ادب وفن

"مرسول"، الجزائري كامل داوود.. غونكور 2015 / غازي أبو عقل *

أَينبغي لي التعريف بمؤلف "مرسول.. تحقيق مضاد" بعد أن أصبح شهيراً؟ فأنا لم أقرأ أياً من نصوصه، وهو المحرر في "يومية وهران" ورئيس تحريرها طوال ثماني سنوات، وعموده فيها يحتل موقع الصدارة بين التعليقات التي يقرؤها الجزائريون.
عرفتُ بعد "غونكور" أنه من مواليد السابع عشر من حزيران 1970 في مستغانم، وأنه كَتبَ القصص القصيرة، وعبرت نصوصه البحر المتوسط إلى أوروبا، فهو يكتب بالفرنسية، كما قرأت أن روايته الفائزة صدرت عن دار برزخ الجزائرية في خريف 2013، ونشرتها بعدئذ دار أكت سود "أعمال الجنوب" الفرنسية في 2014.
عرفت الرواية نجاحاً ملموساً في البلدين، وتوجتْها لجنة جائزة غونكور في أيار 2015.
كتبتُ هذه السطور مفترضاً أن كثيرين مثلي لم يعرفوا الروائي الفائز متوخياً الإيجاز، الذي يضيق به هو نفسه. بدليل أنه كتب:"كنتُ أهرب دائماً من الإيجاز المهين "كالشتيمة". لذلك كنت أفضل الاسترسال في تقديم "المرسول" مما قد يُعَرض الموضوع إلى البقاء في سلة مهملاتٍ ما، لأن الناشر المحتمل على نقيض كامل داوود، يفضّل الإيجاز توأم البلاغة. من عادتي إذا قرأتُ رواية أن أهتم بالتفاصيل لأنها كاشفة لجوانب متنوعة، فيها وفي مؤلفها ورغم ازدحام المرسول بتفاصيل جمة، سأكتفي باثنين.
لعبة الأسماء
يعرف كل من قرأ "غريب" ألبيركامو، اسم مُرسُو الذي أردى "العربي" الذي لا اسم له، على الشاطئ تحت شمس الظهيرة الحارقة. هذا الاسم هو عنوان رواية كامل داوود.
"مُرسو.. تحقيق مضاد" في الجريمة نفسها المرتكبة في عام صدور "الغريب" 1942. "أكتب اسم الفرنسي meursault مُرسُو كما يُلفظ بالفرنسية لا كما قرأته في الاعلام العربي ميرسو. كذلك أكتب اسم الروائي كامل KAMEL كما هو مدون على غلاف الرواية، برغم أنه كُتب في بعض الصحف "كمال" الذي يكتبه الفرنسيون KEMAL". بعد نصف قرن انصرم على رحيل المستوطنين "الروم"، جاء كامل داوود بتحقيقه المضاد، جاعلاً من "العربي" النكرة توأمه وسماه "موسى" وسمَى نفسه "هارون"، أما الفرنسي جوزيف فهو "يوسف" حتماً، أرداه هارون في أواخر الرواية، المؤلفة من خمسة عشر فصلاً قصيراً، دخلتْها في أواخر الفصل الثالث عشر فتاة اُغرم بها هارون فوراً وسماها "مريم".
التقت أليس كابلان الروائي الجزائري في وهران، ونشرت تقريرها عن اللقاء في حزيران2014. قرأتُ فيه "يُرجّع اسمُ موسى صدى جميلاً لاسم مرُسو".. غير أن هارون الرواية في آخر صفحاتها يخاطب الباحث الفرنسي "الافتراضي" المعجب بأدب كامو الذي جاء إلى الجزائر لدراسة بيئة بطله، فصادره داوود ووظفه ليستمع إلى "اعترافات هارون" كل مساء في المشرب "بارتيتانك" الذي لم يغلق أبوابه بعد.
