ادب وفن

واقف في الظلام.. وتلك الأيام / جاسم العايف

ينتمي "واقف في الظلام"، كتاب الشاعر "عبد الزهرة زكي" لنزعة سرد التجربة الذاتية، بعد معايشتها ومعاينتها بكل عذاباتها والتباساتها، وخساراتها، ثم فحصها، وتدوين مجرياتها. ورأى "زكي"، بعد سقوط النظام وفي اقتراح للشاعر "علي عبد الأمير عجام" الذي كان يعد تقريراً ثقافياً لجريدة "الحياة" اللندنيّة عن المثقفين العراقيين، ومعاناة من أودعَ منهم في سجون النظام السابق، وامتناع الشاعر "عبد الزهرة زكي"، حينها، عن الخوض فيها، كون أنّ ما جرى له لا يقاس، نهائياً، بما حصل للآخرين، وأنه ينتظر الفرصة واللحظة المناسبة لتناولها، لحظة، التأني المتسمة بالفحص الفكري - الحياتي، بعد انكسار نظام متعسف شمولي قائم على خنق الحريات، حتى في حدِها الأدنى، وإشاعة الخوف في الأرواح، خلال عقود من سنوات الجمر والضيم والعذابات، لتكون شهادة علنية، موثقة عن زمن عايشه بشر، وبَدت، مع رحيل النظام، حاجتهم للتعبير العلني عن معاناتهم بحرية، عبر إعلام مقروء أو مسموع أو مرئي، متطلعين للكثير من "الكلام". ذلك "الكلام" الذي غُيّب خلف موانع وحجب الخوف وكان مطموراً تحت قوة المنع، المتجسدة في القسوة بأعلى بشاعاتها وممارساتها الدائمة. وكان كل من يعيش على هذه الأرض، مشكوكاً فيه وفي ولائه، لنظامٍ ينتزع المعلومات التي يريدها بوسائل قهريةٍ لا مثيل لها عبر تاريخ العراق، ويحولها إلى قرائن ثابتة، خلال عقود دامية- مُذلة، في حياة العراقيين.
إن بين أدب السيرة الذاتية والتاريخ صلة وثيقة، لأنها تُصور مختلف البيآت والمآثر المتسمة بـ "الشخصنة"، ومعها الحياة العينية، ووقائعها وواقعيتها المعززة بالأحلام والرؤى، وكذلك الحالات النفسية. لذا يتميز هذا الجنس بأن مادته التجربة الحياتية المرتبطة بالسيرة الشخصية، فللإنسان عامة، والكاتب سيرته الذاتية وتجربته التي يسرد من خلالها بعض مجريات حياته وتجاربه المتنوعة، وبهذا تُعَرَفْ في قاعدتها الأدبية العامة، بأنها سرد عن مرحلة خاصة في الحياة الشخصية، وقد سردها الشاعر "زكي" بلغة أدبية - ثرة معززة بالوقائع، كاشفاً فيها، عبر قرائن متوالية عدة موقف النظام و أجهزته الأمنية المتعددة التي تضع الإنسان دائماً في موقع المشكوك فيه، لأبسط الأسباب، خاصة في مبنى "الحاكمية" التابع لجهاز "المخابرات العامة"، المغلف بالسرية والكتمان، وما حصل فيه لبشر بعضهم تبخر عن الوجود إلى الأبد، ولازال مجهول المصير. ولم تكن القسوة بحدها الأقصى نتاجاً عرضياً لعقاب، بل كانت تلك القسوة المترافقة بالبشاعة مطلوبةً "سلطوياً" وتصميمها وصورتها وتنفيذها يكمن في توجهات أصحاب القرار، ومَنْ ينوب عنهم، وبما أن الوسائل متوفرة بكثرة، فأشكالها، تتوقف على التفنن في التنفيذ، الذي يؤدي فيه، بعض المنفذين، أحياناً، واجباتهم بتوجهات سرية غير وظيفية، لإبعاد "الشك" عنهم، خشية وشاية ما أو تعاطف مع الضحية، يمكن أن يلتقط عبر "كاميرات" المراقبة السرية، ولا تقتضي هذه القرارات حججاً، وغالباً ما تجد السبيل للتنفيذ مهيّأً، انه ليس غير تهاون ما، والعقاب جاهز قبل التيقن من ذلك "المشكوك فيه"، تحت طائلة الخوف والترقب والعزل عن العالم الخارجي بداية، وكذلك عن عالم "الحاكمية" ذاته تمهيداً لإصابة "الضحية" بالانهيار "النفسي"، ثم استغلال ذلك "الانهيار" في التحقيق، انه أمر وقرار لا تراجع عنهما لأجهزة، تفتش حتى عن الأشباح، لغرض تأكيد ممارستها ووظيفتها كاشفة عن نهجها العام والذي يرى في "كل من يقبع هنا عدوا " طالما لا ينسجم معها وتوجهاتها ويغدو أليفاً طيعاً في حظيرتها.
يهدي الشاعر عبد الزهرة زكي كتابه إلى والده في ذكرى رحيله، والى حفيده، ونرى إنها، رسالة "رمزية" فالإهداء إلى "والده الراحل" بمثابة التعبير عن عذابات أجيال غادرت العالم منطوية على أحلام وآمال لم تتحقق نهائياً، ولم تحصد طوال حياتها غير الترحال الدائم من مدينة لأخرى فلعلها تجد "الراحة" في ذلك الترحال تعويضاً مناسباً في حده الأدنى عبر حياة تعاش مرة واحدة فقط، والإهداء إلى "الحفيد" يمكن أن يفسر بأنه بمثابة أمل في تجاوز ذلك الماضي من أجل عالم عادل تعيش فيه الأجيال القادمة بعيداً عما كان، وأمنية في أن لا يتكرر معها، ومع مَنْ سيولد على هذه الأرض، ما قد حدث مسبقاً، وبذا يكون ما دونه الشاعر عبد الزهرة زكي "شهادة"، للوقوف بوجه النسيان، فالنسيان سيقود لتكرار ما مضى، وربما بقسوة أشد وأفضع، حسب "جورج سانتيانا".
