ادب وفن

مشهدة النص الشعري / د. محمد أبو خضير

يتخذ النص الشعري ائتلافه خارج مستويات وحدود التجنيس في مشاعية تجنيسية لنصوص فنية وجمالية وأخرى خاصة بنصوص الثقافة وضروبها التعبيرية والبنائية عامة، فللنص الشعري منازعه وذاته إزاء وفود وتصنيف النصوص خارج مقروراته النصية/ التجنيسية، إذ يعد الشعر اصطفاء لرموز وإشارات ذات بعد متعال على هوامش الواقع ومعالمه الأيقونية.
للنص الشعري أن يترافع عن معينات نصية أودعها وهم التجنيس في متون التاريخ الذائقي والاتصالي. وتأتي شعرية النص لدى الشاعر حبيب السامر في مجموعتيه "أصابع المطر" و"رماد الأسئلة" محمولة بمعطيات لا تجنيسية من إشارات وعلامات وبنى وتقنيات السرد والنمط المونودرامي والإطار الحدثي، والنص في مساره وفضائه الورقي في تعددية وتضارب من الأحداث والتحولات والانقطاعات بدءاً من الفواتح وليس انتهاءً بالخواتم النصية التي تقترح مستويات حوارية وإزاحية عن شروعها الافتتاحي.
وتشيع النصوص في حشدها لمنظومة سردية حضوراً مكثفاً لعناصر من حوار/ وصف/ زمن، سارد/ مسرود. وتسريع زمني وذلك ما يبرر تصويتها لذات السارد/ أو/ والشاعر المتكلم أو المخاطب بصيغة "أنا" أو "هم" وتوسيع عدسة المشهد الحدثي للنص الشعري في تدارجات مشهدية تنتظم في ناظم السارد/ الشاعر وصياغة تمرحلات زمكانية/ تاريخية وختمها بمهر التزامن ما أتاح مهيمنات نوستولوجيا في النظر إلى الماضي/ التاريخ، بعده فردوساً ذاتياً مفقوداً إزاء الحاضر بكل يبابه ومعطياته الطارئة على قواميس الحياة عموماً ما يحفز على حرث رواسب عمر الطفولة والفتوة والأيام الماضية بكل مشهديتها من الشخوص والأمكنة والأحداث.
وترسم مشهدية النص لدى "السامر" بتقنيات حملتها النصوص الأدبية وأخرى راسخة من متون نصوص أو/ ومنظومة فنية تخص تقانات السينما/ المسرح/ من لقطات ومنتجه وإنشاء حدثي وجماليات سينغرافية ففي نص "الغربال" تتوالى استقطابات رواشح قطرات الثلج في متوالية حدثية بمسار كرونولوجي/ تاريخي يشرع من الداخل إلى بدائيات حياة الذات الساردة/ الشاعر.
* غربال ناعم
يرشح ثلجاً
* القطرة الأولى
هاتف سري...
* القطرة الثانية
كرسي عائم
والذات الإنسانية بموطنها الورقي في نوستولوجياً إلى مواقع الأثر الماضوي إزاء الواقع/ الحاضر الموصوف بعده الجفوة الوجودية، والهجاء العلاماتي.
ويترصد السارد/ أو/ والشاعر ذاته بمشهدية زمكانية حافلة بالأحداث الآيلة السابقة لمفتتحات وآليات ترسم النص الشعري وأحداثه، فالنص يشرع في العموم باغتراب مكاني للذات عماده الشحة والوحدة واغتراب الذات في فضائها الوجودي واليومي ما يعجل باستدراكات حيال الحقب الحياتية الماضية.
فكان أن يأتي عنوان مثل "قصب أجوف" قرين نتاج لرجال "اليوت"، "الجوف"، بكل معاناة الذات في زمن اليباب/ الحاضر وضروب الغربة واللاجدوى في التواصل مع معطيات الوجود. فإذا كان إنسان أو/ وأناة "السامر" ذات تجويف مثنوي يناظر القصب الفارغ الذات المجوفة عن مدخرات الماضي يفعل "السامر" دلالة بيئوية ويرفعها إلى مستويات التعبير الاغترابي، فدلالة القصب تؤشر إلى جغرافية- سيكولوجية تخص الذات المنتجة للنص، فكما كان "اليوت" معبراً عن تقانات عصور الحروب الكولونيالية وأبعاد أفول الحكم المديني في فضاء "لندن" معبراً عن فراغها من كل علاقة إنسانية، عبر مشهدية جارحة للذات الإنسانية وهي تحيا مأساتي المتجددة في الزمان والمكان.