"آه، إليك نكتة أخيرة من إنتاجي.. هل تعرف كيف نلفظ مُرسو بالعربية؟ كلا؟
المرسول، المبعوث أو "الرسول"… نكتة ظريفة أليست كذلك؟
قد لا يؤدي التساؤل عن مغزى زج هذه الأسماء "المقدسة" في الرواية إلى نتيجة، غير أنه تساؤل مشروع حين نعرف أن هارون الرواية، لا يعير المقدس أي اهتمام. أما أنا سأبقى أتساءل بعد أن قرأت "مرسول" عن هذا المغزى، لكي لا أقطع الحبل السري "من السر لا من السرة" الذي كَبّلني إلى هذا التحقيق المضاد.
القصاصتان
تَلهّى قاتل العربي في غريب كامو، بقصاصة جريدة عثر عليها في زنزانته.
أدت هذه القصاصة من صفحة الحوادث التي تضمنت فقرتين عن الجريمة، دوراً مهماً في "التحقيق المضاد"، ذلك أن أم العربي الضحية عثرت هي أيضاً على قصاصة جريدة واحتفظت بها في حرز أمين على صدرها. واستعانت بهذا "الدليل" الذي لا يروي الغليل من أجل تحريض ابنها هارون على العثور على القاتل والثأر لتوأمه.
وكثيراً ما تشهر هذا السلاح السري في وجه هارون في كل مناسبة، طوال صفحات الرواية، حتى أنني تخيلتُ الأم كأنها الجزائر في حرصها على وضع الأمور في نصابها. واكبتْ القصاصة أحداثَ الرواية ببراعة رسمها الروائي، خاصة في الفصل الثالث عشر.
إلى أن يتساءل بعد أن يردي يوسف الفرنسي: "ماذا حل بالقصاصتين؟ أنَى لك أن تعرف، لقد تفتتتا لفرط ما طُويتا ونُشرتا، أو أن أمي انتهت إلى رميهما ربما".
بين "مُرسُو" MEURSAULT كامو، قاتل العربي، النكرة، وبين هارون في مرسول كامل داوود، قاتل الفرنسي "جوزيف"، يسافر القارئ ذهاباً وإياباً بلا ملل.
كان الانطباع الأول الذي تركتْه الرواية بعد قراءتها، أنها لا تستسلم سريعاً إلى القارئ، "فبساطتها" الظاهرة تلوح تحتها ملامحُ أبعد غوراً مما يبدو، لعلها تمتحن مقدرة القارئ المهتم، على سبر السطور وما بينها لاكتشاف تلك الملامح.
من سمات "مكر" التحقيق المضاد، أنه يرغمك على العودة لا إلى غريب كامو، بل إلى أعمال غيرها مما كتبه، لتكتشف مدى تمكن داوود وإعجابه "بنقيضه" في الوقت الذي يفكك نتاجه ويُشرّحه. كما نكتشف موقف داوود من اللغة الفرنسية التي كانت سلاحه المهم من أجل وضع الأمور في نصابها بالمعنى الثقافي، وليس من أجل الثأر من قاتل توأمه بالمعنى المبتذل.
"لم أتعلم القراءة من أجل أن أتكلم كالآخرين، بل من أجل العثور على قاتل، رغم كوني لم أعترف لنفسي بهذه الرغبة بادئ الأمر".
كان يريد تعلم الفرنسية وإتقانها من أجل "المساواة" بمؤلف الغريب الذي قتل توأمه "موسى ولد العساس"، "الحارس، العسس". وها هو يعود إلى مخاطبة الباحث الافتراضي: هل فهمتَ لماذا ضحكتُ لما قرأتُ رواية بطلك؟ أنا كنت أتوقع في هذه القصة العثور على آخر كلمات أخي، على وصف لآخر نسمات حياته، على آخر ردوده في مواجهة القاتل، على أثر منه وعلى وجهه، لكنني لم أقرأ فيها إلا سطرين عن عربي… عادت مفردة عربي خمساً وعشرين مرة من دون أي اسم "…." هكذا وسمتْ تعلمي الفرنسية سمةُ الموت.. نعم قتلتُ يوسف "الفرنسي جوزيف" لأنه كان ينبغي لي أن أوازن عبثية الحال التي نحن فيها.. لم أكن أعرف أن بوسع الجريمة التحول إلى كتاب، والضحية إلى مجرد انعكاس النور الساطع". هذه إشارة إلى الشمس الحادة على الشاطئ التي دفعت مُرسُو في "الغريب" إلى قتل العربي.
