ادب وفن

حرائق اليوتوبيا وأسطورة الوهم / ناجح المعموري

الى صديقي القاص فاضل القيسي
قلت لأمي
هيا بنا
اننا في نهاية الشمس
فساعديني
للوصول لأبي
أو حفدتي
وهم يرقصون
الشاعر خالد البابلي
هذا النص القصير، المركز، يثير كثيراً من أسئلة القراءة، ويستولد استفهامات عديدة أيضا. هو نص قصير، انطوى على عدد من الكائنات، الابن/ الأب/ الأم/ الشمس/ الأحفاد، وإذا أردنا الدخول للنص، علينا الالتزام بما ورد فيه وما تضمنه من كائنات، كان أكثرها حضوراً هو الابن/ الراوي، ممتلك سلطة القص وإنتاج السردية الشعرية. هذا التعدد في الوجود/ خمسة كائنات هو احد الأسئلة الصاعدة في القراءة. مثلما اعتقد فان خالد البابلي منح الراوي، الذي اختاره بديلاً له، أو نائباً عنه أن ينتج الاستهلال. وربما يثار سؤال وجيه حول وجود الاستهلال من عدمه، لأن النص قصير للغاية ولا يحتمل وجود الاستهلال، كما هو حاصل في النصوص أو المرويات الأطول قليلاً. أنا أعتقد بأن الاستهلال ماثل فيه، ولا علاقة لطول النص أو قصره بذلك، لأن البنية الفنية حاضرة في النص المكتمل، والاستهلال لا يشترط الطول، بل يقتضي أولا وجود وحدة لها عناصر فنية.
أكثر العناصر حضوراً في هذا النص هو الأنا/ الراوي/ الذات، التي وضعت نفسها في اختبار اثارة السؤال، وهو انطولوجي وليس سهلاً، الوجود، والكينونة التي غادرتها الشمس، أو أوشكت على ذلك الأنا/ الكائن الواثق الذي تطوع للطلب من أمه كي يغادرا الى أين؟ هذا ما لم يفصح عنه النص الآن والمثير في استهلال النص هو الإمكانية المميزة للكائن/ الراوي أن يطلب، مستجيباً للسلطة التي يشعر بها لديه، أو الممنوحة له من العائلة؟، أو هو اكتسبها ولا ندري هل زاولها من قبل أم لا؟ وهذا سؤال ثقافي وكينوني أخر.
قلت لامي، هيا بنا
الراوي + الأم، اثنان، وبنا تنطوي على أشارة للجمع والجمع أكثر من ثلاثة. وأننا، في بداية المقطع الثاني تؤكد حضور الجمع هيا بنا: أين كانوا؟ والى أين يمضون؟
أننا في نهاية الشمس
نهاية الشمس، غيابها وابتداء الظلمة، يعني نحن بنهاية يوم كامل. مضى علينا ونحن في مكان بعيد عن مكاننا وعلينا أن نفكر في العودة سريعاً. لكن نهاية الشمس في النص الشعري نهاية حياة/ فالنور هو الحياة كما في الزرادشتية، والشمس هي السماء البيضاء كما قال هايدجر، والظلمة، ليل، سواد، حزن، عالم سفلي هذه زاحفة على الأنا/ الذات لذا قال لامه، هيا بنا. أننا في نهاية الشمس/ نهاية العالم، وربما عالم الأنا/ والآخر/ الأم وليس عالم خارج عنهما، وبعيد، عن المتشارك معهما.
غياب الشمس إشكالية في الشعر، لأنها تمتع بإمكانيات قراءة واسعة وعميقة، أول تأملاتنا لمعنى الشمس، علاقتها مع الفتوة والشباب وهذا متأت لي من معرفتي لختم اسطواني أكدي سأتحدث بإشارة سريعة عنه لاحقاً.