نحن البشر الجوف
نحن البشر المحشدون
يسند بعضنا بعضاً
عقل مليء قشاً. أسفاه!
ويتناص "السامر" ذاتاً إنسانية نتاج تجربة حياتية برواسم تاريخية/ مكانية/ بيئوية مع ذات ورقية اليوتية مثل "بروفرك" مع فارزة وميزة اختلافية تمنح "السامر" بعداً حياتياً له أداؤه في تجارب وحيوات آتية في وقت أوقف "اليوت" ذاته الورقية على مشهدية الاغتراب معبراً عن تمركزات آليات بأداءات فعلية تمثلها ملاعق القهوة لمقايسة الوقت ببقايا شمعة تحتضر.
مرهقة فمك
مدحورة سلالتك
ستسكن إلى فضاءات الصنوبر المعتمة..
وتتجسد تجربة الشاعر، السارد كذات فاعلة في طيات التاريخ الشخصاني والجمعي، فهو في ترسم لمشهدية التجربة الذاتية المتموضعة أو ما سمي بـ "كتابة الذات" سواءً في مشهديتها الخاصة أم في امتداداتها لحواف تجارب "الآخرين"، "هم" من الذوات المجتمعة، ومن هنا أتت سردية/ مشهدية النص مرتهنة أحياناً بالحوار والتماري بمرايا الذات.
وتتماوج/ تتمشهد تجربة الذات/ الساردة، السير- ذاتية مع فضائه السوسيولوجي وشغيلة السفن في رصد مشاهد حطام ذكريات العمل والجمع وائتلافات الفعل اليومي وأوقات التسامر مع الذات في فضاء هامشي لجموع أنتجت ذاتها عبر منجزها الحياتي في بيئتها اليومية مثل "الداكير"، "فضائه بناء السفن" لنتعرف على أسماء وأفعال هجرتها حياة التقانة الحديثة لتظل هياكل الزمن منظومة من القيم والنواميس وتحن إليها الذات رغم بذخها التقني والصناعي.
الأسلكة باقية
الكرين مد ذراعه
من الفضاء
كنا نصغي
للمطرقة
وتأتي تقنية الدايلوج وسيلة تعبيرية متواصلة بين ذات وطوياتها التاريخية لتؤسس فضاءً مشهدياً وما ينمحو في مجريات حياة "الآخرين" في لعبة عمادها "الحلم" حين تتشوف الذات بذاتها ومع ذات مغيبة في مشهدية تتناوب بين حضور- غياب معبرة عن افتراضات/ أمنيات استدعاء "الآخر" المحايث لمجمل ركام الذكريات في حوار صامت "مونولوج":
- أين كنت كل هذي السنين؟
- ربيعكم الآن يقتحم شجر الذبول.
- ماذا تريد أكثر من أني استقبلت حرائقكم بمنديل رطب.
ومن كسر النصوص الأدبية والفنية تأتي أدبية النص الشعري لدى "السامر" لإنشاء شعرية محتشدة بشتات الأنماط البنائية والتجنيسية المتبارية في ميدان النص وصولاً إلى معطىً عرضي مقترح للمشهد بكل ملامحه وعناصره البشرية والتقانية، فالنص الشعري عماده شكل درامي/ مسرحي دونته مقدمات قائمة بتقديم الشخوص وأبعادها الطبيعية والسوسيولوجية وعرض أبعادها البيئة الزمكانية.
* الزمن: خامل.
* المكان: مرتبك.
* الحدث: بوح لامرأة تجيء.
* الشخوص: كل شيء يتحرك قربي.
