ادب وفن

يحيى الشيخ.. سيرة الانبعاث من الرماد / ناجح المعموري

قالت ميري ورنوك أن كتابة اليوميات والسيرة الذاتية الفردية قيمة فريدة بالنسبة للبشر، وهما يتحصلان بالرغبة في بلوغ الحقيقة عبر الذاكرة.
تبدّى لي عبر حماستي بقراءة "سيرة الرماد" للفنان المعروف يحيى الشيخ بأنها يوميات وتفاصيل عن تجربة فنية، وتصورات، عودة الى ذاكرة الطفولة عبر مرحلة متغايرة، لكنه ظل ينظر لمحيطه الاجتماعي وطقوسه وعائلته، بعين تلك المرحلة التي شفت عن حساسية ازدوجت بها رهافة الغياب ورؤيته لماض بعيد، لكنه مهيمن وسط ذاكرة يقظة/ وحيّة.
كشف لنا كتاب الرماد، بان كل تفاصيله ليست هي كل ما سجله الفنان يحيى الشيخ، وإنما القليل منه، من بين كم كثير من الدفاتر ـ كما قال .
مثل هذه اليوميات الواصفة بذكاء ودقة، كشفت لنا اعتزازاً بالماضي كله، حتى قيل يوم من تدوين سردية ما، وينطوي هذا على نوع من الإحساس. بجمال الذي كان وأهميته. صحيح هناك فوارق بين اليوميات والسيرة الذاتية لكنها طفيفة. وقالت ورنوك أن اليوميات أكثر حضوراً من السيرة الذاتية في المكتبات والسبب هو شعور الذات المعزولة بضرورة أن تتحول الى شيء ذي قيمة باقية فأنها. تحتاج الى قدر من الحيوية والأصالة يفوق الحد الاعتيادي. وشخصية مثل التي عرض عنها عبر سيرة الرماد لها ما ميزها في لحظات النشوء والتكوين والتبلور سياسياً ثقافياً وفنياً، وهي الدافع والمحفز وراء يوميات تماهت تماماً مع الماضي بلحظاته المعاشة بتنوعاته العديدة مع وجود رابط سردي، تنفتح عليه الذاكرة وتغرف منه وتجعله موقداً ومشعّلاً ومنبعثاً وليس رماداً. أهم ما كشفت عنه تفاصيل الطفولة السردية وجود يحيى الشيخ المندمج بين أفراد عائلته ولاحقاً وسط محيطه، لذا نجده وحيداً، معزولاً في أماكن غريبة عليه، ومن هنا ابتكر الشيخ صوتاً رامزاً للأخر، حتى يقلل من الإحساس بالعزلة وقسوة المنفى، وابتكر صوت القرين، الذي كان له حضور مبكر، وهو في العمارة، وانه الوجود التخيّلي الجوهري في كشوف هذه السرديات وما تنطوي عليه من مفاتيح حساسة مضيئة لطائفته كلها، وليس وحده. القرين هو الشريك/ والمتماثل/ والمختلف، انه صوت داخلي عميق، يلوذ به الكائن ليخفف ضغط الوحدة، ويجعله مجاوراً. مثلما هو وسيلة للتشارك التخيلي. وظل القرين مجاوراً له وبعض منه عندما كان في العمارة وفي المنافي، ودوره في المنافي حيوي أكثر، لأنه يصير مرآة عن الوحدة "والعزلة، ويضيء حياة الفرد وأزمته الحياتية".
القرين الصاعد دائماً في اليوميات والسيرة. كاشف عن نوع من الاغتراب وضعف التعايش مع المحيط. ومعبر عن أحلام كما في "أمشي على أصابع قدميّ أو ازحف على بطني. كانت تأسرني رائحة الراتنج المنبعثة من قشرة الخشب القريبة. أقف عند باب واسع يكشف عن مكائن حديدية جاثمة على الأرض. نشارة خشب متناثرة، وألواح صقيلة، وأزيز منشار كهربائي تتغير نغمته كلما تعمق في جسد اللوح.
