ادب وفن

القصة القصيرة جداً : الريادة العراقية / هيثم بهنام بردى

إضاءة
أنا لست ناقداً، ولم أطمح في يوم ما أن أكون كذلك، ليقيني وقناعتي التامة أن مهمة الناقد لهي أعسر بكثير من مهمة واضع النص، قصة كانت أم رواية، شعراً كان أم كتابة مسرحية...الخ، وأنا أحاجج من يدّعي أن الناقد هو إنسان يفشل في كتابة نص سردي أو شعري فيتجه إلى النقد، ولأن النقد هو من أصعب الصيغ الكتابية فإني أنأى عن تعاطيه توقيراً له ولمن يجترحه، واحتراماً لقدراتي ولذائقتي القرائية.
وبناء على ما تقدم أعلن أن كتابي هذا هو رصد وأرشفة وتبويب وقراءة تاريخية لهذا الجنس السردي الجديد في العراق، وأن ما ورد فيه من آراء عند تقديمي للقصاصين مجرد قراءة لكاتب قصة يحاول أن يسجل بعض الملاحظات والإشارات "النقدية"، فإن اقتربت من حدود "النقد الانطباعي" فتلك ميّزة تسجل لصالح ذائقتي، وإن أخفقت فأسجل لها شرف المحاولة.
ما يجاور التقديم
المتفق عليه أن لكل كتاب مقدمة تكون بمثابة العتبة التي يطل منها القارئ على تفاصيل وحيثيات وماهية المادة، وغالباً ما تكون تقريرية تعطي المتلقي نبذة مختصرة عنه، ولكني آثرت في "ما يجاور التقديم"، هذه العتبة التي ارتكنت اليها ذائقتي "النقدية" أن تكون على شكل حوار بين ذاكرتي اللجوجة الضاجة بعلامات الاستفهام وبين قرينتها التي تنهي كل تساؤلاتها بالنقطة في نهاية السطر.
واليكم ما دار بينهما من سجال
السؤال: كثرت في الآونة الأخيرة ظاهرة سبق الريادة في كتابة القصة القصيرة جداً وكل بلد عربي يحيل الريادة إليه. من باعتقادك أول من كتب القصة القصيرة جداً؟
الجواب: الحديث عن الريادة يقودنا إلى تساؤلات عدّة عن ماهية الريادة؟ هل الريادة تعني التاريخ..؟ أم الكينونة الفنية؟ أم تثبيت المصطلح؟
تاريخياً.. تقودنا المدونات العربية الموضوعة عبر حقب التاريخ إلى وجود هذا النوع من القصص دون الإشارة إلى المسمى بل هي عبارة عن واقعة منقولة عن أُخرى، والأخرى منقولة عن ثانية بأسلوب بليغ تجد فيه الإيجاز الذي يكاد يقترب من الشعر... فلو قرأنا الكتب التراثية المخطوطة والمحققة والمطبوعة لوجدنا المئات من الأقاصيص، لو طبقنا عليها الآن الاشتراطات والخصائص التي تشكل أسانيد القصة القصيرة جداً، لرأينا أن كتب الجاحظ وخصوصاً "البخلاء"، وكتب التوحيدي وخصوصاً "الإمتاع والمؤانسة" وكتب "مجمع الأمثال" للمنداني بأجزائه العديدة تزخر بالكثير من القصص القصيرة جداً التي تتمثل باللغة الرشيقة المضغوطة المعبأة بالبلاغة وحسن الديباجة، وهي بمجمل نسيجها تقترب بحميمية من القصة القصيرة جداً، مصطلحاً وماهيةً.
عالمياً.. من المعروف أن القصة القصيرة ولدت بشكلها الفني في مستهل القرن الرابع عشر عندما كتب جيوفاني بوكاشيو "1313- 1375"، "الديكاميرون" وتحديداً عام1353، ومنها انبثق المصطلح "نوفيلاستوريا" وكان يطلق حينها على هذا الوافد الجديد "فن الأكاذيب" لأن أي خروج على فن الملحمة الشعرية التي تمُجد فرسان القرون الوسطى يُعد خرقاً للمألوف وشيئا لا يستحق الاحترام، ولكن القصة حفرت لها مجرى في الجلمود وتطورت حتى صارت الأدب المميز في الوقت الحاضر، والقصة القصيرة جداً التي لا تختلف عن رديفتها القصة الاعتيادية إلاّ ببعض السمات لم يكن لها وجود ضمن المعيار الاصطناعي إلاّ في مستهل العقد الثاني من القرن العشرين حين كتب ارنست همنغواي قصته الشهيرة عام 1925.