ويسعف النص الشعري بنمط ممسرح آخر تعلنه أنساق المونودراما فإنفراد الذات أمام ذاتها وأنسنتها لعلامات الفضاء السوسيو- سيكولوجي من "مرآة" و"هاتف" بعدها آنات أخرى تقف موقف الإنابة من الحضور لذوات غائبة/ مغيبة. وتلك المسرحة لها إشاراتها التاريخية في مقولة الناقد والروائي "هنري جيمس" الموجهة إلى الكتاب قائلاً "مسرحوا، مسرحوا" بمعنى أكتبوا مشاهد في تجسيد شخصية تتحرك وتعمل أمام جموع مبدع النص وأمام المتلقي".
ولأن النصوص الشعرية في منتح "السامر" معنية بنتاج سلوكي- أدائي- حياتي- وتجربة ذاتية ما يسوغ مهيمنة دلالية ذات منحى تذويتي ممثلة في "المرآة" يبرر إجهاراً أعلى للبوح فالنص يتعايش على ثنائية "الأنا" الحياتية، وتلك المخلّقة في فضاء المرآة لتنتهي الصورة نتاج دلالتين لهما أبعادهما الزمكانية تتوارد احداهما بعد الأخرى وتتخذ الصورة الشعرية حراكها ونتاجها الرمزي بواسطة امتياز كل صورة ومحمولاتها عن قرينتها المتعارضة معها- فالوحدة النصية هي حاصل عناصر "تكوينية متعارضة يجمع بينهما في وحدة متعاكسة".
في المرآة.
أنا شكل آخر.
تطيل المرآة التحديق إلي.
لا أشبهها.
وتتثلث أكون الذات لتتعابر في ماهيّتها داخل فضاء الذات الساردة/ الشاعر. الكائن المتجادل مع ذاته في تشظياته لينتج ذاتاً خارج قوانين القدسية والأحادية والجبرية المتعالية.
السالب نحو السالب.
الموجب نحو الموجب.
للخطة هذي.
لا أعرف.
أيهما.
أتجه نحو الآخر.
أنا أم أنا.
وفي مجمل نصوص "السامر" الشعرية تطرح تقانات السرد المشهدي عبر السارد المجسد في صوتين أحدهما مشارك والآخر مراقب.
وبذلك يدخل النص في موضعة درامية لها تحولاتها من الأفعال وخطوط الشروع والختام:
الدمية.
فرت شفتيها.
تداعب طفلة.
في الأربعين.
وتحاور أخرى.
تلامس وجهها.
تمد الشعر الثابت.
فالوحدة المشهدية تتأسس على جملة وحدات فعلية وزمكانية وأدائية/ شخصية.
1.الوحدة المكانية/ غرفة.
2.الوحدة الزمانية/ ليل.
3.الوحدة الأدائية/ قطة/ دمية.
4.الوحدة الفعلية/ فرت/ تداعب/ تحاور
5.وبذلك تخلص النصية إلى وحدة تتغلب بها الوحدة الفعلية على الوحدات المشهدية الأخرى بكل مستوياتها الدرامية.
ويطرح الشاعر في مستهلات نصوصه مشاهد متنوعة لأدائها البنائي والسردي ففي نص "عزلة السكون" تستهل الفعالية النصية بالوصف المشهدي تواترا لتؤكد حضور الأشياء والكائنات الحياتية بفضاءات زمكانية في ومضات بارقة/ أوتوغرافية مختزلة:
أيامنا، لحظاتنا.
تنفرط.
مثل حبات مسبحة.
بيد طفل مشاكس.
وامتازت مشهدية النص بعدها مشاهد "إطار" تحدد مسارات الأحداث، فللحدث فواعل وأفعال وعلامات وأمكنة وسمات ظرفية تنفتح بها النصوص في نص مثل "طيبون" يشغل الحوز الزماني مشهدية الماضي لرجال السفن:
كانوا
قرب الضفاف
يغزلون قصب الشطوط
السمك الفضي
يأكل حافات الطين.
ويحفل نص "حارس آخر الليل" سيميائية زمانية في "إطار" مشهد حارس ليلي يختزل النص الشعري زمان الحدث داخل مشهد مؤثث ببيئوية من علامات ظرفية.