أسمع ثرثرة في النهاية
قلت: أكون نجاراً
قال: لن تكون..
الارتحال عن "اللطلاطة" مغادرة للرحم الأول. والضاغط عليه دوماً، وإن لم يصرح به أحياناً " بيتنا في اللطلاطة لا يشبه بيتا آخر سكنته في حياتي ولا أي بيت دخلته، كما أنه لم يأت في أحلامي حتى هذه الساعة..."
العودة للذاكرة تمثيل للحظات ماضية/ هاربة، لتفاصيل ظلت حية، ضغطت عليه ضمن تسجيلات سيرته الأولى. وأعلن يحيى الشيخ بشكل صريح بأن ذاكرته لا تمنحه ما هو خارق ولا تزوده باكتشافات ما وراء العمر. إلا انه يعترف بان كل ما حفظته الذاكرة، هو تاريخه الفردي والمتشارك مع غيره، لن ينساه ولا يتنكر له. انه عين الماضي المحدقة به الآن يحملها معه كل هذا الزمن الطويل والعميق. ويتلمس أثارها رماداً لا يمسحه عن جبينه "انه مادتي الخام التي أقف بصددها. مشروعي الذي استهلكته في استيعاب الآخرين وفهم العالم".
تبدت السيرة الشخصية في الفصول الأول "في العراء/ القيم/ الخروج"، وفيها تمظهرت عناصر الفنان يحيى الشيخ الثقافية/ الفنية/ السياسية"، والمبنى الفني كاشف لنا عنها بوصفها جزءاً من سيرته "كلاهما المكان والعمر أمسيا حالة واحدة، نسخة سلبية لما كانت عليه. كينونة ماضية. كل ما دونته من يوميات أفكار ورسائل راحت في تصفياتي للمراسم التي هجرتها. أضعافها كانت التخطيطات ومشاريع الرسم والكتب. ثلاثة وعشرون مرسماً في حياتي، كانت مأهولة بكل ما أحب، تركتها ورائي. كنت أنقذ منها ما كنت أعتقده عزيزاً وما يمكنني حمله، واهب للنار وللآخرين ما عداه".
هذه الذاكرة، شحنات سردية، منفتحة على تاريخ طويل، يبدأ منذ لحظة بكرية لم يعشها يحيى الشيخ، كل هذا التاريخ مشارك في تحققات حياته الفنية/ قلت أنني استعدت ما نسيته، أو لم يكن بالأساس في بالي، ولا في الحدود الضيقة لمعرفتي".
"اللطلاطة" مكانه الأول، وذاكرته البكرية، التي تمظهرت بلغة سردية جميلة، فائضة بجمال الاستعادة والتقاط خرزاتها الملضومة بخيط حرير، نسجته مهارة الشيخ. وتبدّت لي "اللطلاطة" والعمارة من الأماكن الفردوسية، لأنهما صاغاً لحظته الأولى الجميلة، الزاهية، والمزدهية بطقوس وتقاليد وسرديات خاصة، اعتقد بأنها من أهم السرديات التي عرفتها الديانات الأولى، واعني بها الديانة المندائية المتفردة، بما جعلها مغايرة عن غيرها، ولا مجال للحديث الموسع عن ذلك الآن، لكن تكفينا الإشارة السريعة للماء في أعياد الصابئة المندائية وطقوسهم، والتباين بين المندائية وغيرها من الديانات، مجاورتها للماء، علاقة تجعل المندائي موجوداً في رحمه الرمزي. منح هذا طقوسهم جمالاً واقتراناً روحياً بالحضور الدائم له، انه النهر الحقيقي والرمزي، الذي ظل يلاحق يحيى الشيخ، وان لم يصرح به مباشرة، خصوصاً بعد مغادرته العراق. لكنه يتبدّى في ممارسات مقترنة بالأنهار، مثل صيد الأسماك، "طفولتي هي ذاتي البدائية، دلالتي ورمزي الوجودي. هي هويتي الاثنية، اسمي المندائي الذي دخلت فيه الى الدنيا، بصرخة عزلاء والذي سأخرج فيه صامتاً.
