ادب وفن

في ذكرى القاص والروائي نعمان مجيد الذاكرة والمكان / جاسم عاصي

الكتابة عن نصوص نعمان مجيد تعني الاشتباك مع المراحل التي مر بها السرد القصصي في العراق، على أن تكون الكتابة متحلية بالأمانة التامّة، دون تعاطف وجاهزية نقدية كما ألِفنا. فالقاص والروائي ينتمي إلى حقبة السبعينيات من القرن المنصرم، وهو واحد ممن ظهروا ضمن جيل الستينيات، وتكشفت رؤاه في السبعينيات، بسبب كثافة الأصوات في حقبة الستينيات واختلاط الأجواء في ممارسة التجريب في الكتابة، حيث اختلطت التجارب مع بعضها، مما ضيّع كتابات مهمة.
من هذا يوصف كتّاب المرحلة تلك "بالجيل الضائع" فهم مجموعة من الكتّاب ضاعوا بين الفعلي والمفتعل. كذلك لأنه من مجموع كتّاب ظهرت على كتاباتهم خاصية الواقعية المجربة للأنماط والأساليب من الكتابة. كما أنهم طيف أدبي لم يرافقهم الإعلام. لذا تبلورت تجاربهم ما بعد هذه الفترة المحتدمة بالتجارب. ونعمان مجيد ممن واكب التطورات على الواقع، بغض النظر عن انتكاساته وضعفه وتزويره هنا وهناك من مفاصل الحياة. فهو أخذ بالمبدأ العام من الرؤى. فأنتج مجموعة كُتب في القصة. غير أنه خاض في تجربة كتابة الرواية. وابتدأها برواية "أخوة الكاكي" وهي رواية حرب. وما يميّزها كوّنها على موقف من فعل الحرب المدمر، وقد وجهت نقدها لما أنتجته من ظواهر سلبية، أستطيع أن أصف كاتبها بالجريء في الكتابة. أما روايته الثانية "العائد من الربع الخالي" فأنها هي الأخرى سارت على النمط ذاته . صحيح أنها طُبعت بعد 2003 لكنها نُشرت على شكل حلقات في الصُحف آنذاك. ومحتواها يُسجَّل لصالح الكاتب، الذي ابتعد عن تمجيد الحرب. وهنا لا بد من الهمس للذين يدعون إلى حرق كل نتاج حقبة الثمانينيات. وهو تجن على كل تاريخ الأدب في العراق، حين يرتبط بمزاج السياسي المتشنج.
رواية "العائد من الربع الخالي" يُسفر عنوانها عن دلالة توصيف المكان المغادَر، ونعته بـ "الربع الخالي" بما لهذا المكان من صورة حفل بها التاريخ الجمعي من روايات شفاهية عن طبيعة الصحراء وقفرها. لذا فهو منفى. وحين نؤكد بالفحص لكل سرديات "نعمان" تستوقفنا صورة العائد من غربته المكانية. وهي نوع من ارتباط الذات بالمكان. فنماذجه عائدة إلى المكان، بعد غيبة طويلة. والمكان مُحدد بأصالته التاريخية "النفسية، الاجتماعية" لذا نعرف من خلال العودة؛ أن نموذجه عائد إلى المكان بحثاً عن مواطن الأصالة في كل شيء. وهذا يكشف عن فشل المغامرة في الابتعاد عن المكان. ويكون البحث عن الأصالة ضمن اشكالية تناسخ الشخصية، كما يراها نموذجه. وهذا خص تماثل الشخصية المُستعيدة لمكانها والأخص احرام صفات "الأب، الجد والجدّة" مثلاً. وهي اشكالية أخلاقية ــ فكرية ــ اجتماعية. يُحددها الانتماء إلى المكان. وطبيعي يتراءى المكان بعناصره الموروثة والمتجددة. أي أن النموذج بإزاء متغيرات محيّت وما زالت تمحي ما تبقى من أسس المكان. أي الزحف على الأصالة بحجة التجديد والابتكار. ذلك لأن نموذجه تحتشد في ذاكرته الصورة المنقولة عن الأم والأب والمتخيل الذاتي عبر تماهي التوصيف والرؤى الذاتية للأمكنة. إذاً تكون محنة النموذج هي محنة مكانية، تنتج محنة أخلاقية. ولعل لرواية "العائد" جملة توصيفات لا بد من ذكرها لنحدد مساحة القراءة:
-الذاكرة اليقظة : وهي في أشد حيويتها. وبواسطتها نستدل على مواقع المكان، وطبيعة البنى المؤسّسة فيه. ثم يأتي التذكر حين يحل النموذج في المكان. فهو بالرغم من محو أثاره ومعالمه، لكن الاستدلال عليه حتمته الحاجة النفسية، لاستعادة التوازن في الوجود الاجتماعي المعزز بأسس المكان.
