ادب وفن

قراءة فوتوغرافيا " حامل المظلّة" حكاية المصير وأسئلة الغياب / ناجح المعموري

الجسد كشاف عن ثقافة الشخص وما يتمتع به من جمالية واضحة على الرغم من غياب الرأس. وينطوي هذا على أولية الجسد وتغييب العقل، الذي تمركز كثيراً في الديكارتية من خلال الكوجيتو.
حيث تحول الجسد الى مهيمنة فاعلة بتأثير الأفكار النيتشوية التي تعاملت بقسوة مع العقل المعطل للدور الذي يتمتع به الجسد، بمعنى الإعلاء من دور الحسيات وقد اختصر الفوتغرافي ذلك من خلال اليدين ورمزيتهما القضيبية المختصرة كلياً لدور الكائن في مجالات الحياة ومنح الجسد ما يستحق ـ توفر فعاليات خاصة به عديدة كذلك أشار المفكر سينوزا بفاعلية نحو الجسد لما يتميز به بسبب توفر قوانين خاصة تتناسب مع طبيعته، كي يقوم بأفعال ينبهر بها العقل. ومثل هذه الآراء هي "التي دفعت نيتشة نحو شن حملة فكرية نقدية للدفاع عن الجسد ونقض وتحطيم يوتوبيا العقل التي تبنتها الفلسفات العقلية منذ سقراط مروراً بأفلاطون ووصولاً الى ديكارت، والتي أعلنت الحرب على الغرائر وتأمرت على الحياة. واختلقت أسطورة التراتب، وأقحمت الفكر بثنائيات متناقضة مثل ثنائية العقل والجسد أو الروح والجسد أو المعرفة والحياة أو الفكر والغريزة وغيرها. والتي أفضت في كل أشكالها وفقاً للتصور النيتشوي الى كبت الجسد واحتقاره وعطلت قواه وصادرت الحياة بتسميات جوفاء / د. هجران عبد الإله احمد الصالحي/ فكرة الجسد من الموروث الحضاري الى فلسفة نيتشة.
يتسع هذا الرأي نحو ما تمركزت حوله الفلسفات منذ الإغريق حتى المثالية حول تهميش الجسد وإعلاء شأن العقل وضرورة الاقتناع بدوره الحياتي وهيمنته على الكائن. وإخضاعه لضوابط تعامل معها نيتشه بوصفها نوعاً من الاختلال في الرؤية، من هنا كانت دعوة زرادشت نيتشة الى تدمير العقل أو تعطيله، ومنح الجسد وغرائزه ما يستحق من فرص أوسع عبر طاقته على مزاولة وظائفه وعدم الاكتفاء بالتوصيف، بل التوجه نحو الكامن في الجسد من طاقات متحركة، ودائماً وليست متعطلة والعمل على تحفيز ما هو لا شعوري في جسد الكائن غياب الرأس في فوتوغرافيا الكائن إعلان صريح عن موقف نيتشة والمتمثل بطرد العقل من مملكة الإنسان واستحضار الجسد، ونفي كلي لليقينية وحقائقها المطلقة والتي تعامل معها بوصفها مزيفات للحياة وكابحة. ولابد من الإشارة الى أن زرادشت النيتشوي لا يرفض العقل بطريقة فجة ، ولكنه يرفض الدور الذي يلعبه العقل في الفلسفة التقليدية، أي يرفض طغيان العقل أو المبالغة في تقديره، على حساب الجسد وغرائزه. فالإنسان يجب أن يستعمل العقل ولكن ليس من اجل أن يشن حرباً ضد الغرائز، ففي الإنسان السوي ينسجم العقل مع الغرائز ويؤديان دورهما في تناغم أو تبصير نيتشوي ينسجم العنصر الابولوني مع العنصر الديونيسيسي.
