ادب وفن

«سفينة آدم» تبحر في موج من الدموع / د. ماهر الكتيباني

عرضت مسرحية "سفينة آدم" على خشبة ورشة المسرح في قسم التربية الفنية بكلية الفنون الجميلة في بغداد مساء الاحد 17أيار الحالي.
بدءا أود الكشف عن أمر ليس بالسر، عندما قرأت نصوصا لـ علي عبد النبي الزيدي في سلسلة مسرحيات دوَّنها في كتاب، روجت لأمر، أنها لا تخرج عن نطاق فكرة تحطيم المحرمات، وانها تتراوح في تمظهراتها على دوران في محور يقود الى بؤرة واحدة تتأطر بالصرخة التي أحدثتها الحروب، وقد أحرقت في تنورها الما قبل والما بعد، بل ذهبت أبعد من ذلك انها لربما تصلح للقراءة أكثر منها للعرض، أو أن صعوبة صارمة تعترض التصدي في تفسير المتن ومعالجته اخراجيا، من حيث واقع التلقي الذي يفقد ايجابيته، بخاصة في حالة الفهم المغاير واسقاطها على خانة التضاد مع الشرائع ونواميسها، لكن أود الاعتراف أن تلك النظرة التي جبلت بها ذائقتي في تلقي نصوص الزيدي، قد ثبت بطلانها لأسباب عدة، منها أن وجهة نظري تلك ما هي الا انطباعات ابتدائية بعد أن شاهدت قبل أشهر في مهرجان جماعة المسرح المعاصر في البصرة عرض مسرحية "تحوير" لمخرجها الشاب "مصطفى الركابي".
مساء يوم الأحد 17أيار الجاري، تأكد لي بطلان انطباعي وعدم ثبوتيته، بمشاهدة عرض مسرحية "سفينة آدم" التي أخرجها الدكتور ياسين اسماعيل الكعبي، عن مسرحية لقاء رومانسي، للمؤلف العابر للقارات "علي عبد النبي الزيدي"، هذا الطائر الجنوبي الذي يحلق في سماء الحقيقة أفرد نصا مشفوعا بالعشق المتقطع الأطراف، تلك الفنتازيا الموجعة التي أحاطت بها رؤية المخرج الابداعية، الذي ظل أسير الشاعرية المطلقة للصورة التي تنسجها أحاسيس المؤلف، وليس ذلك بالخطأ، فالمؤلف نزف كلماته من جرح الوطن، المفجوع في كيانه ووجوده، المحترق بنار الحروب التي أدت الى كل تقاطع مع الوجود الأفقي والعمودي، ولعن كل ما يمكن أن تخلفه من انهيار وفك التعشق بنياط الحياة، السفينة تبحث عن عاشقين يكتمل فيهما العدد الذي يتيح لحياة أخرى أن تنجو من طوفان مقبل، والعشق يفترض وجود طرفين، أنثى وذكر، الأنثى المرأة، تنتظر معشوقها الغائر في دهاليز الغياب، وغيابه ما هو الا غياب لاحساسات أجيال كاملة مرغتها الحروب، وطحنت عظامها، "آدم" يحذر من طوفان قريب، وضرورة الاسراع بارتقاء السفينة، حضور الرجل المتعلق بأهداب غيابه الذهني وقد أسكره ضياع بلا افق، بل حتى الموتى تركوا قبورهم هربا من وطن يحيطه الطوفان الذي ينذر بختام فاصلة حياة ودنيا، ويقضي على الوفاء، وتلك مسميات المرأة التي تدور في فلك أسمائها، فهي حياة أظلمت ودنيا أدبرت، ووفاء بلا جدوى، المكان منطقة تشبه سطح مركب على أهبة الابحار، الرجل والمرأة يدوران في محور الترضي والقبول بواقع حال لا مناص من مغادرته. الرجل العاشق يغط في سكرة، والمرأة تحاول فك وتحرير روحه من قيد ذلك السجن الذي فرضه ربان السفينة "آدم"، وهو يبني سفنا جديدة، لدنيا جديدة لا تنتج الا حربا، الموت صنو الوجود، والوجود محاط بطوفانات متكررة.
ابتكر المخرج المتمكن موضوعة التبرير المرئي لمدلول المعنى في نص "الزيدي" الهائل في مكوناته الصورية، عبر الانكفاء على ماض خرب تسبب في حاضر مرتخ أدى إلى مستقبل مبهم، بمكونات بصرية أظهرت سفينة، وبمدخرات الضوء المنفصل والمتصل عبر أنابيب قربت الشكل الى السفينة، وحركة غير منقطعة شغلت حدود المكان، بجغرافيته الثابتة والمتحركة. وبقوة الحضور المهيمن للمثلين، بخاصة الكبيرة "شذى سالم" التي مررت بمرونتها الأخاذة شحناتها العاطفية، وبطبقات انفعالها الصوتي، التي خلخلت الوجدان وجعلته متراخيا منساقا لمشتغلاتها الأدائية، ودفقاتها الروحية، التي تسكن الروح بلا حواجز لردع تأثرك بصدقيتها، غير المكتوية بإيقونات الانفعال التقليدي، كل ما فيها يشتعل احساسا ليغذي شخصية الدور بحقيقة ما ترمي الى ايصاله رسائلها، شخصيتها تمتعت بحضور طاغ، يرادفها في توازن الأداء تألقا "خالد محمد مصطفى" بأسلوبه الفريد، الذي شكل التماعة نوعية، متفردا في طريقة أدائه، وقد خلق جوا من المرح الممزوج بالموت، والتهكم الممزوج بالدموع، وعكس واقع شخصية متهكمة، هو القطب الذي يصل ترنيمة العشق في ترنيمة الاغتراب، طوفان شحذ الانفعال، جاء مثل موج بلا انقطاع، فيما أجاد الممثلان الآخران دوريهما، "آدم" و"الميت" بشكل وضع معادلة العرض على ركائزها، على الرغم من بعض ما يمكن ان يتم الوقوف عنده سلبا توضيحا لوجهة نظر، لا تمثل غير رأي صاحبها.
يوم عراقي جديد يكشف الفنان عبره عن موقفه الوجودي.