ادب وفن

الأسطورة بوصفها بناء فنيا للشعر / د. نورالدين أعراب الطريسي

تمهيد: يدخل هذا الموضوع في إطار المسألة البلاغية للخطاب الشعري، ويحاول أن يعالج قضية من أهم القضايا التي تصدى لها الدرس النقدي والبلاغي، بالتنظير والتحليل وتتمثل في الأسطورة بوصفها بناء فنيا للشعر.
لقد تعددت زوايا المقاربة، وطرق التعامل مع الأسطورة من طرف الشعراء، وهو ما أدى إلى اختلاف البناء الفني للقصائد، التي كتبوها وتفاوت درجة شعريتها وبلاغتها ما بين بناء سطحي وبسيط، تحضر فيه الأسطورة كمكون لغوي فقط يطفو على سطح القصيدة، دون أن ينصهر بأعماق مكوناتها التصويرية والدلالية والخيالية، ونوع آخر من البناء، مختلف ومغاير تنفذ فيه الأسطورة إلى أعماق الخيال الشعري. وهو ما ينعكس على اللغة الشعرية نفسها، وعلى شعرية القصيدة.
مثلت الأسطورة في الشعر العربي المعاصر رافدا معرفيا، وجماليا، في الوقت نفسه وبذلك يمكن القول إنها مكون أساس من مكونات القصيدة العربية المعاصرة. نذكر على سبيل المثال لا الحصر تجربة السياب والبياتي وأدونيس...
الأسئلة التي تلح علينا في هذا التمهيد، وسنحاول أن نجيب عنها لاحقا هي: كيف نتعرف على النوع الأول والنوع الثاني من البناء الذي تخضع له الأسطورة داخل الشعر؟ ثم ما علاقة الأسطورة - كمقام فني ومعرفي وشعري - بلغة الحلم والرؤيا داخل القصيدة الشعرية؟.
1- تعريف الأسطورة
نقتبس من كتاب "نظرية الأدب" التعريف التالي:"وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر في عصر التنوير كان للمصطلح معنى سلبي: كانت الأسطورة تخييلا- بمعنى أنها غير صحيحة علميا و فلسفيا. ولكن في العلم الجديد، إن مفهوم الأسطورة مثل مفهوم الشعر هو نوع من الحقيقة أو معادل للحقيقة ليس منافسا للحقيقة العلمية أو التاريخية بل رافد لها".
يفيدنا هذا التعريف في التعرف على الفرق بين نظريتين أو تصورين مختلفين ومتناقضين للأسطورة داخل الثقافة الغربية، الأول تعريف سلبي كان ينظر إلى الأسطورة من زاوية اعتبارها مناقضة للحقيقة والعلم، لأنها قائمة على الخيال، والخيال أو التخييل لا يمكن إثبات صحته علميا، حسب أصحاب هذا التصور الأول، لذلك تبقى الأسطورة عندهم غير علمية وغير صحيحة. أما التصور الثاني الذي نجده في هذا التعريف، فيبدو أنه حصيلة مسار معرفي وإبستملوجي طويل في الثقافة الغربية، بدليل أنه قام بمراجعة التصور السابق وتغيير النظرية إلى الأسطورة بشكل جذري. إنه تصور يحسب الأسطورة نوعا من الحقيقة ومعادلا لها وليست مناقضة لها أو للعلم، والأهم من هذا أنه يلحق الأسطورة بالشعر، أي أنه يضعها في خانة الفن الإنساني الكبير تدخل في إطار كل هذه الإبداعات البشرية والمنتمية إلى التراث الفكري والفني والثقافي الإنساني بوجه عام.