يمكننا استقراء هذا الرأي ونشير الى أن الموقف النيتشوي واضح بعلاقة الجسد في لاوعيه، لأنه يحسب الجسد لا شعورا والعقل والروح هما يعبران عن الشعور/ الوعي وهذا ما أكد عليه في مقولته الشهيرة حول أمكانية الجسد الادهاشية هي الأكثر من الشعور والوعي، "فالجسد عقل عظيم، تعدد ومعنى موحد ، حرب وسلام، راع وقطيع".
قصدية الفنان واضحة ـ ويجب أن نتعامل معها هكذا ـ ويفضي هذا نحو موقف آخر له يتمثل في ضدية الفنان ومعاكسته للديانة المسيحية التي منحت العقل سيادة مطلقة، لأنها وسيلة مناصرة للضعفاء الذين لا مكان لهم في مملكته، هو طارد لهم لأنهم لا يعرفون الحياة القوية لا بمعنى القدرة على التدمير والإبادة، بل الذهاب نحو التسامي الخلاق والذهاب نحو التمرد الحقيقي ضد السائد والابتعاد عن المكرس الرافض فقط بوصفه نوعاً من "الخداع والعبث"... فالمسيحية عملت طوال تاريخها على صنع وإنتاج. حملة من القيم التي ناصرت كل النزاعات التشاؤمية الحاقدة على الحياة والزاهدة في مباهجها، وحسب رأي نيتشة "أن الأخلاق المسيحية هي عبارة عن انتفاضة ضد الحياة، وان هذه العداوة للحياة تصبح لدى المسيحيين أمرا شبه مقدس.
تتشظى المظلة دلالياً وتتحرك باستمرار، ولا تتعطل وتتمتع بدور مركزي مع الشخص المستثمر، لها بتنوعات عديدة في حياة الآخر أكثر مما هي عليه من وظائف عندنا. وأكثر تمظهراتها الوظيفية شتاءً. وهذا الفصل هو الأطول في البلدان الاسكندنافية.
لذا منظرها محمولة مألوف لحظة مغادرة الأشخاص مساكنهم ، لان المطر لا وقت محددا له، انه حاضر باستمرار، من هنا دائماً ما تكون المظلة حامية للشخص، واقية له من البلل المؤقت وليس الدائم. وربما يستعملها الإنسان بديلاً للعصا، يتوكأ عليها ويستعين بها لحظة النزول والصعود أثناء حركته، ولابد من استذكار وظيفتها الوقائية ـ من الشمس في مناطق أخرى.
ملاحظة فتوغرافيا ـ حامل المظلة ـ سنكتشف نوعاً من الدقة والتوازن في خط نزولها بين فخذيه وقدميه. وأنتبه الفنان صدام الجميلي للزاوية التي وقف عندها الشخص، ويبدو أن هذه الانتباهة ذكية، أسست/ أو اقترحت حضوراً لليمين في التصميم المتشارك بذلك مع الفوتوغرافيا.
ملاحظة سريعة الدقة نزول المظلة وتوازنها يكشف لنا تحقق ما يشبه الانشطار في المساحة المتكونة بين قدمي الشخص، وقد صاغا معاً مثلثاً قصير القاعدة، وطويل الضلعين وكونا رأساً طويلاً ومستدقاً للمثلث، يبدو بان الفوتوغرافي منشغل جدياً بإضفاء تصوراته الرمزية على الصورة، لأنه لم يكتف بوجود المثلث الأول الذي اشرنا له، بل ذهب بعيداً، مستثمراً المظلة بنزولها المستقيم بين ساقيه، ليبتكر عبر ذلك مثلثين آخرين، أحدهما على اليمين والآخر على اليسار، شكلهّما انشطار المثلث الأول، وهو الأكبر.
تثير رمزية المثلث سؤالاً جوهريا حول دلالته الراشحة عنه وما تعني بالنسبة للآخر ولنا. فالمثلث له محمولات دلالية مبكرة في حضارات الشرق منذ سومر وحتى بلاد الإغريق.