أما القصة العربية المعاصرة فتخبرنا المصادر الدقيقة إن هذا الفن حقق الانتشار والذيوع في ستينات القرن الماضي وبإطلاق المصطلح ومصطلحات رديفة أُخرى، وظهرت قصص قصيرة جداً في مصر ولبنان وسوريا والعراق، ولكن وهن الاتصال والانتشار المعلوماتي وانعدام تواصل الكتاب بين مختلف الدول العربية، سبب إشكالات كثيرة حول الريادة لهذا الجنس الأدبي.
السؤال: لِمَ تمت تسمية هذا الفن بالقصة القصيرة جدّاً.. وما دلالة جداً؟
الجواب: لا أدري لماذا نضع الحواجز أمام أي وليد! وأولى هذه الحواجز والمعوقات التسمية، فلكل كائن في الوجود مسمى، فالوليد يسمى بعد الولادة ويبقى لصيقاً به طيلة حياته، ويذكر بعد وفاته من خلال ذريته، وهكذا لكل الموجودات، فلكل مسمى، ويندرج هذا في المصطلحات العلمية، فلكل اكتشاف علمي أسمه الذي يبقى متداولاً منذ إعلان براءة اختراعه، وحتى تشظيه إلى مكونات أُخرى من أجيال مستقبلية إلاّ أنه يبقى متشحاً بمصطلحه وتسميته، هذه تعتبر من الثوابت والبديهيات في مختلف المسارب الحياتية، علمياً واجتماعياً، وفلسفياً، ونفسياً...الخ، إلاّ في الأدب وعند باب التجديد فنرى أن المصطلحات الجديدة تحارب بلا هوادة طواحين الرفض الرببة ولكن بسيف دونكيشوتي لا ينثلم ولا يكل ولا يعجز، فالقصة القصيرة جداً، ترسخت كمصطلح قبل ثمانية عقود تقريباً وبمصطلحه الوليد الراسخ "short shortstory" وبترجمة حرفية "قصة قصيرة قصيرة"، ورغم تعدد التسميات العربية لهذا الجنس الأدبي الجديد، مثل "القصة الومضة- القصة اللقطة- القصة القصيرة للغاية- القصة المكثفة- القصة الكبسولة- اللوحة القصصية- الصورة القصصية- النكتة القصصية- الخبر القصصي- القصة الشعر- الخاطرة القصصية- القصة الجديدة- القصة الحديثة- الحالة القصصية- المغامرة القصصية- القصة القصيرة جداً" وأيضاً يمكن أن نضيف، قصة المترو، قصة السندويج، القصة الصرعة،....الخ، نلاحظ أن المصطلح عندنا لا يزال يراوح بين كل هذه التسميات بشكل هلامي يتخذ كل حين شكلاً وجسداً واسماً يتباين بين كاتب وأخر، ونتيجة لاهتزاز وضبابية التسمية، نلاحظ تأثيره على البيئة والكينونة، وتبعاً لهذا صار هذا الجنس نقطة جذب بين طرفين، الأول ينتقضه تماماً، والآخر يعطيه أكثر مما يتحمله المصطلح، وهو بحاجة إلى من يقف بينهما ويمسك الأمر من المنتصف ويعطيه الحق الكامل.
السؤال: ظهرت مؤخراً كتابات مختزلة جداً لا تتجاوز بضع كلمات أو سطرين على أكثر تقدير تحت يافطة "القصة الومضة" هل تعتقد انها ثورة تجديدية ضد القصة القصيرة جداً؟
الجواب:لا بد لنا قبل أن نحكم على هذا الأمر أن نستقرئ ماهية كل صيغة كتابية ونضع النقاط على مفاصل التلاقي والافتراق لكليهما لكي نضع حكماً ما على هذا الجنس من الكتابة الإبداعية، فنقول أن القصة الومضة نجدها في الكتابة الرائدة التي اجترحها ارنست همنغواي بقصته الومضة الشهيرة "قصة قصيرة جداً"، التي كتبها عام 1925م، وجاءت في ست كلمات "للبيع، حذاء لطفل، لم يُلبس قط"، وقصة "الديناصور" للكاتب الغواتيمالي أوجستومونتيرسو والتي جاءت بست كلمات أيضاً، "حينما استفاق، كان الديناصور، ما يزال هناك"، وقصة الكاتب المكسيكي لوي فيليبيلومولي، "هل نسيت سيدي شيئاً ما؟، إن شاء ربي". وهنا نجد أن المصطلح "Flash Fiction"، لا يماثل المصطلح "Short Short Story"، ورغم التماثل ببعض السمات مع القصة القصيرة جداً، إلاّ أنها تختلف بسمات أخرى، ولعل الجدول المدرج يوضّح بعض ذلك التشابه والإختلاف.