يُلح هاجس تجاهل الغريب لا اسم ضحيته فحسب بل وجنسيته، على هارون ليكتب:"لم يتساءل أحد عن جنسية موسى، ذلوا عليه بصفة عربي حتى عند العرب.
قل لي هل العربي جنسية؟ أين يقع هذا البلد الذي يعلنون جميعاً أنه بطنهم وأحشاؤهم، لكنه لا يوجد في مكان". يضيق هارون ذرعاً بتجاهل العربي في غريب كامو، كما يستهجن المعنى غير المحدد الذي يُضفىَ على المفردة نفسها. هل يرضي هذا الكلام "القوميين العرب" على قلتهم اليوم في الجزائر؟ أم يجعلهم ينضمون إلى المتزمتين دينياً المطالبين برأس الروائي. يعرف قارئ "المرسول" أن مَهَمتها الأولى هي وضع أمور غريب كامو في نصابها، لجهة تجاهلها "للعربي" ثم قيام هارون بالثأر لتوأمه وقتل يوسف الرومي، من خلال رؤية ناقدة لمرحلة الاستعمار الاستيطاني طوال نحو ربع قرن قبل الاستقلال، لذلك كان لابد لجزائري ولد في 1970 أن يتابع ما جرى في بلاده بعد رحيل المستوطنين الروم ولما كان هارون المرسول غير ملتزم دينياً، وشرح رأيه بكل صراحة لجليسه الافتراضي في "البار" عده المتزمتون استفزازاً للرأي العام. ومساساً بالمقدس، لذلك تطوع واحد منهم اسمه عبدالفتاح حمداش وأهدر دم الروائي لا دم هارون، لأن ثقافة التسامح في إجازة طويلة جداً. وهكذا ما زجتْ الرواية بين المرحلتين ببراعة وفهم عميق.
ما معنى العَبَث في جزائر الحاضر؟
عُرف أدب كامو الذي نَشر أعماله المهمة من "أسطورة سيزيف" و"الغريب" في 1942 إلى "السقطة" في 1956، بأنه جاء معبراً عن الإحساس بعبثية المصير البشري الناجمة عن صدمة الحرب العالمية الثانية.
نقرأ في المرسول:"كانت البلاد في ذروة الابتهاج بالاستقلال، لكن خوفاً غير واضح المعالم كان متوقعاً، لأن البهيمة التي غذتها سنوات سبع من الحرب رفضَت العودة إلى باطن الأرض".. هذا العَبث المخيم على الرواية جعلته أليس كابلان، الكاتبة التي التقت داوود في وهران كما سبق جعلته سؤالاً: ماذا يعني العبَث في جزائر اليوم؟
هو فرض واجب، لأن لدينا القرآن وخطاب وطني يثقلان كاهلنا. من منطلق العَبث يُبنى معنى ما. بينما الذين ينطلقون من المعنى، أولئك الذين يظنون أنهم يمتلكون الحقيقة، فإنهم ينتهون دائماً في العَبث".
لستُ في وارد "تشريح" المرسول، وبيان ما لها وما عليها، رغم كوني لم أقرأ منذ مدة رواية ممتعة مثلها. أريد اختتام كلامي بجملة "ماثورة" للكاتب الإنكليزي الساخر ج .ك شيسترتون:"تُخبرنا الرواية الجيدة عن حقيقة بطلها، أما الرواية الرديئة فتخبرنا عن حقيقة مؤلفها". أنا عائد إلى المرسول للاستمتاع مجدداً، بعد أن ملأت نفسي "بحقائق" بطلها
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أديب ومترجم سوري