* التاريخ العام والخاص كبنية مؤسسة للعلاقات الاجتماعية ضمن الزمن المسرود في الرواية. فقد اكتملت صحيفته من خلال تثبيت كل المشاهِد التي من شأنها تحقيق الموازنة في ما تفرزه الذاكرة اليقظة. فالنموذج لا يملّ من البحث عن إشارات الاستدلال.
-المخيّال الذي يرفد الصورة التي عليها المسرودة شفاهياً، بتصورات مبنية على الإيمان بصورة "الأب والجد والجدّة" باعتبارهما مانحي النموذج قوة البنى التي أسسوا عليها اعتباراتهم الأسرية والاجتماعية. كذلك ومن خلال اتساع مخيّال النموذج نتوصل معه إلى درجة إيمانه بطروحات من سبقوه. فهو يستدل بأصغر المتبقيات من أجل الوصول إلى شاهِد على وجود الأب والجد والجدّة، أو العثور على الكليات بقناعات ذاتية.
* بناء الشخصية؛ وهو واحد من مرتكزات الكشف الحالي للماضي ، والحنين إليه. وهذا متأت من سببين، الأول: النموذج على مساحة من المعرفة. والثاني: على مساحة من الشعور بالغربة عن الأمكنة الي كان يعيش فيها. وهذا أنتج نوعا من الحنين الذي دفعه إلى تسقّط ما يستدل به عن المكان المغادَر.
الاستعارات والتماثلات؛ إذ نلحظ أن النموذج إنما يستعير الثوابت من الماضي وخصائصه، لتكون له دالّة على القناعة. كذلك توصله تلك الاستعارات إلى التماثل مع من سبقوه. والتماثل بالاسم والرؤى، أو محاولة نسخ الشخصية الحالية بمواصفات الشخصية الأول كالأب والجد والجدّة.
-الطقوس الشعبية؛ فالكاتب لا يحمّل نموذجه إلا ما تفرزه طقوس المحلة والمناسبات الدينية وطقوس البيئة الشعبية. وهي دالّات على عمق البنية الاجتماعية في المحلة التي يعود إليها النموذج ليرمم ذاكرته بما أحدثته الغربة من خروم على جدارها.
-المحلة؛ وهي خاصية ذاتية استذكارية، تعود بالنموذج إلى استقراره النفسي. وفي هذا نلاحظ أن الراوي يُسهب في وصف المكان، أي المحلة، سواء بما هو متبق من شواهدها، أو من خلال شطحات المخيّال السردي.
-التماثل يشمل "سلمان الجد + سلمان الحفيد" من جهة و"أمينة العلوية + أمينة البابلية" من جهة أخرى. هذه المتقابلات، لم تكن تشتغل على متقابلات رمزية، بقدر ما تُثير نوعا من المؤسَس والمراد تأسيسه من ثوابت على كل الأصعدة. إذاً هي نوع من اعادة البناء العام في المكان. ثم إعادة الاعتبار إلى كل ما يشكّل المكان "المحلة".