2- الأسطورة والبناء الفني للشعر
هل للأسطورة دور ما في بناء القصيدة؟ إن كان الجواب إيجابيا فما هو هذا الدور ياترى؟ وبعبارة أخرى ما الذي يمكن أن تضيفه الأسطورة إلى بنية القصيدة؟
جوابا على هذا السؤال نعود إلى كتاب "دراسات في نقد الشعر" للناقد إلياس خوري. يقول في معرض تحليله لقصيدة محمود درويش "سرحان يشرب القهوة في الكافتريا": وسرحان هو رمز لشخصية أسطورية داخل القصيدة. وهو بهذا المعنى جزء من محاولات إخراج القصيدة من رخاوتها الرومانسية، وإدخالها في التجربة الملموسة. فالشعر العربي المعاصر بعد أن كسر العمود الشعري، واجه نفسه بضرورة كسر الإطار العمودي الذي في القصيدة. لذلك لجأ إلى الرمز والأسطورة. والأسطورة تجيب على أكثر من حاجة إنها أولا تجسم الحدث تكسر الحالة الرومانسية رتابتها عبر الخروج من الواقع إلى رموزه. فالأسطورة تقيم المسافة، تحرر اللغة الشعرية من ضرورات المباشرة وتلعثمها، ومن الإنفعال المباشر الذي يتكسر داخل الشعر في موضوعات مكررة. الأسطورة هي إطار لحظة انتقالية تجسيم للإنفعال في بنية شبه قصصية. أي أنها خروج من الإنفعالية المباشرة ومحاولة لعقلنتها."
نلاحظ أن الناقد إلياس خوري يربط في هذا الشاهد الأسطورة بلحظة أساسية من لحظات القصيدة، يمكن أن نسميها بلحظة النضج أو أيضا لحظة العمق الفني. ويكمن هذا الدور الذي تلعبه الأسطورة أو الرمز-عموما- في نقل القصيدة من رخاوة الرومانسية - بتعبير الناقد - إلى مرحلة أخرى أكثر نضجا وعمقا وإدراكا. وسندرك هذا الأمر جيدا، إذا استحضرنا الفرق بين البداية الأولى لتجديد القصيدة العربية "الشعر الحر" وبين ما لحقها من مراحل. فبدايات الشعر الحر لم تتخلص من تأثيرات الرومانسية وسذاجتها ومن الانفعال البسيط للذات تجاه العالم والوجود، نظرا لقرب المسافة من المرحلة الشعرية السابقة "الشعر الرومانسي ". ولهذا نجد في هذا الشاهد إشارة واضحة إلى عدم اكتمال العملية الأولى لتكسير بنية الشعر العربي بظهور حركة الشعر الحر، إلا بالعملية اللاحقة. فبعد أن تم تكسير العمود الشعري للقصيدة، عمد الشعر العربي إلى تكسير الإطار العمودي للقصيدة في إشارة إلى دخول القصيدة العربية مرحلة جديدة من النضج والرشد والعمق باعتماد الرموز والأساطير. ولهذا السبب نلاحظ وصف الناقد إلياس خوري لهذه العملية الحاسمة بالخروج من الإنفعالية المباشرة، التي يقصد بها النزعة الرومانسية البسيطة للتعامل مع الوجود، إلى محاولة العقلنة التي تعني اكتمال التجربة الشعرية، أو على الأقل نضجها وتطورها وتحسن أدائها الشعري بتوظيف الرمز والأسطورة اللذين تكمن أهميتهما في التلميح بدل التصريح، والخروج من الواقع إلى رموزه الفنية، وهذا ما يخرج القصيدة من بساطتها ورتابتها وسطحيتها، لتكون عملا فنيا راقيا.
ويقوم أدونيس نفسه برصد هذا الفرق الجوهري بين البدايات الأولى للشعر الحر، والمرحلة اللاحقة، وهو فرق بين مرحلة ابتدائية ومرحلة ناضجة وعميقة أدخلت القصيدة العربية في تجارب مختلفة وقوالب فنية غنية، بما اصطلح عليه بشعر الرؤيا والحلم...
ومن جهة أخرى، يكمن دور الأسطورة في لعبة القناع الرمزية، لإنقاذ القصيدة من المصادرة والتعسف وقهر النظام السياسي: "في ظل غياب الديمقراطية ومصادرة الكتابة، فالرمز الأسطوري يسمح للشعر أن يقول ما لا تستطيعه الكتابة المباشرة".