أننا في نهاية الشمس: استراحة الطبيعة من وظائفها اليومية. صمت الأرض، وبروز السماء بما امتلكت من نجوم وكواكب وربما قمر أيضا. نهاية الشمس فيه استعارة عالية توهم بنهاية الكائن الحي، لكنها ليست كذلك. وأكثر بروزاً فيها هو مفردة نهاية، وما تثيره في النفس من مخاوف وريبة.
أنها المحطة الأخيرة لشيء استمر طويلاً ويتوجب عليه وفقاً لقوانين ثابتة أن ينتهي أو يموت قليلاً أم طويلاً. موت رمزي ومن المحتمل فيزيائي. والنهاية التي يشير لها المقطع تفضي لمحمولات تراجيديا.
لذا أعتقد بأن الراوي/ الأنا يزاول سلطته في الكلام "هيا بنا" للهروب من شيء توقعه، ولم يقله بصراحة، لأنه يعرف جيداً بان أمه التي تتسع لتحتل دور الأم في الأسطورة، هي العارفة، والنبوئية، وهي غير قادرة على الاعتراض، أو التحفظ، وربما سبب ذلك هو سيادة الخطاب الذكوري، حتى ولو كان دورها ـ الأم ـ مماثل لدورها في الأساطير سابقاً، فهي قد خسرت لحظتها في الثقافة وإنتاج الخطاب، وصعدت البطرياركية، انه الابن المعروفة علاقته مع الأم الكبرى. وعليها القبول بالأمر الذي بثه لها مباشرة، والاستجابة من أجل إنقاذ ممكن ومحتمل، ونهاية الشمس تعطل مؤقت لوظائف الأم/ الطبيعة، وعلى الرغم من أن هذا التعطل موت مجازي، لكنه مثير لريبة الابن/ الإله الشاب والأم الكبرى. ولم تكن النهايات بعيدة عن مثل هذه النهاية، فكل الآلهة الشباب في سومر واكد هم ضحايا الظلمة/ والسواد/ نزلوا للعالم السفلي، بعد أن طاردهم الموت، منهم من عاود انبعاثه ومنهم من ظل في الجحيم.
نهاية الشمس، نهاية لكل ما تستولده لحظات النور من فرح وسعادة. نهاية الشمس غياب لمقدس مرئي، تراه العين ولا تواجهه وحضور الطبيعة واضح في النور وكما قال هايدجر: الأرض ليست أرضا إلا بوصفها أرض السماء، التي هي بدورها ليست سماء إلا من خلال ما تنجزه نحو الأسفل، على الأرض.
حلول الظلمة، ترقب لانبثاق الفجر، الذي فيه حضور جديد، وهو عود متكرر للشبيه، لكنني أذهب في قراءة هذا النص الى نوع من يوتوبيا النص، التي لن تتحقق، ولن تكون سوى حضور في الحلم، والغياب هو الماثل.
ربما تحتمل القراءة الإشارة أيضا الى نهاية الشمس، هي استراحتها ومن ثمة عودتها مثل الفجر، وهذا ممكن جداً ، لكنني ومن خلال يوتوبيات النص أجد غير ذلك، أو أتحمس لغياب الكائن وبقاء كينونته فارغة، ليس فيها سرديات، تتداولها الجماعات، إلا أن يهبط النسيان.
هل طرح الشاعر خالد البابلي قضيته الوجودية واشكاليتنا نحن البشر، من خلال علاقتنا مع الوجود؟ هل نحن نمنح الكينونة صفتها؟ أم تعطينا صفة الكائن؟ الكينونة هي الأصل والموجود هو اللاحق وفي نهاية الشمس غياب للموجود وبقاء الوجود وحده.
