ادب وفن

القصيدة الجادة وسيمياء طقوسها / خليل مزهر الغالبي

على امتداد 56 قصيدة ضمتها المجموعة الشعرية "فنجان قهوة مع زليخاي" حرص الشاعر حسن البصام في شغله الشعري هذا على تقويل مسكوته وبلا تردد في الكشف والبوح عن هواجس تبلورت كثيراً واتجهت للإنعتاق داخل نصوص شعرية عالية التصريح، تصريح بلا إلتفات لتك الخشية التي فرضتها طبيعة ورتابة قدامة العادات والتقاليد التي أكل عليها الزمن وشرب، وهي هواجس مضطرمة ومضطربة من اختناق رغبات واشتهاءات طبيعة الروح في الإقتراب والجلوس مع المرأة الحبيبة بحضن ذلك الوطن المنتظر الجميل،
وما لها من تداعيات في فهم وتشكيل المرأة المنتخبة ودعوتها، هذه المخلوقة المشاركة والماثلة له في حياته، وقد صاغها الشاعر كرغبات لقيم جمالية عابرة للممنوع، وكما في جمالية المكون التعبيري الدال في عنونة المجموعة، حيث دعوة الشاعر "حسن البصام " لزليخاته في إحتساء فنجان قهوته الصباحية، وقد شكلت دعوة المرأة المنتخبة معظم قصيد المجموعة، ليطّعَمَها الشاعر في نصوص اُخرى، نصوص حاكت ذلك الوطن الجميل الذي انتظره منشدا ومحتجاً على ما لحقه من الترديات الحاصلة والظاهرة في وجوده الإنساني الصعب، وكانت نصوصه الوطنية متناوبة الظهور هنا وهناك على طول جسد المجموعة، وهي امتدادات لمثول نصي متقطع مع معظم القصيد المحاكي للمرأة والمرأة الحبيبة على وفق وجدانيات امتدت بشيء من اشتهاءاتها الطبيعية، قصائد ايروسية غير فاضحة أو مدنسة للجسد وانثويته، كما هو واضح في قصيدة غياب الشمس:
"يا لفنجانكِ الأبيض/ الذي تعدين لي به/ قهوتكِ الصباحية/ لقد أجلت الشمس/ إشراقتها / منذ غبت"..
لينتقل بعدها، في حوار ذلك الوجود الوطني المهدد كثيرا من المارقين والمدنسين لقدسية الوطن ومفهومه، لذا راحت المجموعة داعية نصوصها لإقامة مواطنته العدالة المرهفة، وقد اتسم عدد من النصوص بهذا الخطاب المحتج ومنها قصيدة "ذهول الفجر":
"من فرط ذهول الفجر/ ما عاد يقوى على مواصلة المسير/ منذ تلك اللحظة/ ما ارتدى فجر العراق غير السواد/ سرقوا نجم بلادي/ وضعوا في جيبهم ظل القمر"..
وكان حضور الرمز العادل الشجاع علي بن ابي طالب في قوله المحتج على الادعاء الكاذب لشعاراتهم وانتماءاتهم "وتقلد أشباه الرجال سيف ذي الفقار" والأخرى والمتجسدة في أترخة الذكر وشاعريته في القول "يا علي نحن نرقب صولة بدر وحنين...".
وإتسمت لغة المجموعة بالبساطة الغائرة والمعمقة للانساق المعبرة لقصيدها الشعري، والمقاربة للغة البيان والبديع الغائر في جسد العبارة والجملة الشعرية وتنطيقها، إضافة لاعتماد الشاعر على المزج بين اللغة الطبيعية والوسع الدلالي للألفاظ وبما يبعد تعبيريته الشعرية عن التسطح الصانع للتقريرية الراكدة والقاتلة لروح الشعر، وإيقاف جمالية التأويل القرائي لمكون لغة النص الشعرية، لذا حرص الشاعر في تأصيل اشيائه وإسماعها للمتلقي، ومنها نستدل أثرها في تأجيج ثورة الخطاب المحمول في ثنايا الأنساق الشعرية المكونة للقصيد، والمتمثل في طلبه ورغبته لمثول تك الحبيبة، وهو يرسم محياها وفستانها وحراكها من انثيالات ذلك الجسد المبعد من فيزيائيته المربوطة والمكممة برباط المنع، لكنها نصوص تعبر الممنوعات لامتلاك الجمال الشفيف في تنضيجها لمقاربات يوتوبيا تتجسد في انتظار المرأة والوطن، والتي امتدت على طول جسد النصوص.