لا يخلو "جحيم الحاكمية" ذاته من بعض ممن، يرى انه لابد من التصرف مع الضحايا بنوع من الأدب والرقة، في حدودهما الدنيا، كما مثال الحارس الشاب وسلوكه، مع حذره وخوفه، ونقيضه المتشدد الذي يعمد دائماً لاستخدام أشد أنواع القهر والتفنن فيه. يعود الشاعر عبد الزهرة زكي" في كتابه ليس لأوراق قديمة، فمن المستحيل مثل هذا، في ذلك الزمان، بل لذاكرة دقيقة حية، وعبرها يستدعي تلك الأيام واللحظات والخوف والفزع والحزن على مصائر بعض الأصدقاء والأسرة وفي الأهم الزوجة التي تكابد سنوات الحصار وأيامه المُرة - السوداء.
ما يحسب للشاعر عبد الزهرة زكي في كتابه التنحي جانباً عن أداء دور "البطل" في غرف التعذيب التي يقاد إليها، وما جرى له فيها بل يتوقف دائماً، عند:"أمرت بالخروج من غرفتي الانفرادية.. تم توثيق يدي إلى الخلف.. ثم وضعوا عصابة كثيفة على عيوني.. ودون كلام تم نقلي، بصمت، إلى غرفة التعذيب"، دون ذكر التفاصيل التي تعرض لها في تلك الغرفة، ويعتبرها شأناً شخصياً، بل يسرد ما يسمع من آخرين لما تعرضوا له في تلك الغرف ومنهم "المصري الفكه، والإيراني، وحيرته كونه لا يجيد التفاهم مع شركاء الغرفة باللغة العربية، والسامرائي الحميم، وطالب الطب البصري - المتفوق- والمنحدر من عائلة "شيوعية" ولا يعرف ومعه أمه، أرملة حروب النظام، طبيعة تهمته، والذي يختفي إلى الأبد، وتلك السيدة الناسكة التي تصر على الصبر وتوصي وتتمسك دائماً، بـ "الأمل" الذي تواجه بها محنتها، وتسعى همساً لتكرار رقم هاتفها دائماً على مسامع "جارها"، عبد الزهرة ذاته، فربما يخرج حياً ويخبر أسرتها، وذلك العقيد الطيار المساهم في حرب تشرين، ولم تشفع له شيخوخته وموقفه السابق كـ "بطل قومي"، في نظام عدَ "فلسطين قضيته المركزية"، والذي يغالب تلك المحنة- الوشاية- بموقف "متزن" عندما يصفه الحارس الفظ بـ "ابن الكلب" فيرد عليه بوضوح:"نعم ابويه"، كرسالة "شفهية" محكمة لابد منها حتى في الجحيم، لا يمكن متابعة، كل ما جاء في "واقف في الظلام" الذي وقع في "328" صفحة، ط1-2015 - الغلاف للفنان "ماجد الماجدي".
لكن لابد من التذكير بشهادة لن تنسى إلى الأبد وتخص عجوزاً، كانت، بعد انتهاء الحرب، تتنقل بعينيها وبقلبها وروحها الشقية المعذبة - اليقظة، طوال سنوات، بين قوائم أجهزة أمن ومخابرات النظام السابق علّها تعرف مصير ولدها الذي غُيِّب عنها منذ مطلع الثمانينيات، ولم تعرف شيئاً عن مصيره ولا حتى جهة اعتقاله، لكنها بعد أكثر من عشرين عاماً، تقف، يائسة - قانطة، على قوائم ورقية باردة، لكنها ساخنة المصائر، تريد من خلال بياناتها أن تطفئ بصيصاً من أمل بقي يراودها سراً، طوال تلك السنوات، عذاباً أكثر منه رجاءً، فجاءت لتتحرّى عن مصير غائِبها، لتطفئ جمرة قلبها، في قوائم المعدومين التي جرى تثبيتها على حائطٍ لمنظمة مدنية، أسست في الأيام الأولى لسقوط النظام، وكانت تُعنى بالسجناء السياسيين ومصائرهم. شيخوخة العجوز وضعف بصرها وأميتّها الأكيدة، أثارت انتباه أحد الباحثين، عن عزيز ما، في تلك الأوراق، وكان يتابع انهماكها وانكبابها، مع ضعف بصرها وأميتها الواضحة، في فحص القوائم والعودة لها أكثر من مرة، وما كان منه إلا أن يسألها عمّا إذا كانت تستطيع الاستدلال بنفسها على اسم "غائِبها" في هذه القوائم الكثيرة- الكثيفة؟. ومن دون أن ترفع عينيها الكليلتين عن تلك القوائم، إجابته باختصارِ مَنْ يريد أن ينهي كلاماً يشغله عن عملٍ ضروري ومصيري ولابد منه، وبلهجة عراقية مُعذبةٍ - حارقةٍ:"يمَّهْ هو ابني، شلون ما أعرف ابني"!
يقرن الشاعر عبد الزهرة زكي كتابه بعنوان تعريفي آخر كونه "كتاب عن الآلام والأحلام" في بلد تتضح الحياة فيه خلال ما جرى له طوال عقود حكم النظام وبعد سقوطه، وما يجري له راهناً، في البعد عن الأحلام الإنسانية البسيطة والمشروعة والمتاحة في أمكنة لا تبدو بعيدة عنه وناسه.