ادب وفن

ثنائية الحياة والموت في مجموعة «رصاصة ليست للحرب» / محمد نوار

واحدة من المجاميع الشعرية التي صدرت حديثا الملفتة للانتباه هي "رصاصة ليست للحرب" للشاعر هلال كوتا، في البدء نريد أن نقف عند عتبة عنوان المجموعة، فمعلوم لدينا أن للرصاصة وظيفة واحدة هي القتل، وطبيعة هذا القتل تختلف من جانب إلى آخر من حيث الاستخدام.
فبالرغم من أن الوظيفة واحدة، وهي القتل غير أن الشاعر يقول هي ليست للحرب، اذن لأي شيء هي جاءت، كما أننا نجد الجواب لهذا التساؤل في نص آخر للشاعر "هكذا رأيت" والذي كتب أسفله إلى الأب الشاعر محمد علي الخفاجي، ويقول فيه:
هكذا..
كما يجدد النور اشتياقنا
وتبدد الظلمة..
عتمة أرواحنا
أراك تنثر ضحكاتك
على الطرقات
ورغم كل تلك الخسارات
كنت رصاصة ليست للحرب.
إذن الشاعر الخفاجي لم يكن كغيره رصاصة للحرب في زمن اشعال الحرائق التي امتدت حتى رحيله، بل كان ينشر الضحكات، ولم يكن يصنع البكاء والعويل عندما مجد الآخرين ذلك فكانوا رصاصة للقتل بيد الطغاة.
فالشاعر هنا يرى ذاته أو قناعاته في ذلك الشاعر الخفاجي، ومن خلالها أراد أن يقول لنا إن الشاعر الحق لا يمكن أن يسهم في صناعة الموت، وهو الرصاصة "النص الشعري" الشاهد على الجرائم في زمن الحروب.
في هذه المجموعة نرى مفردات لا تغادر النصوص الشعرية ومنها "الله، الموت، الحرب، الرصاص .."، وجمعيها تحكي عن وجود الإنسان وطرق فناء حياته وهي دائما تتحدث عن نهاية ولم تكن أبدأ تتحدث عن بداية.
في نصه "يتعبهم الجنوب" وهو جملة فعلية تفيد الاستمرارية لدلالات الفعل، ونرى الشاعر قد جعل من المكان "الجنوب هنا مكانا وليس اتجاها وهو الفاعل والآخر الناس المفعول فيه، وهو انزياح لجأ أليه الشاعر في أكثر من نص. والمكان هنا هو الذي يضفي الصفة على الآخرين فهو "المرؤة ، الكرم، الشجاعة، الإيثار، الصدق، الوفاء" وبالتالي من يحمل هذه الصفات يتعب والأخيرة "التعب" صفة إيجابية تأتي عن جهد أينما تقع.
في نصوص الشاعر نرى صورا تعتمد الغرابة والمغايرة لما يقتضيه الوضع الدلالي، وهناك ظاهرتان فنيتان ملازمتان لنصوصه الشعرية هما الانزياح والتناص ولعلهما العلامة الأبرز، وبإمكان أي قارئ مهتم بالإبداع الشعري أن يلحظ ذلك، كما هو الحال هنا:
يورثون أطفالهم شظايا.. أسفل العمر
مساجدهم عامرة بالتوابيت
ومقابرهم أكبر مما ينبغي
لا زالت تسأل عنهم المدافن.
نلحظ ميراث الأطفال شظايا ولم تكن أموالا أو أشياء أخر وأسفل العمر وليس في نهايته، ومقابرهم أكبر مما ينبغي ولم تكن مقابر اعتيادية، ولا زالت تسأل عنهم المدافن. فكل هذه الانزياحات اللغوية أتت من أجل التكثيف وكي لا يقع النص في النثرية المفرطة التي تخرجه من الشعر مثلما يقع فيه أغلب شعراء قصيدة النثر الحديثة. حليقو الرأس..
.. كواديهم الذي سكنوه
كثيفو الشوارب
لذا تولد ضحكاتهم مجروحة
كثيرو التوجس على أعناقهم
لأنهم..
.. لم يدمنوا التصفيق.
وهنا نلحظ أن الشاعر يعوض عن الوزن بإيقاع من خلال توظيف الحروف "الألف، الواو، الميم" حتى لا يسقط النص في حيز النثرية والرتابة وكي يبقى النص متدفقا محافظا على التوهج ثم لا نغفل عن الطابع الذكوري تحت النصوص في المجموعة "حليقو الرأس، كثيرو التوجس، كثيفو الشوارب" كلمات تحيل إلى الفحولة وضمير المخاطبين دائما هو الحاضر في النص حتى وان جاء بصيغة المفرد "ياء المتكلم" وان كان المتحدث عنها هي الأم مما يؤكد الطبيعة الفحولية فيها:
أمي
لا تعرف عن المكائد شيئا
سوى ..
مكيدة الفطام
لذا نكاية بها ..
قصدت صدور الأخريات.
نرى الشاعر في نصوصه حريصا دائما على أن يستدعي النص القرآني ولا شك أن الشاعر المبدع يحاول تحقيق الفرادة لمنجزه الشعري وذلك بثراء معرفي ناجم عن توظيف هذه التناصات وهو بعد ذلك يجعل من الرؤيا الشعرية تتوالد والقراءة هنا في هذا النص تشتغل في اتجاه يعيد إنتاج دلالة لا علاقة لها بدلالة النص الأصلي أو هي مفارقة لمعنى النص مما يضفي على النص الشعري مزيدا من التكثيف وبالتالي يجعل من النص إضافة إلى ما ذكرناه عربيا غير متأثر بالقصيدة الغربية ومثلما يحاول أن يكتبها الآخرون.
الساهون عن صلاتهم ..
.. بذكر الله
وقصص أنبيائه
كلما سمعوا أفضل القصص
تفقدوا صغارهم
وراحوا إلى البئر
يدلون بدلوهم
وكلما خلوا إلى أنصافهم
قرأوا التكاثر.
إن ثنائية الحياة والموت هو موضوع نصوص هذه المجموعة الشعرية لكنها لم تكن من حيث الشكل والبناء على شاكلة قصيدة الخمسينيات أو الستينيات التي اعتمدت في اشتغالها على أساطير البعث والإحياء "تموز، ادونيس، الفينيق، اوزيريس" وانما رسمت من عدة صور داخل النص لتشكل بمجموعها الصورة الكلية للقصيدة. في الختام أريد أن أقول إن القصيدة عربية الملامح والمفاهيم عند الشاعر هلال كوتا فهي قصيدة نثر عربية وليست على غرار ما يُكتب على طريقة ما وصل إلينا عبر الترجمة، فهي تتحول إلى خريطة ترتق الجروح الفاغرة في الضمير الإنساني الذي يبدو أنه قد ابتعد كثيرا عن إنسانيته.