كانت الدائرة الشكل الهندسي الأول، الأكثر حضوراً في الثقافة والدين وجاء المثلث ثانية ليتحول رمزاً جوهرياً في الفن العراقي القديم وأطلق عليه علماء الميثولوجيا "المثلث العاني" يشير للذكورة إذا كان صاعداً نحو الأعلى وللأنوثة إذا كان نازلاً للأسفل وظل هذا الرمز بارتحالاته وحيازته لمحمولات جديدة عند الآخر، حيث تكمن فيه عناصر دينية مركزية كما في المسيحية "الأب/ الابن/ روح القدس"/ وأيضا في الإسلام ولا أريد التوسع بذلك وهو مفتوح كثيراً، لأنه يمثل نظاماً واحدا في الثقافة والدين.
* * *
للسواد مساحة مهمة في فوتوغرافيا واحدة، وصاغ جمالية الصورة، وتكرر السواد فيها أفضى للدنو أكثر من الشخص الواقف أمام البحر، وقفة كان ماء البحر بديلاً للمطر المتوقع نزوله، وعلى يساره يتدلى مقبض مظلة أخرى، توزعت بين البياض والسواد، ومنح الفنان هذه الثنائية حضوراً متمركزاً، تولد عنه انجذاب يشعر به المتلقي، وأعتقد بأن هذه الفوتوغرافيا القديمة حتماً، أي لم تلتقط الآن، بل هي مولدة في زمن غير زماننا، وحضورها الآن في هذه القراءة، حضور من نوع آخر، ثقافي وجمالي، فرضت ثنائيتها علي وعلى من يراها، بمعنى ظلت قابلة بوجودها باستمرار، ولن تنفك عن تجددها المستمر، من خلال تعدد وتنوع المتصلين بها والمحاولين فك شفراتها، ومن هنا خضعت هذه الفوتوغرافيا للسيرورة المستمرة، ولن تكتفي بحضور مؤقت، بل متحرك، ممنوح لها من طاقتها الكامنة فيها وهي طاقة قابلة للتغير والتحول، لأن القراء كثر، وكل منهم يلتقط تجوهراً كامناً فيها. وباختصار شديد، حياة الصورة في مستقبلها.
الوقوف أمام البحر كشاف عن نفسية الرجل وهو في حيرته وقلقه متأملاً فضاء البحر الواسع/ والشاسع جداً، هو يعرف في تصوراته جغرافياته العديدة الممتدة بعيداً عنه لا تستطيع تجاهل رغبة الشخص في الهروب والخلاص، من أزمته الإنسانية، وما توضحه الصورة من ترقب لما سيكون، ظل هذا مجهولاً لنا، لأن سردية الفوتوغرافيا، تعطلت في حدود مكان معروف، ولم تمنحنا مكملات لها. وقفة الرجل متوترة، على الرغم من الهدوء الظاهر، لأن غياب الرأس علاقة تومئ لنا بذلك، وتعلن بصوت مسموع أن هذا الشخص مضطرب دينياً وقلق، لأن المسيحية اهتمت بالعقل/ الرأس وفوضته بسلطة اخضاعية، وباختصار شديد هذا الرجل نيتشوي واحد أحلامه الذهاب بعيداً نحو فضاءات مغايرة وجديدة توفر له فرصاً لإشباع غرائزه. كما أن غياب الرأس/ العقل يمثل احتجاجاً على الحداثة الغريبة التي جعلت من الكائن خاضعاً لسلطة العقل وهيمنة الكوجيتو الديكارتي ولا يستطيع قارئ هذه الصورة، التفكير ببراءة الفنان وهو يلتقطها بعد أن خطط لها طويلاً وكثيراً.
اتسعت مساحة ثنائية اللون، لا لأنهما صاغا إيقاعا بسبب التضاد، وإنما لأنهما يومئان بمبتدأ أساطير الخلق والتكوين، وحاز الأسود رمزيته من ابتداء الخلق في سومر واستولد الأبيض.