إن اللجوء إلى الأسطورة ورموزها كان استجابة لمتطلبات المرحلة، التي تفجرت بأسئلة جديدة وملحة، فرضها الواقع العربي الجديد، اجتماعيا وسياسيا وفكريا وثقافيا، فكان لابد من تجاوز الرؤية الرومانسية: "فلقد انكسرت الرومانسية العربية بسرعة، فرضها تفجر الواقع، وبعد فاصل المراوحة الشعرية _الخيالية_ التي تسمى الرمزية، فتح الشعر العربي على احتمالات لا تحصى"، كل أسطورة يمكن اعتبارها رمزا، والعكس ليس صحيحا، أي ليس كل رمز أسطورة بالضرورة.
هذا المستوى الأول من التحديد، يميز بين الأسطورة والرمز، وإن كان موضوع الدراسة لا يستدعي التوقف بالتفصيل عند هذه النقطة، إنما قد يتطور الرمز ليتحول إلى أسطورة. أما المستوى الثاني من التحديد - ارتباطا بموضوع الدراسة - فيتعلق بتصورنا لنمط البناء الفني الذي تخضع له الأسطورة داخل الشعر. وهنا نجد أنفسنا بإزاء نمطين أو نموذجين مختلفين إلى حد التناقص: نموذج سطحي يعتبر حضور الرموز الأسطورية كافيا لوحده لخلق الوحدة الفنية للقصيدة، ونموذجا عميقا يتصور الأسطورة مقاما لغويا بالدرجة الأولى وفعلا فنيا حيث دراسة في نقد الشعر، تتحول فيه اللغة نفسها إلى كائن أسطوري، وإلى درجة من درجات الفعل الشعري، بمستوى عال من التراكيب والعبارات التي تعكس أداء لغويا أسطوريا. وفي هذا الصدد يقول الدكتور أحمد الطريسي "والتعبير الرمزي_ في ظل هذه الرؤية_ قد يصل أحيانا إلى أعلى مقام في سلم الرموز، أي إلى الأسطورة. وأعني بالمقام الأسطوري هنا: المقام الكلامي الذي يعكس إدراكا عميقا لعلاقات الأشياء في الكون. وليس باعتبار الأسطورة كيانا له وجود، في القصص والأعمال الشعرية القديمة. أي السلسلة الكلامية التي تنبني عناصرها المتفاعلة على صور غير واقعية وغير عقلية، تعصف بحدود الواقع، وتعبث بأقيسته المنطقية".
3_ الأسطورة والرؤيا
كانت بدايات النظر إلى الأسطورة مطبوعة بنظرة قدحية وتصور سلبي. لم يكن هذا الموقف السلبي إزاء الأسطورة، يحكم عليها ويقومها بوصفها ظاهرة إنسانية، تمثل نوعا من أنواع الإبداع البشري، وترتبط بمستوى معين من مستويات الحقيقة. وقد رأينا-في بداية هذه الدراسة - كيف تغير هذا الموقف، وتبدل نتيجة للتراكم المعرفي الحاصل في الثقافة الإنسانية. وقد تطور هذا الموقف الإيجابي من الأسطورة إلى حد ظهور علماء وباحثين متخصصين في دراسة وتحليل أساطير الشعوب المختلفة.