الإشارة سريعة لمكانه البدئي "اللطلاطة" على الرغم من ارتحالاته التي تجاوزت ثلاثة وعشرين مكاناً، هذا يعني بالعدد ذاته كانت له مروياته وأحلام جديدة، غزت أحلام الأماكن السابقة، وعاشت نوعاً من صراع معها، بحيث تحولت هويته الأولى التي تبلورت في "اللطلاطة" طبقات ثقافية، متراكمة تراتبياً. ومع كل الارتحال، فانه معلق بمكانه الأول، هذا لم يقله يحيى بشكل صريح، بل وظف مقولة ادورد سعيد، لأنها تكفيه كثيراً وتوفر نوعاً من الاختزال والتركيز. وهذا ما منح لغته ليونة ومرونة شعرية "أظن أن الذي يكتب، هذه الساعة. ليس الذي رحل مع أهله، أنما صبي أخر، انه الذي لم يرحل أو ربما، الذي عاد خلسة فيما بعد الى دياره. هنا أدرك مفهوم الرحيل، ولادته الخاصة ، وهكذا افهمه. انه لا يتم في المكان، بل في الزمان.
مثل هذا السرد اللماح يأخذنا نحو ذاكرة من نوع خاص، شكلتها اللحظة البدئية الأولى، وبكارة الحياة والأشياء والعلاقة مع المحيط. هو الذي كان انعكاسه واضحاً في الحديث عن تجربته الفنية الطويلة، المعقدة مثلما أومأ بذلك لنا، فالرحيل المتكرر باستمرار، يقطع مرويات الأنا التي غادرت من الماء الأول/ "اللطلاطة" إلى ماء آخر في ذات النهر، لكن مكانه "العمارة" الذي تشظى إلى واحدة وأربعين مكاناً/ ذاكرة مع سردياتها. يقول لنا يحيى الشيخ المتعايش في المنافي، بعد القطيعة مع السرديات الأولى/ ليست قطيعة الأجداد فقط، بل الإباء والأحفاد، تنوعات هوية ملاحقة ومطرودة دائماً، عن مستقرها. لقد تطشروا وتفكك حلم الماء، لكن صورته زاحفاً، ممتداً في النهر الأول حاضرة، تستدعيها أعياد وطقوس، بمعنى ثبات الذاكرة البدئية، أصل كل السرديات التي ظل بعضها حاضراً، يستيقظ لحظة الحاجة اللاواعية إليه. الرحيل نوع من الطرد وفك الحياة عن أحلامها المكانية "اختزلنا الرحيل إلى درجة الصفر أيضا، لا يشحن الناس أسرارهم، أنهم يبقونها في مكانها".
الزمان الأول قوي الحضور، حتى في الاستعادة عبر رموزه مثل الماء/ والطين ورائحته. والزمان الأول محكوم بعود أبدي، لا تكفيه الطقوس والمزاولات المندائية، بل بقاء الحنين للمكان الأول حاضراً في اللاوعي. والمثال على هذا الحبل السردي هو الأب الذي عاش مسافراً " إذا كانت مصادفات حياتي قد صاغت مني ما أنا عليه الآن، فهل مصادفات أبي تفعل بي هذا؟، هل يبعث الله فينا ما كان في آبائنا؟، مقطع سردي يضيء بلاغة الأصل والحلم، مع الحنين إليه والتوق للعود الأبدي، وكأنه يزاول لحظة دينية مقدسة، ويقول لنا بما خفي وهو حلم العودة للأصل "دفعني أبي عن حياته وغاب عن حياتي... أقام الولائم ودعا الناس على شرفي... سكر وغنى. مات بعدها بستة أشهر، ودفن هناك. في مقبرة عامة، لقد اختار دلمون وطناً أبديا.