيما لو أتم استبدالها بمفردة أخرى، فلن نحصل على هذا الحصر والاهتمام.
تمثل المفردة الثانية سبارتكوس اشارة الى حوادث تاريخية لثورة المظلومين والجياع، أكثر من مدلولها المرتبط باسم شخصية محددة، وهي هنا تستحضر الرمز الثوري المقاوم والمدافع الى اخر رمق من اجل قضيته، ويشكل الرمز الثائر والضحية في صورة الشهيد، والموقف هنا في الموت من اجل القضية، يرتبط بدلالة الكلمات بمفهومها المحدد عددا وليس معنى.
ان لفظة "الاخيرة" مرتبطة بالانقطاع والتوقف، فأخر الشيء هو انتهاؤه، وجاءت بعلاقة ارتباطية مع الكلمات، وهي تؤكد ان بعد هذه الكلمات لم ينطق سبارتكوس اي كلام آخر، وكلمة الاخير، أي ما يأتي بعد شيء يسبقه وكان هو مسك الختام، اذ لا يتبعه شيء آخر، وهذا ما يشير اليه العنوان.
توكد دلالة العنوان أننا أمام نص وصية لسبارتكوس قالها قبيل وفاته، وهو ما يمنح الكلام قدسية الوصية لشهيد الحرية والثورة، فضلا عن كونها تمثل امتدادا لهذه القضية التي اطلقها سبارتكوس، فالكلمات الأخيرة لابد أنها جاءت من أرض المعركة التي وقع فيها وهو يدافع عن حقوق المستضعفين والفقراء ويطالب بان يعاملوا كبقية الناس، وهنا يأخذ العنوان شكل الوثيقة التاريخية الراصدة للحظات الأخيرة من حياة ثورة انسانية كاملة تم التعبير عنها بلسان قائدها.
ج - العناوين الداخلية للنص:
تتكون القصيدة من اربعة مقاطع، وقد حدد النص هذه المقاطع بعناوين ثانوية، تتكون بكلمة "مزج" ثم يلحقها برقم كتابي، فتبدأ بمزج أول، وتسلسل الى مزج رابع. والمزج يحمل مدلول التداخل والتحول الى شيء متجانس موحد، أكثر من أي كلمة تشبهه أخرى كـ "خلط، دمج، تداخل.."، فالكلمة تؤكد توحدا معينا في مواقف عدة، وهنا يكون المزج في استعادة صورة الصلب الذي تعرض له سبارتكوس ورفاقه بعد خسارة معركتهم الاخيرة، هذا الصلب لن يتوقف في زمن معين بل سيمتد ويستفحل ليطال كل المآسي التي تلحق بالثوريين، فالمزج هنا هو توحيد لهذا الموقف الانساني الساعي لرفض الاستبداد والعبودية.
ان هذا المزج هو ما يمنح النص هوية العبور لأزمنة متعددة وبالوقوف على شخصيات ثورية خالقا فضاءً سرديا متكاملا، فالرموز التي يستدعيها النص من خلال المزج، لا تحضر مجردة، بل تستصحب معها ازمنتها واماكنها، التي تحيل الى مزج متبادل في الاماكن والأزمنة، فالرمز يتحول بفاعلية العنوان الثانوي الى عصرنة لكن قضيته تبقى واحدة وهي الحرية ورفض الاستلاب والاستبداد، والطموح بحياة حرة.
ثانيا: أسلوبية النص:
أ-انزياح الـ "لا" للفرد. والـ "نعم" للقطيع: يأخذ النص بشكل الصراع بين اللا والنعم، الشاعر يعود بها الى اطرها الاولى، فالشيطان أول من أطلق "لا"، لذا يكن متفردا، وهو ما يتضح من خلال الوصف له بالمفرد، كون المفرد يأتي من التفرد، وبين الجمع الذي يأخذ من الجماعة، والجماعة هنا تحضر بفعلها المطيع المقتربة من شكل القطيع في التعامل مع الامر، اذا لا تفرد للقطيع، فيترادف المفرد مع الموقف الرافض، والنعم مع الموقف الخانع، ومن ثم فان الموقف الحقيقي يتجلى في صورة من قالوا نعم، اكثر منه في صورة رفض الأمر، على الرغم من أن الرافض لا يعمل والخانع هو من قام بالعمل.
"مزج أول"
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال لا في وجه من قالوا نعم
من قال لا .. لم يمت
وظل روحا ابدية الالم!! "
يحيل الصراع الى مزج "فرد + لا" بالضد من "نعم + قطيع" وهنا الفرد هو يخلق الـ "لا" في حين ان النعم هي تخلق القطيع، لذلك تم تقديم المسبب، ويحضر الخلود كمعادل موضوعي للمجد، "المجد الرافض = الخلود المؤلم"، ويقابل ذلك المسكوت عنه او التضاد الغائب، "الحياة الهادئة = الموت الخانع".
ويظهر الصراع جليا بين الأنا المفرد والجمع القطيع في المزج الثاني، فيتحول الضمير من الأنا الى المتكلم، ويعبر عن عذاباته الظاهرة أمام العيان، فتكون صورة المعلق على المشانق هي صورة الـ "لا" التي لم تنحن الا وهي ميتة:
"مزج ثان:
معلق انا على مشانق الصباح
وجبهتي بالموت محنية
لأنّني لم احنها .. حية!"