وما يعنينا نحن بالدرجة الأولى، وفي ما له صلة بالموضوع، هو اعتبار الأسطورة درجة من درجات الحقيقة الإنسانية، ونوعا من أنواعها الإبداعية الراقية، المرتبط بمخزونها الفكري والثقافي وتراثها الخالد. وبذلك يكون الفكر الأسطوري واللغة الأسطورية معادلين للحقيقة وليس نقيضا لها. وليس بغريب أن ينسجم الفكر الأسطوري ويتماهى مع اللغة الشعرية وينبثق من داخلها، ذلك أن تعريف القصيدة الجديدة نفسه يقوم على المزج بين المتناقضات التي لا تجمع في واقع الأشياء. فالتعريف الجديد هو هذه القصيدة التي تعتبر بمثابة إبدال جديد في خارطة الشعر العربي المعاصر، ينقلها من تصور فني معين إلى تصور آخر، أكثر عمقا وتطورا ونضجا. فالقصيدة الرؤيا هي قفزة خارج المفاهيم بتعبير أدونيس. والشاعر في هذه القصيدة يقوم بوظيفة هي أكبر من مجرد التعبير بالكلمات وتتجاوز الشعور الرومانسي البسيط، ليدخل القصيدة في لعبة فنية جديدة، تسبح في متاهات الرموز المعادلة للواقع. القصيدة الرؤيا تجربة شعرية جديدة ومغايرة، كان ميلادها مناسبا لحجم ومساحات الإهتزازات والشروخ والتصدعات التي أصابت جسد العالم العربي، فكان من الضروري البحث عن لغة جديدة تلائم وضعية المرحلة وتستجيب لأسئلتها وتستوعب صدمتها القوية على الإنسان والمجتمع والذاكرة والتراث. وفي ضوء هذه المستجدات المتلاحقة كلها، انتقلت القصيدة العربية من الرؤية إلى الرؤيا، ومن الذاكرة إلى الحلم والإشراق. فإذا كان الرمز الأسطوري في الشعر الحر يوظف داخل القصيدة بطريقة مباشرة ليدل على دلالات مرتبطة بالإنبعاث والميلاد الجديد في توظيف تموز كرمز أسطوري، فإن اللغة الشعرية نفسها في مرحلة القصيدة الرؤيا تغدو موضوعا للتجربة، فتصبح الأسطورة ضمن هذا الواقع الشعري الجديد، لا كمفردات معجمية، أو أسام وعناوين، بل كمساحة كبرى تسم اللغة الشعرية كلها، التي تأتي في نوع من البناء الفني مميزاته الكبرى تداخل الأزمنة وتوحيد المتناقضات التي لا تجتمع في الواقع، وإزالة الفروق بين الأشياء:"إن الأشياء في العالم، في بناء هذه الصيغ الكلامية الرمزية، لا تأتي منفصلة عن الذات الشاعرة بل في شكل من الإندماج المطلق، حيث تمتزج الأحلام، وتتداخل الأزمنة وتذوب الفروق، ويلخص الوجود كله في لحظة هي لحظة الرؤيا".
ومن أهم الشعراء الذين تميزت لغتهم الشعرية بهذه الميزة من البناء الفني الأسطوري، نذكر على سبيل المثال عبد الوهاب البياتي وأدونيس، حيث تكون اللغة نفسها مطبوعة بطابع فريد من البناء يصل إلى المقام الأسطوري.
خاتمة/
لم يكن الهدف من هذه الدراسة النظرية إعطاء معلومات - بالدرجة الأولى - بل التركيز على دور الأسطورة في البناء الفني للغة الشعر.
كان الإبدال الأول الذي تحدثنا عنه يتمثل في تغيير النظرة إلى الأسطورة نفسها داخل الشعر، الذي انتقل من مجرد توظيف أسماء الرموز والأساطير داخل القصيدة إلى انبثاق الأسطورة من اللغة نفسها كأداة تعبيرية وفنية. وبناء على هذا التصنيف استنتجنا وجود نمطين من البناء الفني: بناء سطحيا بسيطا، وبناء عميقا يحول عمل اللغة ووظيفتها.
وقلنا إن هذا الإبدال لم يكن ليحصل لولا حصيلة التراكم المعرفي وحجم القطائع المؤسسة داخل هذه المعرفة البشرية، فيما هي تنتقل من مستوى معرفي إلى مستوى آخر أشمل وأعمق وأنضج. وأخيرا، وصفنا هذا الإنتقال والإبدال بالتحول من الرؤية إلى الرؤيا، مع توضيح وتفصيل المقصود بالمفهومين معا. ونختم هذه الدراسة بالشاهد التالي، الذي يلخص جوهر القضية كلها: يقول الدكتور أحمد الطريسي:"هكذا ينبغي أن نميز القصيدة الشعرية التي توظف أسطورة قديمة، والقصيدة الأخرى التي وصلت من خلال بنائها الخاص إلى المستوى الأسطوري، فتكون هي ذاتها أسطورة من غير أن تعتمد على حكاية أو قصة، فالفرق بين القصيدتين كالفرق بين الرؤية والرؤيا".