لقد تشكلت القصائد بتكوين مكثف ومن المجاز الإيجازي في توفير البناء التعبيري والصوري لأشيائها الشعرية، ومن مفهوم وعلو تسمية "جان كوهين" للغة الشعر " اللغة العليا وهي الناشطة في اللغة المألوفة للشاعر "حسن البصام " وعلوها إلى المؤثر الشعري العامل على توهجها العاطفي والوجداني كما في قصيدة "غواية" وهي تصور إستبسال ذلك العاشق الذي لا يلتفت لامرأة أخرى، وبما يعني صدقه ازاء مكوناته الفكرية الخاصة بمكون المرأة الحبيبة وحراك الذات العاشقة في خروجها للمثول داخل القصيدة كما في القول "قصصت جناحيه/ لغيرك قلبي لا يطير/ امطري ياسحب القطيعة/ حافيا امشي.../ أرتقي تل الغواية/ واشق بأظفار العناد".
ومن خشية الشاعر المتلبسة في جوانحه والماثلة في قصيدة "سر الغياب":
"أخشى أن تتسللي حافية/ وتقبضين علي متلبساً بالشوق/ أو أسرق النظرات الى ظلك الذي يلازمني"..
نقرأ الدلالة ومجانباتها الحسية ومن مفرد التسلل وتلك القدم الحافية في إختفاء الوقع والدراية به، من وله ذلك العاشق في خشيته من الدخول غير المعلن، لتكون نسقاً دقيق التعبير عن خوالجه المحاصرة في منطوق وجودها داخل النص وخارجه اللامرئي، ليعود الشاعر منفلت العاطفة والإنعتاق برغباته وفض تكبيلها، ومن خلال القفز بعصاه الشعرية فوق التابوات المقيدة والمانعة لها، لتتشكل عارية داخل النصوص كما في قصيدة "قبلات سالفة اللثم":
ولسابق ذكرنا الوصفي للإضطراب النفسي المضطرم في مكشوف النص ومستوره، لتظهر كيمياء طَبَعَتْ مكونات البناء الشعري المستقرأ من الترابط التحتي للنسق الكتابي للنصوص، ومن تفعيل عضوية المفردة المنساقة المناسبة لتوظيف الخيال الخادم للمعنى،وكما في قصيدة "امرأة عابرة... رجل عابر" لنجد التوهم والكذب والشياطين ومثول ليل الابواب وعودة القدم اللاهفة المتوجة لتمثل ذلك الوجود المؤلم والحزين المنكسر "كم أنت واهمة حين اعتقدت/ أنك الشعر الذي يكذب ليصدق/ وأن حروف القلب تكتبها الشياطين/.../ كلما طرقتُ الباب/ كنت ليلاً/ أقدم خطوة لكنها من وجسٍ تعود كالبرق/ كم مرة ايقظني الليل/ وقال من أنت؟ ".
وراح الشاعر يخاطب وطنه المثخن بالجروح، ومن تعرية الواقع بما فيه اختلاجات تشظت في لغة تصل للأعماق بصور شعرية حسية مكانية سلسة تلعب دوراً رئيساً مهما في اتمام الخطاب الشعري، المتجسد في وحدة القصيدة ووحدة موضوعها، وهذا ما أطلقته شجاعة الخطاب المعبر لقصيدة "ذهول الفجر".
"من فرط ذهول الفجر/ ما عاد يقوى لمواصلة المسير/ منذ تلك اللحظة/ ما ارتدى فجر العراق غير السواد...".
وهنا نقرأ وبوضوح مائز روح القصيد الشعري للمجموعة هذهِ في التعالق المتوتر بين الحلم المتجسد في نصوص المجموعة والواقع، والمتجسد في السيمائية الحزينة المتشاكلة بقوة الخطاب المحتج على تشويه الهوية الوطنية المرتبط بتهميش المرأة، والتي لاءمها الشاعر من خلال الجهد التكويني وقوة العبارة الشعرية العابرة للعمق الدلالي واتساعه.