الأنا/ الراوي هو منتج الكلام/ الشعر وكلاهما مندمجان معاً احدهما يفضي للآخر ويغذيه بالجمال والحيرة والقلق. ولولا الكلام ما كان الشعر حاضراً "الشعر هو تأسيس للوجود بواسطة الكلام". الشعر كامن في اللغة وهي تمنحه كل إمكاناته، وتغذينا للذهاب إليها بعيداً وعميقاً. من هنا أعتقد بأن نهاية الشمس، موجعة وفجيعة استعارية والشعر معني بها، لكن لا يعني أنه بعيد عن اليومي، هو لا يقوى بمعزل عنه، هو قادر ـ الشعر ـ على التقاط تجوهراته الشعرية.
الأنا داعية، وصاحبة قرار: قلت لأمي هيا بنا. انه يحثها على العجلة، لا بل الهروب. واتضح لي كقارئ بأن الشاعر خالد البابلي اعتمد على الشعر في ابتكاراته للغة خاصة به، وصفعنا بها. لكننا توصلنا الى مفهوم يشير الى الموجود في وجوده هو نهاية الشمس/ الغياب وليس الحضور، وإذا افترضنا نوعاً من الحضور فهو يوتوبي أو حلم ننساه لحظة الاستيقاظ.
الشعر وحده اقترح نهاية للشمس وللحياة في الطبيعة. لأن ما فيها بدون شمس لا ينمو ولا يعيش. نهاية الشمس احتراق وتحولات الى الرماد. ولا ندري هل يأتي بعده انبعاث أم لا؟ أراد خالد البابلي في هذا النص؟ خدش الميتافيزيقيا والشطب تماماً على الاخناتونية التوحيدية. وعطل كلياً أهم العناصر والأنماط الرمزية العليا. وسجل لحظة دخولها في الجبل/ السماء/ آنو عن أداء وظائفه وتوقف المطر عن الهطول، وبقاء الأرض بدون إدخال، فلا شيء ينبت وكل ما هو موجود آيل للجفاف.
الاعتراف بكينونة الأخر واحترامها، يتبدّى عبر القبول بمجاورته، والتحاور معه. ويفضي هذا الى مشتركات بين أطراف الحوار الذي لم يكن بصفته هذه إذا لم يتوفر على طرفين، لن يكون حواراً. يصير مثلما هو معروف انفراداً، أو حواراً داخلياً، ويفقد الكائن آنذاك صفة التشارك، والصلة مع الجماعات. وخسارة تجديد القرابات المتخيلة. قال هولدرن "اننا "نحن البشر" حوار. ان وجود الإنسان يتقدم باللغة وفيها". إلا أن هذه اللغة لا تكتسب حقيقة تاريخية فعلية إلا في الحوار، والحوار ليس مجرد طريقة تكتمل فيها اللغة، بل نستطيع أن نقول أن اللغة جوهرية لأنها حوار... وما نعنيه بكلمة "لغة" أي هذا النسق من الكلمات والقواعد التركيبية ليس سوى مظهر خارجي للغة. لكن ماذا تعني كلمة "حوار"؟ بديهي أن يكون الحوار فعلا إذ يتكلم بعضنا الى البعض الأخر حول شيء ما فتكون اللغة هي الوسيط الذي من خلاله يستطيع واحدنا أن يتصل بالآخر.
الابن طرف الحوار الأول، لا لأنه الابن، أو الأصغر، بل لأنه استشرف وتنبأ بالذي سيكون قبل أن تدرك أمه ذلك، وحتما استجابت لما قاله لها، لكن النص لم يبيّن ذلك أبدا، ظل موقف الأم غائباً، ولم يكشف النص بعضاً منه، ولو توفر هذا، لتمكننا من البعض القليل وعمقنا القراءة.
اصدر أمرا لأمه ـ وهذا خارج المألوف ـ لأن أمه مقدسة، هذا ما قاله الله، الذي جعل الجنة متحركة معها وتدوس عليها، أو يتحول كل شيء أثناء حركتها الى جنة، حتى وان كانت استعارية. للأم قدسية ومحيطها الذاتي مزدحم بشعائره الخاصة وربما لديها مزاولات لحظة نهاية الشمس، ولم يشأ الابن تأديتها.