وهنا يأتي الموت كعقوبة زائلة اما المجد، كون المشانق لم تكن للانا وحده بل للصباح، وما الانا الرافضة الا واحدة من هذه الاشراقات الصباحية، حتى ان مدلول الانحناء للجبهة جاء في البيت الثاني فاقدا للإرادة "محنية"، كما هو الموت، لكنه استحال فعلا مكتمل الاصرار وتام الارادة حين عاد المدلول الى الانا فسبقت بنفي قوي وفعل منسوب الى الذات المتكلمة "لم أحنها"، وهذا النفي المسند للمتكلم امتداد واضح لعلاقة "فرد + لا"، وتأتي الجملة الاعتراضية "- بالموت " توكيدا على مشانق الصباح، حتى أن حذفها لا يربك النص، لكن النص يحيل الى خلود اهم من الحياة، وحياة اسوأ من الموت، فيتحول الموت كحادث اعتراضي وليس كنهاية لسبارتكوس أو جميع من يمثلهم هذا الرمز الساعي للحرية، اذا يتحول المجد الى حياة حقيقية ثورية أو موت اعتراضي نابع من قتل الاشراق والنور، لذا جاء الموت في النص ليس أصيلا أو معادلا للمشانق، فالانحناء وعدمه هو المعادل النصي الذي يقوده الموقف، مما أحال الاهمية لانحناء الجبهة وليس لاختناق الرقبة وهو الفعل المؤدي في المشنقة للموت، اذ تأخذ دلالة "الجبهة = الانحناء" أهمية قصوى في النص بين جزء من الجسد الانساني، وتحتقر الفعل الاعتراضي للموت "العنق = المشنقة"، وهذه الجدلية بين جزأين من الجسد الانساني تحيل الى مدلولات النص، فالعنق يعادل استمرار الحياة، بينما الجبهة تعادل الكرامة، هنا يتضح الفارق بين جذور الـ "نعم" الخانعة، وجذور الـ "لا" الأبية الممانعة، في ضدية "الذل x الكرامة" يكون الموت حادثا عرضيا يوضع بين شارحتين اشارة الى ان وجوده وعدمه سواء "- بالموت " فالكل حتما سيمرون به، لذا ان العامل الاهم لدى القطيع، والذي تتم السيطرة به عليهم وهو "الموت"، اذ يساقون خوفا من الوقوع به الآن، وخوفا مما بعده، هو لا يمر في ذهن الرمز سبارتكوس،
"يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الاسكندر الاكبر:
لا تخجلوا .. ولترفعوا عيونكم اليّ"
تظهر علاقة الانحناء واضحة مع القطيع "مطرقين، منحدرين، لترفعوا عيونكم، لا تخجلوا"، ورغم تكرار المشانق هنا لكنها لم ترتبط بالصباحات بل توثقت علاقتها في المساء، والفارق بين مشانق الصباح، التي ينصبها القيصر للثوار، وبين مشانق القيصر التي يضعها للعبيد، الذين يموتون دفاعا عن عرشه واثباتا لعبوديتهم، هو الفارق في الموت بين الاشراق الصباحي والافول الليلي. وتبقى علاقة الجبين والرقبة قائمة، فالرقبة الذليلة تخشى حتى ان تنظر الى المصلوب من اجل الصباح، وتستمر الأنا للمتكلم مالكة الارادة، في حين الجمع للقطيع فاقد الارادة، لكن الانا هنا ليست فرويدية، وبعيدة تماما عن التورم، بل هي تبذل من اجل الاخرين من اجل حلم بيوم سعيد، وهو ما يستدعيها الى مطالبة القطيع بان ترفع راسها مرة:
" فلترفعوا عيونكم اليّ
لربما .. اذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ
يبتسم الفناء داخلي .. لأنكم رفعتم راسكم .. مرّة! "
ودلالة التجربة برفع الراس تشير الى تجربة ان لا ينحني الجبين، لكن الفارق بينهما، هو ان الراس متحرك ممكن ان يرفع وينحدر مرة اخرى، لكن الجبين ثابت اذا ما رفع لا ينحني الا بالموت، وهو انحناء ميكانيكي وليس انحناء فعليا، وهذه الدعوة الواضحة للعبيد بان يتطلعوا مرة الى ما سيخسرون لو كانوا احرارا، هي كسر لتقديس الرمز والابتعاد عن افعاله، الانا هنا لا تطالب بأن تكون رمزا ابدا، بقدر سعيها لتكون سلوكا لحياة تخلو من العبودية والاستغلال، ولا سيما وهي تذكرهم بانهم لن يخسروا شيئا، فهذه الجثة المصلوبة في المشنقة لم تنحن، حتى وان تم التمثيل بها، فالأمر لا يعدوا الا إركاعا واخضاعا للعبيد فقط، اما امكانية الانحناء بعد الموت فهي مالم تكن للقيصر ولا يستطع حتى تخيلها، وان عبث بالجثث.