السؤال: هل تتوقع أن تسحب "القصة الومضةFlash Fiction " البساط من تحت أقدام "القصة القصيرة جداًShort Short Story "؟.
الجواب: وهل فعلت القصة القصيرة جداً هذا الفعل مع صنوها القصة القصيرة..؟
من الطبيعي جداً، مثلما يحدث للأجيال فيما يسمى بصراع الأجيال، إذ ينقلب الأبناء على بعض مفاهيم وقناعات الآباء مع المحافظة على روح الثوابت القارة، وهذا معناه أن المغادرة والاستنباط لا يعني إلغاء وإقصاء وتهميش السابق، فالجديد مولود من السابق، فالقصة القصيرة هي هي، لا زالت وستبقى تزهو وتزدان وتزدهي، والقصة القصيرة جداً لا زالت في ميعة الصبا والتكوّن والرجولة المبكرة تتواصل خاصرة لخاصرة مع شقيقتها البكر القصة القصيرة، ونفس الأمر لا بد أن يكون مع القصة الومضة، وردة نضرة يانعة من شتلة ال... "نوفيلاستوريا"، وتبقى الأزمنة القابلة كفيلة بولادة أُخريات وأُخريات وأُخريات.
السؤال: هناك وجهات نظر ومفاهيم تنظيرية صارمة تملي على القصة القصيرة جداً ضوابط واتجاهات وطوبوغرافية حاسمة تحول دون تجاوز مفاهيم تقليدية حوصرت بها القصة؟
الجواب: عندما نظّم المنظّرون للقصة القصيرة جداً أكدوا في طروحاتهم على محاور ومفاهيم محددة تؤطر الصورة النهائية لها، أي أنهم وضعوا- آنذاك- اللبنات الأساسية التي بتشاكلها تشّيد الهيكل النهائي للبنيان القصصي فمن: "الشخصية المحورية، إلى كون القصة القصيرة جداً لا تحتمل تشعباً أو تشظياً في الحدث المركزي، أو أن البنيان القصصي يعتمد الإنجاز والتكثيف كمن يعصر قطعة قماش طارداً عنها نداوتها وطراوتها، أو أن النهاية يجب أن تجتمع في بؤرة تحرق المنطقة التي سلط عليها، وما إلى ذلك من قوانين وأصفاد وأسوار، وحيطان عالية شاهقة وضعت على قمتها نهايات مدببة لزجاج متفتت تجعل كل من يحاول التلصص إلى ممالك القصة القصيرة جداً يكتوي بنار الجرح الذي تسبب هذه الموانع وتمنعه من التحديق إلى الأسرار الجديدة لهذا العالم الساحر، القصة القصيرة جداً.. نعم إن هذه "الأُسس النظرية" وضعت مذ ولدت القصة القصيرة جداً وهي غضة صغيرة تتلحف هذه الأقمطة لكي تنمو وتترعرع، ولكن القصة كبرت وصارت الأقمطة لا تغطي ربع أو خمس بدنها الناضج، فحتم عليها إذن أن تتخلص من هذه "الأُسس/ الأقمطة" التي صارت أشبه بمومياءات أو عجائز نستمع إليهم طائعين وهم يفردون سباباتهم محذرين إيانا من خوض غمار المغامرة لقطف تفاحة آدم المحرمة وبقاء جنة عدن اطلالاً يتجول في أعطافها الفراغ والصمت، وتبقى الثمار "القصة القصيرة جداً" تينع ثم تشيخ وتذبل وتتساقط من قمم الأشجار، كل هذا يدعوني أن أقول: هلموا بنا ندخل جنة القصة القصيرة جداً، هلموا نفتح الأبواب، فلقد كبرت ونمت واينعت ينضح من وجنتيها دم اليفاعة والشباب والتوثب وبات عليها الآن أن تمشي، تهرول، تطير، تعوم، تغطس، تتسامى، أن تتجلى لتنبثق من رمادها كالعنقاء.