* *
في النص أساطير عديدة، ذكرنا بعضها تلميحاً، لأنها تتسع بالتشاكل مع بعضها في هذا النص الذي انطوى على خميرة أساطير، ولكني أجد ضرورة للعودة للختم الاسطواني الاكدي الذي ذكرته في بداية المقال، لأن هذا العمل الفني يضع الابن في مجاله الحيوي، وأعتقد بأن النص كله، هو المجال البنائي والفني للابن/ الإله الشاب تموز "وهو يخرج من تحت جبل على ما يبدو، بينما تظهر إلهة جالسة على الأرض وهي تمد يدها لأعانته على الخروج. ويظهر في جهة اليسار من هذا المشهد اله ينتزع الأشجار والنباتات من فوق الجبل. ويعتقد بعض الباحثين أن هذا الإله يرمز الى دور الشمس في أشهر الصيف المحرقة حيث تسبب جفاف المزروعات واختفاء الخضرة من الأرض. وبموجب ذلك يكون الجزء الأول من المشهد تعبيراً عن فكرة بعث تموز، وما يصاحب ذلك من عودة الحياة الى مظاهر الطبيعة المختلفة. أما الجزء الثاني فانه يرمز الى موته في موسم الصيف.
ذكرت سابقاً أن هذا النص ذاكرة أساطير، لم يتعامل معها بالتفاصيل السردية، وإنما بشفرات مميزة لكل منها ومعرفة بها، أو تتشكل أسطورياً من دلالات تصطف مع بعضها لتقول لنا ما يفضي بالقراءة نحو هذا الفضاء الذي نريد.
النص وصية وطلب الابن لأمه المتخيلة أو المستعادة من الأسطورة، بمعنى المقدس موجود، ويتمتع بحضور جوهري، يتمثل بالأم التي شكلت طرف المجال الحواري، وبعد الفشل في تحققات حلمه/ اليوتوبي لم يبق أمامه غير الذهاب الى ما هو غير موجود في الوجود:
فساعديني للوصول
الى أبي
أو الذهاب الى حفدتي
وهم يرقصون.
أزاح هذا المقطع الخاص بأحفاده طبقات متراكمة فوق بعضها وهي مثل الإجابات على عديد من الأسئلة. أهمها لم يكن الابن متزوجاً، ولم يفصح النص عن ذلك ولم يقل لنا بوجود أولاد له، تزوجوا ونجحوا في تحقيق أحلامهم بإنجاب أولاد لهم. ويلاحظ بأن النص حلمي حتى في نهايته. اختفت كل الأصوات في النص وبقي صوت الابن مسموعاً، ولسانه متكلماً فقط وكل من كان في النص صامت، حتى الأم المجال الآخر في الحوار لم تقل شيئاً. طرف واحد سرد علينا حلمه وأسطورته، وهو الابن والذهاب لأحفاده استمرار على إيقاع ذات الأسطورة وقداستها وأخيرا أعتقد بأن هذا النص عبر عن يوتوبيا وأساطير خاصة بالابن وأمه وأبيه وأحفاده، هم مملكة الابن الحاضر والأم غائبة والأب لا وجود له كذلك الأحفاد، هؤلاء كلهم تخيلات في ذهنية الشاعر، قادتهم نهاية الشمس نحو مملكة وهمية/ خالية، فارغة، لا شيء فيها. الظلمة. وكانت نهاية الشمس كل شيء، وربما استطاع الراوي الهروب والخلاص بجلده فقط وتعطل الوجود، وغاب الموجود. حتى الرقص لا عيد له ولا طقس. أخيرا لابد من الإشارة الى الهيكل الجديد وهو
الأب + الأم
الابن + أولاده + أحفاده
وهؤلاء معا مملكة اليوتوبيا وأسطورة الوهم.