برز البياض مركزاً. لافتاً للانتباه في نهايتي كمي القميص مع مشبكات المظلة المغلقة باليد، وشكّل البياض في ممسكات المظلة عازلاً واضحاً ومثيراً بين سواد المقبض وقماش المظلة، التي تبدّت في قسمها العلوي تحت المشد الملتف حولها انتفاخا قليلاً ، فيه صفة ذكرية، وتنفتح هذه الصفة شيئاً فشيئاً حتى تصل الى النهاية المدببة النازلة في مساحة سائلة، وكأنها تومئ لنوع اتصالي، تمظهر واضحاً، وهو يتجاوز خط ارتجاج المياه في نهايتها بالخط الأسود، وتقترب نهاية المظلة المدببة من الاتصال الايروسي، بعد تجاوزها للخط الأسود، وهو يتسع بارتجاجاته. وتتسع مساحة الايلاج والتغيب بين القدمين، بامتدادها الذي يومئ الى غور عميق. يده اليسرى حاضنة ليمناه وقد امسك كفها بمقبض المظلة. اتضح البنصر منفرجا قليلاً والإبهام ممتدا ليعلن عن حجمه المغاير والثلاثة بينهما ضاغطة على مقبض المظلة، وتبدى المشدّ واضحاً وحواف الماسك لها أبيض. المظلة متناظرة مع لون بدلته السواد الطويلة. ونهايتها متجهة نحو الأسفل كثيراً ، نازلة في الماء.
اليد اليمنى ممتدة باستقامة بيّنة وانحراف اليسرى من عضدها لتلتف على رسغ اليمنى بهدوء واضح، لكن الجو فيه شيئ من العصف في وسط الصورة. لكنه غير مؤثر على لياقة الرجل، وأناقة ملبسه، وكأنه تمثال نحتي، تجعدات بنطلون القدم اليسرى أبرز حافة حادة تشكلت نهاية الجانب الأيسر من سترته. الشخص واقف بثبات، مواجهاً عصف البحر كما يبدو وكأنه حتماً ومعه. ومعلنا بصمت عبر وقفته عن حلم سهل وليس معقدا بالارتحال. حلم مختلف عن أحلام أبطال الملاحم التي أنتجت لهم مغامرات عديدة. الرجل بوقفته، يعلن لنا اضطراب الكائن وعدم استقراره. يريد خلاصاً ولم يجد الفنان ما هو دال على ذلك غير الوقوف أمام البحر، وذهب أكثر لمساعدة المتلقي للامساك برأس الشفرة الانطولوجية.
غياب الرأس هو الشفرة المعبرة عن محنته، ليس الفردية، بل الجمعية ، لأن الكائن على الرغم من معرفته بحدود فردانيته في الغرب، فانه يدرك جيداً التماثل بالمصائر بينه وبين الجماعات، والتساوي بادراك المصائر، وما تفضي إليه الأسئلة الانطولوجية حول ثنائية الحياة والموت، المعبر عنهما بالفوتوغراف، انه نوع من الكتابة، لأنه اثر أو مجموعة أثار كما قال جاك دريدا.
أشار الناقد خالد الصالحي الى علاقة الفنان علي طالب البنائية مع الرأس المقطوع في لوحاته لفترة طويلة واعتبرها تعبيراً عن محنة الإنسان، هذا دقيق جداً. لكن الفارق بين التجربتين حضور مرئي في اللوحة، يومئ الى ملاحقة وإخضاع، مثلما يشير الى التعطل. وهكذا تجربة ـ علي طالب ـ لا تحيل خارج فضاء الايديولوجيا، لأن إشكالات الكائن في الفضاء العربي ليست متطابقة مع أسئلة الإنسان في الغرب التي صاغتها الفلسفة منذ زمن مبكر، وما يزاوله الإنسان هناك يتماهى مع وعيه الإنساني ومعرفته الثقافية للإشكالات المواجهة له، والصادة لتحقق طموحاته.