-الأصوات تشكل بنية السرد في الرواية، وهي أصوات متداخلة شكّلت بنية مجددة في السرد، كما هي مستويات البناء في قصصه وأقصد بها "المركز والهامش" أو "الأعلى والأسفل" في ترتيب المشهد القصصي. فكل صوت يستلهم الآخر ليضيف معنى جديداً أو تصوراً آخر للفعالية الاجتماعية أو الأسرية. وبالتالي هي دالّات تخص بنية الواقع بكل أطيافه ومستوياته.
-الأسطرة واحدة من الجهود التي بذلها الكاتب للعبور بالحدث من واقعيته إلى واقعيته السحرية عبر أسطرته. ويتم هذا عبر الاستفادة من طقسية الوجود الاجتماعي واحتفالاته الدائمة آنذاك، مقارنة بما هو عليه الحال في المكان.
-تجتمع في كل هذه المحركات لنص الرواية عناصر تتركز في عنصر مهم ومؤثر في الشخصية مباشرة. وهي خاصية المغادِر للمكان والعائد إليه. وأقصد بها البنية المشكلة بازدواجية "الريف × المدينة" باعتبارهما نقيضين يتحقق وجود النموذج بينهما. وهنا يكون الوجود القلق في المدينة يحمل دافع البحث عن مبررات العودة إلى الريف. إن الاشكالية بين المكانين لم تخلق عند الكاتب شخصية مزدوجة، بقدر ما يكون وجودها القلق خاضعا بحكم الحنين بمتعلقات البيئة الأولى. وهي قد تخضع للجينات المعرفية للمكان، كما حدثت لـ "سلمان الوادي" الحفيد متماثلاً مع "سلمان الوادي" الجد كذلك "أمينة العلوي" الجدّة و"أمنية البابلية" الزوجة. إنه نوع من ترميم الشرخ الذي أحدثته المدينة في تاريخ الشخصية المتمثلة بالمكان. وهذا الترميم بطبيعة الحال أثار أسئلة كثيرة في الرواية، وهي دليل على أن الحفيد لا يستقبل الأشياء على أنها ممكنات خالصة، بقدر ما يحتكم إلى طبيعة الذاكرة من جهة، وإلى طبيعة معارفه التي تشكّل شخصيته المعرفية من جهة أخرى.
-ولعل من بنيات الأسطرة ما وجد له متناً في رائحة نبات "الأواسي" ذي الصلة ألأنثوية الأسطورية . وقد استفاد منه في الكثير من المواقع للتعبير عن أصالة تلك العلاقة التي استنبتتها رائحته المقترنة بالروائح الزكية الأخرى. كذلك حدث هذا في الزواج الرمزي بفحل النخل كسراً للنبوءة بالموت. وقد كانت المقارنة من الناحية الأسطورية مقنعة ومقبولة، لأنها شددت عل كسر المألوف التراجيدي في الموت، أو القتل الرمزي.
-ونلاحظ على النص الروائي نوعا من الحبكة القصصية. وهذا شمل لغة السرد كوّنها راصدة للأفعال من جهة، وفي كوّنها مؤسِسة لفضاء شعري، أي شعرية السرد. والحبكة في النص متأتية من أنه ــ أي النص ــ تماثل بنيوياً وشكلاً مع نص القصة الطويلة. كما وأنه حافظ على التماسك عبر تعدد الأصوات، سواء المستذكرة أو المتخيّلة، والتي فرضتها حساسية النموذج. إن البناء للنص بناء قصصي حرص الكاتب على أن يغذي مساحته بالممكنات من الذاكرة الفردية والجمعية، بحيث وضعه موضع النص الطويل.
إن رواية "العائد من الربع الخالي" تمكّنت من التوفر على التماسك في بنائها الفني. ذلك متأت من قوة شدّها السردي والوصفي للمكان والأحاسيس، واحتشادها بما هو متمكن من رفد المشهد الروائي. "الماضي حاضراً" فعالية صعبة، لكن كاتب الرواية استطاع أن يخلق لها بناء متماسكاً كما كان في قصص "رائحة الأرض، لأعوام الحجرية، أعمق الساعات صمتاً".