ادب وفن

الصراع السياسي في رواية «صنعائي» / رياض حمَّادي*

صدرت الطبعة الأولى من رواية "صنعائي" للروائية نادية الكوكباني, عن مركز عبادي للنشر, صنعاء 2013. وصدرت في طبعة ثانية عن دار الحوار باللاذقية 2015. وهي ثالث رواية للمؤلفة، بالإضافة إلى خمس مجموعات قصصية. والرواية عبارة عن سيرة للمكان ممزوجة بسير البشر الاجتماعية، وقد تضمنت بعداً سياسياً استهلته بإهداء لبطل حرب السبعين يوماً عبدالرقيب عبدالوهاب.
تمر بعض كتب التاريخ على الأحداث السياسية بعبارات مقتضبة أو بتفاصيل مسهبة قد لا تشعرك بالمرارة وفداحة الخطب. هكذا كان شعوري عند قراءة تاريخ اليمن، خصوصاً تاريخ ما بعد ثورة 1962 وحصار السبعين وما تلاه من أحداث آب الدامية عام 1968. تلك القراءة قادتني إلى طرح السؤال نفسه الذي طرحته صُبحية, إحدى شخصيات رواية صنعائي:"هل فعلاً كُتب التاريخ كما كان أم لا"؟، وخرجت بانطباع حميد نفسه - شخصية رئيسة ثانية- عن كتابات تلك المرحلة التي تتسم بالغموض و"تكثر حولها الأقاويل والكتابات الانطباعية الشخصية والمذكرات المتضاربة التي لا يعرف أحد صدقها من عدمه".
لكن قراءة التاريخ نفسه في رواية "صنعائي" يعمق الشعور بالمرارة والألم والحزن, ذلك أن التاريخ هنا وإن كان مقتضباً إلا أنه حي بشخوصه وبقصص تحيلنا إلى أبطالها الحقيقيين. فمن خلال رحلة صبحية للبحث عن تاريخ والدها يكشف لنا والدها, في الرسالة التي تركها لها بعد وفاته, جوهر الصراع السياسي في تاريخنا, خصوصاً ذلك الذي تلا حصار صنعاء 1968. كتب لها:
"ستقرئين عن صراعات الرفاق في تلك الفترة في الكتب. ستمر عليك تواريخ محددة لأحداث لم يتكلم عنها أحد رغم مرارتها, ستحيرك كما حيرت الكثيرين, لكن ما يهمني أن تعرفيه أن ذلك الصراع لم يكن مناطقياً أو مذهبياً، كما تم الحشد له ليثبت في الذاكرة الجمعية لليمنيين, بل إن جوهر الصراع كان في خشية القوى التقليدية من قوى الحداثة والمدنية التي أظهرها الشباب في الجيش وفي نسيج المجتمع أثناء الدفاع عن صنعاء. تلك القوى التقليدية كانت أجبن مما تتخيلين. هي التي هربت من أرض المعركة بحجج واهية… وبدلاً من أن تبدي خجلها من العار الذي قامت به فعلت العكس تماماً, عادت بصفاقة تطلب العودة إلى مناصبها السابقة! وكأن ما فعله الجيش والمقاومة الشعبية كان من أجلها ومن أجل مناصبها لا من أجل اليمن وإنقاذ صنعاء".
هذا المقطع الأدبي أصدق من كل كتب المذكرات والسِيَر وكتب التاريخ والتحليل السياسي. وأهميته ليست في تأريخه لحقبة ماضية, بل في تفسيره لجوهر الصراع الذي مر به اليمن وما يزال يمر به حتى اللحظة, خصوصا مرحلة ما بعد ثورة شباط 2011. فهروب قوى الرجعية من أرض المعركة إلى الخارج في عام 1968 يماثله هروب قوى الفساد من سفينة النظام السابق إلى سفينة الثورة ثم سرقتها. وما زال الصراع قائماً بين قوتين لا بين مذهبين: قوى الحداثة والمدنية وقوى الرجعية التقليدية.
تبدأ المراحل البارزة من تاريخ هذا الصراع بثورة 48 ثم 56 و 62. وفي كل مرة تقترب فيه قوى الحداثة من تحقيق حلمها، تعاود قوى الرجعية ظهورها بلون جديد, لتبدأ بتصفية قوى الحداثة. حدث هذا بعد ثورة 48 عندما جز الإمام أحمد أعناق الثوار وأباح صنعاء لجشع ووحشية افراد القبائل الذين اقتحموا المدينة و"نهشوا خيرات أسواقها ونهبوا مخازن حكامها وأغنيائها, دمروا منازلها وقتلوا من وجدوه من البشر, لم يفرقوا بين أطفال أو نساء أو شيوخ".
كما حدث بعد حصار صنعاء 1968 بقتل وسجن وتهجير من قام بتحريرها، ثم بعد اغتيال الرئيس الحمدي 1978 الذي مثل اغتيالاً لأهم مشروع مدني في تاريخ اليمن الحديث. ثم بعد حرب 1994 التي كان ظاهرها الدفاع عن الوحدة وجوهرها تصفية القوى المدنية. وكعادة قوى الرجعية بعد كل انتصار يبيحون المدينة المغلوبة على أمرها كغنيمة حرب. وهذا ما فعله "المنتصرون" في مدينة عدن, لكن في هذا التاريخ 7/7/1994 تبلغ وقاحة قوى الرجعية ذروتها بإعلانه يوماً للنصر! وهو نصر لا ينتهي عند هذا الحد, لأن الانتقام من الثوار لا يتم فقط بقتلهم, ولكن بقتلهم مرتين: قتل مادي, ثم قتل معنوي, وذلك بتشويه تاريخهم أو بطمسه أو بإهماله.
تاريخ صنعاء السياسي المقتضب في رواية "صنعائي" أعتبره أصدق رواية تاريخية قرأتها عن تلك الحقبة. وبما أن الرواية تمزج تاريخ البشر والحجر في قصص حب مشوقة، لذلك فهي أفضل طريقة لتعريف الشباب اليمني بأهم مرحلة من تاريخه كونه عازفا عن قراءة الكتب التاريخية "الجافة" التي قد يشعر معها بالملل. وما زالت "صنعاء مدينة مفتوحة" للنهب, تبحث عن محرر يخلصها من استعمارها الخارجي ومستعمرها الوطني, كما وصفها البردوني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وناقد من اليمن