أخفى الحارس نعاسه.
ألقى بالظلمة،
خارج سياج مراياه.
ويستدعي الشاعر تقانة الفن السينمائي في تعزيز مشهدية نصه الشعري، فكانت تقانة ما أسمته معاجم السينما بـ "المزج" المشهدي الجامعة في ظهور مشهد وتوالي انحساره إعلاناً لمشهد آخر فالمشهد يتراسل بكل محولاته مع متلقيه ليتعابر من بعد على مسار أحداث "الإطار" الأكبر لتشكيل مشهد تال.
تنفتح مديات الصورة بين لقطات مكبرة "إطار" ولأخرى مقربة تترصد علامات جزئية خاصة الذات الإنسانية وهويتها الحكائية.
في نص "ملاذ القوافل" تنفتح آليات المشهدية على حركة "إطار" عامة للقوافل ومساراتها في عمق الظرف المكاني "الصحراء" لينتهي إلى دالات مكانية تعكس مسارها ودور الراصد/ الراوي/ المصور لها.
القوافل التي نأت بسراب آخر
مع شجيرات توزعت هنا وهناك بخطوط مبعثرة
القوافل تزحف
فيما الشمس تباعد المسافات بين آثارها
وهي تلهث كما الأرض تلفظ آخر البراكين
مع آخر ذيول القوم تحفر بأقدامها سطوح الرمل
القافلة انحسرت
إن المؤشر المشهدي هنا على وفق نظريات التصوير السينمائي ينتقل من مشهد أكبر للقافلة في عمق الصحراء ليدار صوب علامات أخرى بديلاً عن تلاشي القافلة في عمق الظرف المكاني في بداية لمشهد آخر.
إن النص الشعري في مجمل منظومته اللغوية نتاج صوري يوظف به الشاعر كل دلالة لفظية لإنشاء جماليات الصورة أو ما أسماه "غوته" بـ "ثقافة العين" فالكلمة أو الجملة تتخطى مداليلها الأحادية لتكون دالاً بصرياً مجسداً للصورة في تراصفها مع متواليات بصرية أخرى ما صير من النص الشعري لدى "السامر" نصاً سجالياً منتجاً لبنائية ومفعلاً للمتلقي في استقباله لصور شتى من الدالات التعبيرية، فالدلالة لم تعد قائمة بذاتها ومنكفئة على فضاء اللفظي، فهي في حوارية ومحايثاتها من الدالات لتأليف الصورة النصية.
أما شعرية المشهدية في نصوص "السامر" فإن الأداء النصي يتعدى نصيته التجنيسية لتؤكد ذاته بجمعية من نصوص غير أدبية أو فنية يشترطها "جون كوهين" في اللغة الشعرية بأن "من الممكن بالطبع أن نسعى لإيجاد شعرية عامة تبحث في الملامح المشتركة بين جميع الموضوعات الفنية أو الطبيعية التي من شأنها أن تثير الانفعال الشعري".
السالب أنت
الموجب أنت
أيكما ينجذب
نحو الآخر
وشعرية المشهدية تتوزعها منظومة أداءات "كتلوية/ صوتية/ لونية، زمانية/ مكانية/ سردية" بتتابع جدلي بين الدرامية والوصفية حيث تتجسد سمات المشهدية في معطيات السرد تارة والوصف من بعد لإثراء الشأن المشهدي:
جوالي يرن
لم يكف
قلبي يخفق
يغادر قفصه
الرنات الملحة
تخترق صمت المكان
لن أعبأ به
أثرت الرحيل نحو قفصي
فتلبسني الحزن.
إن احتفاء وهيمنة الدالات المكانية في منجز الشاعر "حبيب السامر" يؤشر امتيازاً لنصه الشعري مكوناً نصاً يمكن تسميته بالنص "الفعلي" في مجاراته بين التجارب الحياتية واليومية وما يدخرها من ذكريات ممشهدة جوالة في مكونات الذات الجمعية بعدة الحدوس والرؤى والتداعي تؤذن بتبادل حر بين مشهد قاتم وآخر في شروعه الإنشائي.